القصاص حياة – الحلقة الأولىٰ

المقدمة

الحمد لله رب العالمين وصلىٰ الله علىٰ محمد وعلىٰ آله الطيبين الطاهرين.

قال تعالىٰ: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: ١٧٩).

إنَّ من ألطاف الله (عزَّ وجلَّ) بعد خلق الخلق هو إرسال الرسل لأجل تبليغ التعاليم والأحكام الربانية، وأعطىٰ الإنسان القدرة لتطبيق تلك الأحكام والتعاليم حتَّىٰ يصل الإنسان إلىٰ أعلىٰ مستويات الرقي الإنساني وفق النهج الذي رسمه المولىٰ تبارك وتعالىٰ لعبده وخير من أدَّىٰ وطبق تلك الأحكام هو النبي (صلىٰ الله عليه وآله) والأئمة الأطهار (عليهم السلام).

إنَّ سبب كتابة هذا البحث هو ابتعاد الناس عن الأحكام الشرعية ومن جملتها الأحكام التي تتعلق (بالقصاص) الذي أتىٰ به الشرع المقدس لتنظيم الحياة الإنسانية وإخراج الناس من الحياة الوحشية البائسة إلىٰ حياة تليق بالنوع الإنسان مليئة بالأمن والسلام.

إنَّ هذا الابتعاد أدَّىٰ إلىٰ رجوع الناس إلىٰ أحكام الجاهلية بمنهج القوي يأكل الضعيف والتهجير القسري وما إلىٰ ذلك بدافع الانتقام.

منهجة البحث في عدَّة نقاط:

الأولىٰ: تمهيد.

الثانية: سبب النزول.

الثالثة: معنىٰ القصاص.

الرابعة: علىٰ من يثبت القصاص.

الخامسة: لمن يثبت حق القصاص.

السادسة: الثمرة.

تمهيد:

قالت العرب: (القتل أنفىٰ للقتل)، استعمال هكذا ألفاظ غير مرغوب فيها وتثير حفيظة الإنسان السوي، لذا نرىٰ مع وجود هكذا مقولة قد بلغت حد الاستهزاء بالنفس الإنسانية لم تتمكن من الصمود أمام الحالة الهمجية في ذلك الوقت، لذا الآية الكريمة استعملت كلمات في غاية الرقي فبدل (القتل أنفىٰ للقتل) قالت: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ﴾.

وقد أشار الشيخ الطوسي إلىٰ هذه المقارنة:

(وهذه أخصر كلمة وأعم فايدة، لأنَّ معناها إذا علم القاتل أنَّه إذا قَتَل قُتِل كفَّ عن القتل، فلم يَقتُل فلا يُقتل، فصار حياة للجميع، وهو أخصر من قول العرب القتل أنفىٰ للقتل، لأنَّ قولهم أربعة عشر حرفاً وكلمة القرآن عشرة أحرف)(1).

إنَّ القراءة السطحية للآية الكريمة ربما يتبادر منها لذهن القارئ سؤال حاصله كيف يكون القصاص حياة للناس بتعبير آخر كيف يكون القتل سبباً في حياة الناس، أليس هذا غريباً؟

ولكن عند التدقيق في كلمات الآية نجد أنَّها خاطبت أهل العقول بعبارة: ﴿أُولِي الْأَلْبابِ﴾.

والألباب جمع لب واللب العقل.

وخص الله تعالىٰ ذكره بالخطاب أهلَ العقول لأنَّهم هم الذين يعقلون عن الله أمره ونهيه، ويتدبّرون آياته وحججه دونَ غيرهم.

وعليه يجب أن لا تكون قراءة الآية سطحية لأنَّه لا يتناسب مع أهل العقل.

وعلينا أن نلحظ النقاط التالية:

النقطة الأولىٰ: سبب نزول هذه الآية:

ذكر في سبب نزول الآية الكريمة أنَّ القبائل العربية شاع بينها انتقام قبيلة من قبيلة أُخرىٰ، ولم يكن لهذا الانتقام حدود، فقد يقتل رجل فتهدَّد قبيلته بقتل كل رجالها، فنزلت الآية وشرَّعت حكم القصاص.

