الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام علىٰ أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين، وبعد..
المقدمة
لا يخفىٰ علىٰ أحد أنَّ طريقة نقل المعاني أو الأفكار لها قدر من الأهمية بمكان تساوي المطلوب إيقاعه في قلب المتلقي فلا معنىٰ يستقر في الذهن بغير وسيلة تقربه وتيسر الوقوف عليه.
ومن هنا كان القرآن الكريم مستعملاً لوسائل تعليمية متنوعة لكي يقرب ويثبت المعاني الإلهية من أوامر ونواهٍ ووصايا، وتنظر إلىٰ الإنسان بمختلف مشاربهم ومستوياتهم، وفهم الناس لها أساس عملهم بها، فلذا أنَّ الوسيلة تجعل المتعلم في موقف إيجابي متفاعل فهي تنقله من إنسان سلبي جامد إلىٰ أوسع مستويات التفاعل المثمر مع الآيات التربوية والمعرفية.
وامتداداً للقرآن الكريم في استعمال الوسائل للتعليم والإفهام، كانت أحاديث النبي الكريم (صلىٰ الله عليه وآله) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) تحمل كذلك أنواعاً من تلك الوسائل.
وما بين يديك هو جزء من بحثنا الموسوم بـ(الوسائل التعليمية في القرآن الكريم) قد صُنف ونُظم بطريقة عرض للأفكار بشكل من الحداثة وهو بحث لو أُخذ به في التعليم المدرسي سنشهد منحاً آخراً يستلهم من القرآن الكريم وسائله التعليمية ليسمو إلىٰ أرقىٰ مراتب التعليم وأنجاها.
منهجة البحث:
وسنتناول في هذا البحث مطالب ونقاط وخاتمة فيها أهم ما توصل إليه البحث من نتائج وتوصيات:
البحث: وفيه مطالب
المطلب الأول: تعريف الوسيلة لغة واصطلاحاً.
المطلب الثاني: الوسائل الفكرية في التعليم القرآني وذكر فيه أربعة وسائل:
1 – وسيلة المثل القرآني.
2 – وسيلة القصة القرآنية.
3 – وسيلة المقارنة القرآنية.
4 – وسيلة التمثيل (التصويري) القرآني.
5 – خاتمة بالنتائج والتوصيات.
المطلب الأول: معنىٰ الوسيلة
ولابد بشيءٍ من البيان في معنىٰ الوسيلة واختلافها عن الأسلوب ولها معنيان:
لغوي واصطلاحي:
أمّا في اللغة: (الوسيلة: ما يتقرب به إلىٰ الغير، والجمع الوسيل والوسائل، والتوسيل والتوسل واحد، يقال: وسل فلان إلىٰ ربه وسيلة، وتوسل إليه بوسيلة، أي تقرب إليه بعمل)(1).
وفي معجم مقاييس اللغة: (الوسيلة: الوصلة والقربىٰ، وجمعها الوسائل، قال الله تعالىٰ: ﴿أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾ [الإسراء: ٥٧])(2).
الجوهري: (الوسيلة ما يتقرَّب به إلىٰ الغير، والجمع الوسل والوسائل)(3).
(وسل – لي إليه وسيلة ووسائل، وأنا متوسل إليه بكذا وأوسل، ووسلت وتوسلت إلىٰ الله بالعمل: تقربت)(4).
أمّا في الاصطلاح: (وسل: الوسيلة التوصل إلىٰ الشيء برغبة وهي أخص من الوصيلة لتضمنها لمعنىٰ الرغبة، قال تعالىٰ: ﴿وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ [المائدة: ٣٥]، وحقيقة الوسيلة إلىٰ الله تعالىٰ مراعاة سبيله بالعلم والعبادة وتحري مكارم الشريعة وهي كالقربة، والواسل الراغب إلىٰ الله تعالىٰ)(5).
