مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علىٰ أشرف الخلق أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين.
كثر الحديث حول الغناء وأنَّه هل يوجد دليل شرعي علىٰ حرمته أو أنَّ حرمته ناشئة من استحسانات ومزاجيات؟
ونحن في هذا البحث نضع بين يدي القارئ الكريم جزءاً يسيراً من الأدلة الشرعية التي دلَّت علىٰ حرمته، وحرمة استماعه، وحرمة التكسُّب به، ونبيِّن كيف فسَّرت الآيات الكريمة والسُنَّة الشريفة ذلك، وكيف يمكن استفادة التحريم منهما، لذا فنحن نبحث هذا الموضوع ضمن النقاط التالية:
أولاً: حرمة الغناء عند المذاهب الإسلامية:
أ – حرمة الغناء عند الشيعة: ١ – من الكتاب الكريم. ٢ – من السنة الشريفة. ٣ – أقوال العلماء.
ب – حرمة الغناء عند السنة: ١ – من السنة الشريفة. ٢ – أقوال العلماء.
ثانياً: الموقف الشرعي من قراءة القرآن والموشحات الدينية والأناشيد الثورية.
ثالثاً: أدلة القائلين بجواز الغناء: أ – من المذهب الشيعي في مورد الاستثناء. ب – ما ذهب إليه العامة.
رابعاً: الخاتمة.
قبل الدخول في نقاط البحث نحاول بيان معنىٰ الغناء لغة واصطلاحاً فنقول:
الغناء لغةً واصطلاحاً:
الغِنَاءُ: (التطريبُ والترنُّمُ بالكلام الموزون وغيره ويكون مصحوباً بالموسيقىٰ وغير مصحوب بها)(1) (قال ابن منظور أنَّ الغِناءَ من الصَّوتِ: ما طُرِّبَ به)(2).
وقال الفيروز آبادي(3): الغناء من الصوت، (ما طُرّب به) وهذا هو معناه اللغوي.
أمّا معناه الاصطلاحي، كما يقول ابن خلدون: فهو (تلحين الأشعار الموزونة بتقطيع الأصوات علىٰ نسب منتظمة معروفة، يُوقّع كل صوت منها توقيعاً عند قطعه، فيتكوّن نغمة، ثم تؤلف تلك النّغم إلىٰ بعضها علىٰ نسب متعارفة فيلذ سمعها لأجل ذلك التناسب، وما يحدث عنه من الكيفية في تلك الأصوات).
ويمكن أن نُعرِّف الغناء بأنَّه إنتاج الأنغام الموسيقية بصوت الإنسان بكلمات أو من دونها، وهو شكل من الأشكال الطبيعية في التعبير، وتعرفه كافة المجتمعات والثقافات – قديمها وحديثها – في كافة أنحاء العالم.
وقد عرَّف علمائنا الغناء بعدَّة تعريفات، منهم:
١ – السيد السيستاني (دام ظله): الظاهر أنَّ الغناء هو الكلام اللهوي – شعراً كان أو نثراً – الذي يؤتىٰ به بالألحان المتعارفة عند أهل اللهو واللعب، وفي مقومية الترجيع والمدّ له إشكال، والعبرة بالصدق العرفي، ولا يجوز أن يقرأ بهذه الألحان القرآن المجيد والأدعية والأذكار ونحوها، بل ولا ما سواها من الكلام غير اللهوي علىٰ الأحوط وجوباً)(4).
(وقد ورد نهي خاص في القرآن الكريم ففي الرواية المعتبرة عن الصادق (عليه السلام): «إياكم أنْ تُرَجِّعُوا القرآنَ ترجيعَ أهل الفسوق وأهل الكبائر، وسيأتي أقوامٌ من أمّتي يُرَجِّعُون القرآنَ ترجيعَ النوح والرّهبانيّة فليس لهم معي نصيبٌ»، وقد وردت روايات تنهىٰ عن التغني بالقرآن، وعن ترجيع القرآن ترجيعَ الغناء)(5)، وهو محرَّم، لذا أفتىٰ بعض الفقهاء، بحرمة الغناء في القرآن الكريم بالخصوص، كما عليه فتوىٰ السيّد السيستاني (دام ظله) أعلاه.
٢ – السيد الحكيم (قدّس سرّه): (الغناء وهو الصوت المشتمل علىٰ المد بنسق خاص من شأنه أن يوجب الطرب مع قصد اللهو به)(6).
٣ – الشيخ مرتضىٰ الأنصاري (قدّس سرّه) قال: (وهو من مقولة الكيفية للأصوات، إن كان مساوياً للصوت اللهوي والباطل كما هو الأقوىٰ فهو وإن كان أعمّ وجب تقييده بما كان من هذا العنوان، كما أنّه لو كان أخصّ وجب التعدّي عنه إلىٰ مطلق الصوت الخارج علىٰ وجه اللهو، وبالجملة، فالمحرّم هو ما كان من لحون أهل الفسوق والمعاصي التي ورد النهي عن قراءة القرآن بها، سواء كان مساوياً للغناء أو أعم أو أخص)(7).