فنرىٰ الآية نزلت لأجل علاج ظاهرة خطيرة جدّاً وهي الاقتتال الوحشي الهمجي بين الناس، فهي عالجت أمراً يتنافىٰ مع استقرار الحياة التي ينادي بها كل ذي فطرة سليمة.

ومن العجيب قول البعض إنَّ الآية الكريمة عالجت حالة في بداية الدعوة الإسلامية فلا حاجة لها الآن في تطبيق حكمها، لأنّا نقول إنَّ المورد لا يخصص الوارد أي أنَّ الآية الكريمة وإن نزلت لسبب خاص، ولكن أسباب النزول ليست في حقيقتها وواقعها سوىٰ مناسبات استدعت نزول الآية في وقتٍ ما وظرفٍ خاص، وفي الغالب فإنَّ الآيات النازلة في مناسبات خاصة كانت تؤسس لقاعدة عامة أو لحكم كلّي أو تبيّن حقيقة علمية، وهذا يعني أنَّ النازل من القرآن في تلك المناسبات لا يختص بذلك المورد أو تلك المناسبة، وعليه فإنَّ شأن النزول لا يلعب دوراً في تخصيص ما نزل عاماً, وتقييد ما نزل مطلقاً.

فالقرآن الكريم وإن نزل في زمان محدَّد لكن الخطاب القرآني لا يختص بجيل النزول، وهو يخاطب البشرية عامة والأجيال كلها.

وهذه النظرية مهمة جدّاً حيث فإنَّنا نحتاج إلىٰ هذا الحكم الذي بيَّنته الآية الكريمة لأنَّ الواقع الذي يعيشه العالم الآن إلىٰ هذه اللحظة يعيش النزعة القبلية بشكل لا يتناسب مع العيش الكريم, فإذا قتل شخص من قبيلة ما، انتفضت قبيلة المقتول تطالب بأكثر مما تستحق، مثل (قتل أكثر من فرد وتهجير العوائل – ما يسمىٰ بالجلية – حتَّىٰ إذا لم تكن لها صلة بالقاتل, بل تصل الأمور إلىٰ حرق البيوت وغيرها من الأعمال التي لا تتناسب مع الوعي الإنساني)، كل هذا بسبب الابتعاد عن الآيات التي شرَّعت لنا أحكاماً لاستقامة الحياة الإنسانية، والجدير بالذكر أنَّ هناك روايات تشير إلىٰ أنَّ من قتل غير القاتل فهو أعتىٰ الناس علىٰ الله (عزَّ وجلَّ)، كما في رواية الحلبي، مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنِ الْحَلَبِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): إِنَّ أَعْتَىٰ النَّاسِ عَلَىٰ اللهِ (عَزَّ وجَلَّ) مَنْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ ومَنْ ضَرَبَ مَنْ لَمْ يَضْرِبْهُ»(2).

النقطة الثانية: ما معنىٰ القصاص؟

القصاص في اللغة مأخوذ من قص الأثر وهو اتِّباعه، ومنه القاص.

وأمّا في الاصطلاح الفقهي هو معاقبة الجاني , مثل جنايته علىٰ أرواح الناس أو عضو من أعضائهم ويسمىٰ القصاص قود، لأنَّهم يقودون الجاني إلىٰ مكان القصاص بحبل ونحوه، وهو القتل بالسيف أو بغيره من دون عذاب، ولا تمثيل وإن فعله القاتل، كما قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عندما ضربه ابن ملجم اللعين لابنه الحسن (عليه السلام): «فإن هلكتُ من ضربتي هذه فاضربه ضربة ولا تمثِّل به»، كما نقل هذا المعنىٰ في روايات الفريقين(3).

النقطة الثالثة: علىٰ من يثبت القصاص:

القتل علىٰ ثلاثة أقسام:

– قتل الخطأ.

– وشبه الخطأ.

– وقتل العمد.

ومن غير المعقول أنَّ الآية الكريمة تريد أن تثبت القصاص علىٰ الأقسام الثلاثة، لذا الشارع المقدس أثبت الدية للأول والثاني دون الثالث وفي العمد قال: يقتص مِن القاتل وهو في نار جهنم، كما أشارت إليه رواية محمد بن مسلم، في تفسير قوله تعالىٰ:

﴿مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً﴾ (المائدة: ٣٢).

مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ جَمِيعاً، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَىٰ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اللهِ (عَزَّ وجَلَّ): ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً﴾، قَالَ: «لَهُ فِي النَّارِ مَقْعَدٌ لَوْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً لَمْ يَرِدْ إِلَّا ذَلِكَ المقْعَدَ»(4).

النقطة الرابعة: لمن يثبت حق القصاص:

بما أنَّ المشرِّع حكيم فقد أثبت حقّاً لأولياء المقتول وقد حماهم من تبعات تنفيذ القصاص وبيَّن أنَّهم منصورون كما أشارت إليه رواية إسحاق بن عمار، مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عَمِيرَةَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فِي حَدِيثٍ قَالَ: قُلْتُ: مَا مَعْنَىٰ قَوْلِهِ تَعَالَىٰ: ﴿إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً﴾ [الإسراء: 33]، قَالَ: «وأَيُّ نُصْرَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُدْفَعَ الْقَاتِلُ إلىٰ أَوْلِيَاءِ المقْتُولِ فَيَقْتُلُنَّهُ [فيقتله] ولَا تَبِعَةَ تَلْزَمُهُ مِنْ قَتْلِهِ فِي دِينٍ ولَا دُنْيَا»(5).

ولكن لابد لأولياء المقتول من الرجوع إلىٰ الحاكم الشرعي لأجل تنفيذ القصاص.

لأنَّه من المسائل القضائية وفي ثبوت أحكام القضاء تحتاج إلىٰ مختص بها، فلابد لأولياء المقتول من مراجعة الحاكم الشرعي في ذلك، لأنَّ ثبوته علىٰ الجاني يحتاج إلىٰ من يتَّخذ القرار الصائب لأجل التنفيذ، فإذا ترك الأمر إلىٰ ولي المقتول قد يقتل الجاني وهو غير مستحق، كأن يكون القتل خطأ أو شبه خطأ.

النقطة الخامسة: الثمرة من تشريع القصاص:

الأولىٰ: إدامة حياة إنسانية خالية من الرعب والإرهاب الهمجي.

الثانية: نصرة المظلوم كما أشارت إليه الآية والرواية أعلاه.

الثالثة: عدم ضياع حق أولياء الدم وإبعاد الناس عن الثارات القبلية.

الخاتمة:

هذه الآية، تضع الإطار العام – ببلاغة وفصاحة متناهيتين – للقصاص في الإسلام، وتبيِّن أنَّ القصاص ليس انتقاماً، بل هو السبيل لضمان حياة النّاس وإنَّه يضمن حياة المجتمع، إذ لو انعدم حكم القصاص، وتشجّع القتلة القساة علىٰ تعريض أرواح الناس للخطر – كما هو الحال في البلدان التي ألغت حكم القصاص – لارتفعت إحصائيات القتل والجريمة بسرعة، نعم في زماننا الحالي حتَّىٰ مع ثبوت حق القصاص إلىٰ أولياء الدم لابد من مراجعة الحاكم الشرعي فيه حتَّىٰ لا يستلزم الهرج والمرج بين أفراد المجتمع الإنساني.

إن شاء الله في الحلقة القادمة سوف نتطرق إلىٰ:

١ – هل يجوز لغير المجتهد التصدي للقضاء؟

٢ – هل يجوز الترافع إلىٰ المحاكم المدنية المتعارفة في زماننا الحالي؟

٣ – الأحكام الصادرة من المحاكم كالإعدام هل يصدق عليه قصاص؟

٤ – إذا عفا أولياء الدم سواء أخذوا الدية أم لا هل يسقط حكم القصاص؟

٥ – إذا مثّل بالجاني بعد القصاص منه ماذا يترتَّب من حكم؟

والحمد لله رب العالمين

الهوامش:


(1) المبسوط – الشيخ الطوسي: ج٧، ص٤.

(2) الوسائل: ج29، كتاب القصاص، الباب 4، ح1.

(3) مقتل الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) – ابن أبي الدنيا: ص84؛ تاريخ الطبري – محمد بن جرير الطبري: ج٤، ص ١١٤.

(4) الوسائل: ج29، كتاب القصاص، الباب 1، ح1.

(5) الوسائل: ج29، كتاب القصاص، باب 66، ح1.

Scroll to Top