وهذا يعطي سبب التسمية للبحث بالوسائل التعليمية في القرآن الكريم حيث إن (الأسلوب: الوجه والمذهب. يقال: هم في أسلوب سوء. ويجمع علىٰ أساليب.
وقد سلك أسلوبه: طريقته، وكلامه علىٰ أساليب حسنة)(6).
والبحث يخوض في تعداد وبيان تلك الطرق الموصلة لتقريب المعاني القرآنية إلىٰ أذهان الناس، ولا يتعلَّق البحث بإيضاح فنون القرآن وأساليبه الكلامية والأدبية وغير ذلك.
المطلب الثاني: الوسائل الفكرية في التعليم القرآني
نقل المعاني إلىٰ الآخرين لا يحتاج بالضرورة إلىٰ أشغال للحواس بصورة مباشرة، فمجرد السماع لخبر أحياناً أو للتمييز بين طرفين مختلفين لا يستدعي إلَّا فكراً نيِّراً يستلهم العبر ويدرك المطلوب.
وعلىٰ أساس ذلك كانت هناك وسائل متعددة في القرآن استعملت الفكر أساساً دون غيره في إدراك المعاني والوقوف علىٰ المطلوب القرآني، وإن كان ذلك الفكر قد رافقه لإتمام وصل تلك المعاني استعمالاً لحاسة السمع مثلاً أو غيرها من الحواس، ولكنه استعمالٌ لا علىٰ نحو الجزء المهم والفعلي لإنجاز المطلوب القرآني بل يكون عاملاً مساعداً ثانوياً.
تصنيف الوسائل في القرآن:
وبذلك يمكننا تصنيف الوسائل في القرآن الكريم اعتماداً علىٰ الفكر إلىٰ أربع وسائل هي:
أولاً: وسيلة المثل القرآني
استعمل القرآن الكريم الأمثال كثيراً (وأن أمثال القرآن لا يعقلها إلّا العالمون وأنَّها تشبيه شيء بشيء في حكمة وتقريب المعقول من المحسوس أو أحد المحسوسين من الآخر واعتبار أحدهما بالآخر)، كقوله تعالىٰ: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِـرُونَ﴾ (البقرة: ١٧)(7).
فدورها مهم في توضيح المعاني وتثبيتها لدىٰ السامع، فقد أوردها الله تعالىٰ كثيراً، تقريباً وتبيّناً للمعاني التي أرادها في كتابة المجيد.
وليس بالجديد علىٰ العرب إيرادها، بل جرت عادتهم علىٰ التمثيل لاختصار الكلام وصولاً إلىٰ مراداتهم من المعاني، إذ المثل يقصر الكلام ويوضح المرام.
وعليه: (فإنَّ الأمثال تصور المعاني بصورة الأشخاص… وتأتي أمثال القرآن مشتملة علىٰ بيان تفاوت الأجر وعلىٰ المدح والذم [… إلخ] قال تعالىٰ: ﴿وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ﴾ [إبراهيم: ٤٥] فامتن علينا بذلك لما تضمنته من الفوائد)(8).
وبهذا فإنَّ القرآن الكريم استعمل وسيلة المثل كوسيلة تعليمية يقرب بها تلك المعاني إلىٰ الأذهان ولعلها هي الوسيلة الأكثر استخداماً في القرآن الكريم من غيرها مما سيأتي علينا بيانه من الوسائل.
ومن أهداف الأمثال القرآنية لإيراد المثل بكثرة في القرآن الكريم، إذ هناك غايات تعليمية جعلت من المثل مفتاحاً لتنوير العقل البشري بتلك المعاني الإلهية فقوله تعالىٰ: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْـرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرضِ كَذلِكَ يَضْـرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ﴾ (الرعد: ١٧)، فذهن السامع يتصوّر حال الحق والباطل فالباقي منهما النافع للناس والذي تدوم الحياة وتزدهر به إلَّا وهو الحق.