٤ – مكارم الشيرازي (حفظه الله) قال: (الغناء هو الأصوات والألحان التي تناسب مجالس أهل الفسق والفجور، وأهل المعصية والفساد).
وبتعبير آخر: الغناء يقال للصوت الذي يحرّك القوىٰ الشهوانية في الإنسان بحيث يشعر الإنسان في تلك الحالة بأنّه لو كان إلىٰ جانب هذا الصوت خمر ومسكر وإباحة وفساد جنسي، لكان ذلك مناسباً جداً(8).
أولاً: حرمة الغناء عند المذاهب الإسلامية
أ – حرمة الغناء عند الشيعة:
المشهور بين علماء الشيعة أنَّ الغناء حرام بصورة إجمالية وقد تصل الشهرة إلىٰ حدِّ الإجماع، وقد استُدلَّ علىٰ ذلك بأدلة منها:
١ – من الأدلة علىٰ التحريم:
١ – من الكتاب الكريم: وردت هناك الكثير من الآيات القرآنية الكريمة التي تنهىٰ عن الغناء وتعده من المحرمات وأمرت بالاجتناب عنه منها:
أ – قوله تعالىٰ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ (لقمان: ٦).
وقد رويت في تفسير هذه الآية روايات عديدة عن الإمام الباقر والصادق والرضا (عليهم السلام) أوضحوا فيها أنَّ أحد مصاديق لهو الحديث الموجب للعذاب المهين هو (الغناء)(9).
ب – وقوله تعالىٰ: ﴿وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ (الحج: ٣٠) وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية، قال: «قول الزور الغناء»(10).
٢ – من السُنَّة الشريفة:
أ – وردت عدَّة روايات دلَّت علىٰ تحريم الغناء في المصادر الإسلامية:
ومما ورد علىٰ لسان أئمة أهل البيت (عليهم السلام):
قال رسول الله (صلىٰ الله عليه وآله): «خمسة لا ينظر إليهم يوم القيامة، منها المغنّي، فإنَّ الغناء رقبة الزنا».
ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «الغناء يورث النفاق، ويعقب الفقر»(11).
وفي حديث آخر عن الصادق (عليه السلام): «المغنية ملعونة، ومن أداها ملعون، وآكل كسبها ملعون»(12).
قال الإمام الصادق (عليه السلام): «شر الأصوات الغناء»(13).
قال الإمام الباقر (عليه السلام): «الغناء مما وعد الله عليه النار»(14).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) سأله رجل عن بيع الجواري المغنِّيات، فقال (عليه السلام): «شراؤهن وبيعهن حرام، وتعليمهن كفر، واستماعهن نفاق»(15).
ب – وورد في باب تحريم الغناء والملاهي ما نقله علماء الشيعة:
(منها ما ورد عن محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن عنبسة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «استماع اللهو والغناء ينبت النفاق كما ينبت الماء الزرع»(16).
٣ – أقوال العلماء:
السيد الخوئي (قدّس سرّه): (الغناء حرام إذا وقع علىٰ وجه اللهو والباطل، بمعنىٰ أن تكون الكيفية كيفية لهوية، والعبرة في ذلك بالصدق العرفي وكذا استماعه، ولا فرق في حرمته بين وقوعه في قراءة ودعاء ورثاء وغيرها ويستثنىٰ منه غناء النساء في الأعراس إذا لم يضم إليه محرم آخر من الضرب بالطبل والتكلم بالباطل، ودخول الرجال علىٰ النساء وسماع أصواتهن علىٰ نحو يوجب تهييج الشهوة، وإلَّا حرم ذلك)(17).
السيد السيستاني (دام ظله): (الغناء حرام فعله واستماعه والتكسب به، والظاهر أنَّه الكلام اللهوي شعراً كان أو نثراً – الذي يؤتىٰ به بالألحان المتعارفة عند أهل اللهو واللعب، وفي مقومية الترجيع والمد له أشكال، والعبرة بالصدق العرفي، ولا يجوز أن يقرأ بهذه الألحان القرآن المجيد والأدعية والأذكار ونحوها بل ولا ما سواها من الكلام غير اللهوي علىٰ الأحوط وجوباً.
وقد يستثنىٰ من الغناء المحرم: غناء النساء في الأعراس إذا لم يضم إليه محرم آخر من الضرب بالطبل والتكلم بالباطل ودخول الرجال علىٰ النساء وسماع أصواتهم علىٰ نحو يوجب تهيج الشهوة ولكن هذا الاستثناء لا يخلو عن إشكال، وأمّا الحداء المتعارف فليس بغناء ولا بأس به كما لا بأس بما يشك – من جهة الشبهة المصداقية – في كونه غناء أو ما بحكمه، وأمّا الموسيقىٰ فما كان منها مناسباً لمجالس اللهو واللعب كما هو الحال فيما يعزف بآلات الطرب كالعود والطنبور والقانون والقيثارة ونحوها فهي محرمة كالغناء، وأمّا غيرها كالموسيقىٰ العسكرية والجنائزية فالأحواط الأولىٰ الاجتناب عنها أيضاً)(18).