وأورد الله تعالىٰ الأمثال لتقويم العقول وتصحيح ما سقم من تلك الأفكار المريضة، فقال سبحانه وتعالىٰ: ﴿… لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذىٰ كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلىٰ شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ﴾ (البقرة: ٢٦٤)، فهذا حال المنافق والمنان قد جعلوا ثواب أعمالهما كأنَّها ذلك الصفوان الذي أزال المطر ما عليه من تراب فلا يستطيع أحد رده(9).
(إنَّ دور المثال في توضيح وتفسير الغايات له أهمية كبيرة غير قابلة للإنكار، ولهذا السبب لا يوجد أي علم يستغني عن ذكر المثال لإثبات وتوضيح الحقائق وتقريب معناها إلىٰ الأذهان، وتارة ينطبق المثال مع المقصود بشكل يجعل المعاني الصعبة تتنزل من السماء إلىٰ الأرض وتكون مفهومة للجميع)(10).
ومما أورده القرآن كوسيلة تقرب المعاني وترسخها في الأذهان ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [الجمعة: ٥] وهم اليهود الذين أنزل الله تعالىٰ التوراة علىٰ رسولهم موسىٰ (عليه السلام) فعلَّمهم ما فيها من المعارف والشرائع فتركوها ولم يعملوا بها فمثلهم كالحمار يحمل أسفاراً وهو لا يعي ما فيها من المعارف والحقائق فلا يبقىٰ له من حملها إلَّا التعب بتحمل ثقلها)(11).
(والأمثال قديمة ومعروفة عند العرب وكلمات الفصحاء والفلاسفة العلمية والعملية مشحونة بالأمثال، ولها من الفوائد والآثار الكبيرة في تنشيط الذهن وتوضيح المراد وتأكيد المطلوب والترغيب، والتحريض والإنذار والتخويف والتذكير ما هو معلوم في المحاورات، وقد كثرت الأمثال في القرآن الكريم قال تعالىٰ: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْـرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الحشر: ٢١])(12).
الملخص: استعمل العرب المثل كثيراً في كلامهم واتَّخذ القرآن منه وسيلة لترسيخ المعنىٰ، وصارت بعض أمثال القرآن أمثالاً يردِّدها الناس في موارد حكمتها ومعناها ويحتجون بها فيما بينهم.
ثانياً: وسيلة القصة القرآنية
تقبل الحكم الرباني وحكمة الله فيه والاعتقاد بصدق الأنبياء (عليهم السلام) ورسالاتهم، يتجلّىٰ بأوثق معانيه من خلال القصة القرآنية، فهي إحدىٰ أهم وسائل التعليم القرآني التي فيها البيان الصريح للقضايا وموثقة للأحكام والمعارف ومشيرة إلىٰ مساوئ من ساءوا وأحداث من مضوا وتبياناً لأسباب أمور يبقىٰ الشك فيها قائماً حتَّىٰ يكتمل المشهد وتتَّضح الآراء، القصص القرآني شرح من دون إطناب وتأكيد من غير شك، هذا حال من سبقوك أيها الإنسان فاتَّعظ منهم واعتبر، فما وقع أمس لا محال واقع اليوم.
فكان عرض القصص تحقيقاً لحكمة الله سبحانه وتعالىٰ، ولعل سائل يسأل ما أغراض القصة القرآنية؟ وجوابه هي جزء من منظومة أساليب التربية والتعليم القرآنية لهداية البشرية وموعظتهم ﴿لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرىٰ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىٰ وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (يوسف: ١١١).
قال تعالىٰ: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (هود: ١٢٠) فأشارت الآية المباركة أنَّ كل القصص نقص عليك تفصيلاً أو إجمالاً فقصصنا عليك أنباء الرسل لنثبت به فؤادك ونربط جأشك فيما أنت عليه من سلوك سبيل الدعوة إلىٰ الحق ومجيء الحق فيها هو ما بين الله تعالىٰ في ضمن القصص وقبلها وبعدها من حقائق المعارف في المبدأ والمعاد وسنته تعالىٰ الجارية في خلقه بإرسال الرسل ونشر الدعوة ثم إسعاد المؤمنين في الدنيا بالنجاة، وفي الآخرة بالجنة، وأشقاء الظالمين بالأخذ في الدنيا والعذاب الخالد في الآخرة.
وكان من القصص ما هو طويل وقصير قد أورده الباري (عزَّ وجلَّ) حسب مقتضيات الحكمة الإلهية من مصالح العباد، وقد قرّب الله تعالىٰ للناس المعاني ولفت أنظارهم إلىٰ ما يريد سبحانه وتعالىٰ بطريقة مشوقه جميلة صورت لهم أحداث قد وقعت، كان فيها ربط بالذي يريده تعالىٰ ليثبت مبتغاه في عقولهم، كقوله تعالىٰ: ﴿إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسىٰ فَبَغىٰ عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾ [القصص: ٧٦] فالمال وكثرته لا جدوىٰ منها إلَّا باتِّباع الرسل والإيمان بالله فمن يظن أنَّ مالاً سينفعه أو يحجبه عن العقاب فليتَّخذ من قارون عبرة، وليرجع إلىٰ رشده ولا يفرح بزينة الدنيا الزائلة مهما زادت ونمت.
فكل قصة أو حادثة يسوقها الله تعالىٰ لعباده إلَّا كان فيها عظة وتنبيه، فهذا نبي الله نوح (عليه السلام) كيف كذبه قومه ورموه بالجنون فدعا عليهم ربه فانتصر الله له فأهلك المكذبين والكافرين، بِذُل الطوفان عقاباً لسوء أعمالهم فقال تعالىٰ: ﴿فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِـرْ * فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَىٰ الْماءُ عَلىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْناهُ عَلىٰ ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ﴾ (القمر: ١٠-١٣)، فكانت تلك الواقعة وسيلة زجر وردع ﴿وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ (القمر: ١٥) وستبقىٰ مدىٰ الدهر علامة يتَّعظ بها الناس ويحسنون أعمالهم.
الملخص: للقصة تشويق يجعل الحكمة من سردها يجذب الناس فيتصورون أحداثها ويتذكرون مواقفها، والقرآن يعرض القصة كجزئيات لمواطن الحكمة والغاية، فهو ليس كتاب قصص.
ثالثاً: وسيلة المقارنة القرآنية
لكي يُقرّب الله تعالىٰ للناس بعض المعاني والقضايا في كتابه العزيز استعمل لذلك وسيلة المقارنة، فإن أراد سبحانه وتعالىٰ وصف شيء عرّف به وأتىٰ أحياناً بآخر كان مشابهاً من أحوال الأول أو في قباله – كشرحك لابنك آثار المرض وألمه حتَّىٰ يدرك نعمة الصحة – فبذلك يرسخ مفهوم ما قصد تبيانه وتعريفه للناس.
وفي القرآن الكريم جملة كبيرة من هذا النوع فوصف الجنة مثلاً غالباً ما يرافقه وصف النار، وذكر أحوال المؤمنين يكون بمعية ذكر المشركين وأحوالهم، وبيان الالتحاق بركب النبي الأكرم (صلىٰ الله عليه وآله) السالك لطريق الهداية والفلاح وصولاً إلىٰ الجنان ورضا الرحمن يكون عادة بإيضاح كيف يهدي الشيطان أصحابه إلىٰ الخسران فيسلك بهم إلىٰ النار وسخط الجبار.
قال تعالىٰ: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ (ص: ٢٨)، (فالذين آمنوا وعملوا الصالحات وهم المتقون الكاملون من الإنسان والمفسدون في الأرض بفساد اعتقادهم وعملهم وهم الفجار هم الناقصون الخاسرون في إنسانيتهم… وإن شئت فقل: تسوية بين الفريقين وإلغاء ما يقتضيه صلاح هذا وفساد ذلك خلاف عدله تعالىٰ، والآية – أعلاه – لا تنفي استواء حال المؤمن والكافر وإنما قرَّرت المقابلة بين من آمن وعمل صالحاً وبين من لم يكن كذلك، سواء كان غير مؤمن أو مؤمناً غير صالح ولذا أتت بالمقابلة، ثانياً بين المتقين والفجار)، فسياق الآية متوجه لتنبيه الكفار بأنهم ليسوا سواء المؤمنين لا في الدنيا وفي الآخرة، بل إنَّ مقام المؤمنون فوق مقام الكافرين منزلة، فهل من الممكن جعل من عمل صالحاً وآمن كمن كان عاصياً ومفسد؟ كلا لا نجعل المؤمن كالفاسد.
وقد قارن الله تعالىٰ بين الراسخ والمنهار، فريق أصحاب التقوىٰ وفريق أصحاب الظلم فقال تعالىٰ: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلىٰ تَقْوىٰ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلىٰ شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (التوبة: ١٠٩).
فأحدهم ثابت راسخ والآخر هاوٍ منهار، فالذي أسس بنيانه علىٰ تقوىٰ الله وإحراز رضاه سبحانه وتعالىٰ في كل أعماله أهوىٰ أم من كان أساسه النفاق وسخط الله تعالىٰ؟ فلا يستوي عمل المؤمن وعمل المنافق، فالمتقي عمله راسخ أمّا المنافق فعمله هاوٍ منهار في النار.
وقد اتَّخذ الله تعالىٰ مقايسة بين أثر الولاية للمؤمنين وكيف تدخلهم الجنة وعدم الولاية للكافرين فحيث مقرهم النار إذ قال تعالىٰ: ﴿إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىٰ لَهُمْ﴾ (محمد: ١٢)، فهنا (مقايسة بين الفريقين وبيان أثر ولاية الله للمؤمنين وعدم ولايته للكفار من حيث العاقبة والآخرة وهي أن المؤمنين يدخلون الجنة والكفار يقيمون في النار… فأشار إلىٰ صفة المؤمنين بقوله تعالىٰ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ﴾ (وإلىٰ صفة الكفار بقوله: ﴿يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ﴾ فأفاد الوصفان بما بينهما من المقابلة أنَّ المؤمنين راشدون في حياتهم الدنيا مصيبون للحق… وأمّا الكفار فلا عناية لهم بإصابة الحق ولا تعلق لقلوبهم بوظائف الإنسانية…فهؤلاء أي المؤمنون تحت ولاية الله حيث يسلكون مسلكاً يريده منهم ربهم ويهديهم إليه ولذلك يدخلهم في الآخرة جنات تجري من تحتها الأنهار، وأولئك أي الكفار ما لهم من ولي وإنما وكَّلوا إلىٰ أنفسهم ولذلك كان مثواهم ومقامهم النار).
فالقرآن الكريم قد استعمل وسيلة المقارنة بكثرة لما لها من أثر في نفس المتلقي، فالإنسان بها سيقف علىٰ الفكرة التامة والمعنىٰ الواضح لطرفي المقارنة أو المقايسة.
الملخص: فقول مؤمن آل فرعون: ﴿يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ﴾ (غافر: ٣٩) عرفنا به أنَّ الدنيا متاعها قليل، وهو محتاج لترسيخ وإثبات لنبذ الدنيا فكان سياق الآية: ﴿وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ﴾ (غافر: ٣٩) فكمل المشهد وتوثقت الغاية بالسعي للآخرة، فهكذا هي وسيلة المقارنة إثبات للمعنىٰ وترسيخ للحكمة والغاية.
رابعاً: وسيلة التمثيل (التصويري) القرآني
سعىٰ القرآن الكريم في كل آياته الشريفة إلىٰ هداية البشر وتعليمهم حتَّىٰ تكون تلك المعاني الإلهية راسخة في أذهان الناس، فلا سرد نراه في الكتاب العزيز ولا غموض في آياته إلّا قسم من تلك المعاني التي جعلها الله مختصة بالراسخين في العلم لميزتهم عن غيرهم، وإلَّا فالقرآن الكريم كتاب هداية لعامة البشر ينهلون منه مختلف المعارف والأحكام والقوانين ليصلحوا به حياتهم ولتكون الجنان مقرهم يوم القيامة.
ومن تلك الوسائل التعليمية التي اتَّخذها الله تعالىٰ ليقرب بها مطالب القرآن الكريم كانت الوسيلة التصويرية، فالله تعالىٰ في عدَّة من آياته الشريفة بيَّن فيها حالة ما من الحالات الإنسانية أو موقف ما، فيصوره بطريقة ترسم تلك المعاني في مخيلة الإنسان فكأنه يرىٰ ذلك المشهد الذي يعرضه الله تعالىٰ في الآية الشريفة.
ومن تلك الآيات قوله تعالىٰ: ﴿وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّـرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلىٰ ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْـرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (يونس: ١٢).
فالإنسان غير المتأدب بالأدب الإلهي تراه كثيراً ما يناقض نفسه فيستعجل الشرّ وإذا مسّه مجرّد أمساس عجَّل بدعوة الله لكشف ما به من ضر سواء كان نائماً أو مضطجعاً أو في حال قيامه، فإذا أزال الله عنه ضره عاد لطريقه السابق من دون تغيير إلىٰ طريق الدين والحق فكأنَّه لم يدعو الله ولا يتوقف لشكره تعالىٰ والاعتبار مما وقع عليه، وفي تفسير الصافي إذا مس الإنسان الضر دعانا لدفعه مخلصاً فيه لجنبه أي مضطجعاً أو قاعداً أو قائماً يعني أنَّه لا يزال داعياً في جميع حالاته لا يفتر حتَّىٰ يزول عنه الضر فلما كشفنا عنه ضره مرَّ علىٰ طريقته الأولىٰ قبل أن مسّه الضرّ أو عن موقف الدعاء والتضرّع لا يرجع إليه كأن لم يدعنا.
ومثل الله تعالىٰ بأمر آخر صَوَرَ فيه مكر الذين كذبوا بأنبيائهم كيف عاملهم الله علىٰ مكرهم هذا، إذ قال تعالىٰ: ﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَىٰ اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ﴾ (النحل: ٢٦) (هذا تمثيل لاستيصالهم بمكرهم والمعنىٰ أنَّهم صنعوا منصوبات ليمكروا الله بها، فجعل الله هلاكهم في تلك المنصوبات كحال قوم بنوا بنياناً وعمدوه بالأساطين، فأتىٰ البنيان من جهة الأساطين فبان ضعفها فسقط عليهم السقف وهلكوا ومن أمثالهم من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً والمراد بإتيان الله إتيان أمره من القواعد أي من الجهة القواعد ولهم العذاب من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون ولا يتوقعون)، فهذا تمثيل لحال الكفار الذين يقتلون الأنبياء (عليهم السلام) يريدون بمكرهم أن يخمدوا صوت الحق، فيظنوا بفعلهم هذا أنَّهم قد استحكم مكرهم فيستريحون تحت ظله، فدبر سبحانه ما يهدم مكرهم من أصله فينكشفوا للجميع بصورتهم البشعة(13)، ويعرفوا علىٰ حقيقتهم التي قد يريدون إخفاءها أو تزيين أعمالهم، فلا يكون جزاء فعلتهم وصدهم للنبيين إلَّا الخزي والعذاب.
فكانت هذه الوسيلة ترسِّخ في الذهن البشري المعاني القرآنية بطريقة تمثيل المواقف أو الأفكار بصور توضيح المغزىٰ الإلهي وترشد إلىٰ الحقائق والرؤىٰ القرآنية من دون عناء في التلقي والإدراك.
الملخص: بعض المعاني لا يسهل توثيقها في الذهن، فكان من وسيلة التمثيل (التصويري) إخراج المعنىٰ بصورة مشهد يقرب المعنىٰ من الذهن، فانظر لقوة إثبات تأييد الله تعالىٰ لنبيه الكريم (صلىٰ الله عليه وآله) في قوله تعالىٰ: ﴿مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَىٰ السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ﴾ (الحج: ١٥).
خاتمة بالنتائج والتوصيات:
وهناك عدة توصيات ونتائج وصلنا إليها:
١ – تضمن القرآن الكريم استعمال وسائل تعليمية لترسيخ المعنىٰ في الأذهان.
٢ – علينا الأخذ بهذه الوسائل في نواحي حياتنا وخصوصاً التعليمية منها.
٣ – متىٰ اتَّضح المعنىٰ واستقر لدىٰ المُتَلقي كان لما أُلقي فائدة، ومن غير الحكمة أن يُقال ما لا يستوعبه الناس – إلَّا لغاية معيَّنة – فالأنبياء (عليهم السلام) حديثهم علىٰ قدر عقول الناس دليل أنَّ الفهم مقدم وما يؤدي إليه لازم.
٤ – وتغيير وسيلة التعليم يسهم بإيجاد اللون المناسب للمتلقي أو ما يناسب نفس المعنىٰ ومراميه.
٥ – القرآن الكريم شفاء لدائنا ونجاة لأمرنا وتنويراً لنا وإظهاراً لكل ما يحتاجه الإنسان في حركته فهو تبيان لكل شيء.
الهوامش:
(1) الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، إسماعيل بن حماد الجواهري (ت393هـ)، تحقيق أحمد عبد الغفور العطار، ط4 بيروت، 5/1841/1987م.
(2) أبو الحسن أحمد بن فارس زكريا (ت395هـ)، تحقيق وضبط عبد السلام محمد هارون، ط قم -لإيران،1404هـ،6/110.
(3) لسان العرب، أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور لأفريقي المصري، ج3، دار صادر بيروت – لبنان، 2004م، 15/213 – 67.
(4) أسامي البلاغة، جار الله أبي القاسم محمود وابن عمه الزمخشري، ط بيروت -لبنان، 2004م، ص675.
(5) معجم مفردات ألفاظ القرآن، أبو القاسم الحسين بن محمد الأصفهاني (ت502)، تحقيق نديم مرعشلي، ط حيدري 1376هـ.ش، ص560-561.
(6) تاج العروس من جواهر القاموس، محب الدين أبي فيض السيد محمد مرتضىٰ الحسيني (ت 1205هـ)، تحقيق علي شيري، ط بيروت، 1994م،2/82.
(7) الأمثال في القرآن، ابن قيم الجوزية (ت751هـ) ط طنطا – مكتبة الصحابة، 1406هـ، ص9.
(8) الإتقان في علوم القرآن، السيوطي (ت911هـ)، تحقيق سعيد المندوب، ط لبنان – دار الفكر، 1996م، 2/344.
(9) ينظر: تفسير كنز الدقائق، محمد بن محمد رضا بن إسماعيل بن جمال الدين القمي المشهدي (ت1125هـ)، تحقيق الحاج آقا مجتبىٰ العراقي، ط قم – إيران، 1407هـ، 6/426.
(10) ينظر: التبيان في تفسير القرآن، محمد بن الحسن بن علي الطوسي، 2/336.
(11) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ناصر مكارم الشيرازي، ط بيروت -لبنان، 1413هـ، 7/379.
(12) ينظر الميزان في تفسير القرآن محمد حسين الطباطبائي، ط قم – إيران، 19/266.
(13) مواهب الرحمن في تفسير القرآن، عبد الأعلىٰ السبزواري، ٢/٣٥٨.