السيد الحائري (حفظه الله): (الغناء حرام إذا وقع علىٰ وجه اللهو والباطل، وكذا استماعه، والمراد منه: ترجيع الصوت علىٰ نحو خاصٍّ وإن لم يكن مطرباً، ولا فرق في حرمته بين وقوعه في قراءة ودعاء ورثاء وغيرها، ويستثنىٰ منه الحداء، وغناء النساء في الأعراس إذا لم يضمّ إليه محرّم آخر من: الضرب بالطبل، والتكلّم بالباطل، ودخول الرجال علىٰ النساء، وسماع أصواتهنّ علىٰ نحو يوجب تهيّج الشهوة، وإلّا حرم ذلك)(19).
الشيخ الفياض (دام ظله): (الغناء حرام، وهو صوت وقع بكيفية خاصة ولهجة مخصوصة، وهي الكيفية اللهوية لدىٰ العرف العام ولم يرد في الشرع تحديد مفهومه بحدود معينة كمّاً وكيفاً، فلذلك يكون المعيار فيه إنَّما هو بالصدق العرفي، ولا فرق في حرمته بين وقوعه في قراءة قرآن أو دعاء أو رثاء أو غيرها)(20).
ب – حرمة الغناء عند السُنَّة:
هناك الكثير من علماء أهل السُنَّة أكَّدوا علىٰ حرمة الغناء، وإن كان البعض منهم قد استثنىٰ منه بعض الأمور التي ربما تعتبر خارجة عن موضوع الغناء.
١ – من السُنَّة الشريفة:
قال ابن عباس: (الدف حرام والمعازف حرام والكوبة حرام والمزمار حرام)(21).
وقال الفضيل بن عياض (رحمه الله): (الغناء رقية الزنا)، وقال يزيد بن الوليد: (الغناء داعية الزنا)(22).
وقال ابن ماجه في (سننه): (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَىٰ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ حَاتِمِ بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ أَبِي مالك الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلىٰ الله عليه [وآله] وسلم): «لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا، يُعْزَفُ عَلَىٰ رُؤُوسِهِمْ بِالْمَعَازِفِ وَالْمُغَنِّيَاتِ، يَخْسِفُ اللهُ بِهِمْ الْأَرْضَ، وَيَجْعَلُ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ»، وهذا إسناد صحيح(23).
٢ – أقوال العلماء: هناك روايات عديدة ذكرها العلماء دلت علىٰ حرمة الغناء، منها
فقد قال (القرطبي) في ذيل الآيات التي هي مورد البحث في هذا الباب: (وهو الغناء المعتاد عند المشتهرين به، الذي يحرّك النفوس ويبعثها علىٰ الهوىٰ والغزل، والمجون الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن، فهذا النوع إذا كان في شعر يشبب فيه بذكر النساء ووصف محاسنهن وذكر الخمور والمحرمات لا يختلف في تحريمه، لأنَّه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق، فأمّا ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه في أوقات الفرح، كالعرس والعيد وعند التنشيط علىٰ الأعمال الشاقة كما كان في حفر الخندق، فأمّا ما ابتدعته الصوفية اليوم من الإدمان علىٰ سماع الأغاني بالآلات المطربة والمعازف والأوتار فحرام)(24).
أقول: إنَّ الذي ذكره القرطبي من استثناء من قبيل الحداء للإبل أو الأشعار الخاصة التي كان يقرؤها المسلمون أثناء حفر الخندق، فهو ليس من الغناء بل يحتمل أنَّه كالأشعار التي يقرؤها جماعة في المسيرات أو مجالس الفرح ومجالس الحزن ومجالس العزاء الدينية.
وقال الحسن البصري (رحمه الله): (إن كان في الوليمة لهو – أي غناء ولعب – فلا دعوة لهم)(25).
وأمّا الإمام مالك فقد ذهب إلىٰ النهي عن الغناء وعن استماعه وقال حينما سئل عن الغناء والضرب علىٰ المعازف (هل من عاقل يقول بأن الغناء حق؟ إنَّما يفعله عندنا الفساق) والفاسق لا تقبل له شهادة ولا يصلي عليه الأخيار إن مات)(26).
ثانياً: الموقف الشرعي في قراءة القرآن والموشحات الدينية والأناشيد الثورية بالألحان المتعارفة عند أهل الفسق
لا يجوز قراءة القرآن الكريم، والأدعية الشريفة، والأذكار بالألحان المتعارفة عند أهل اللهو واللعب، والأحوط وجوباً ترك قراءة غيرها من الكلام غير اللهوي شعراً أو نثراً بذلك اللحن(27).
ثالثاً: أدلة القائلين بجواز الغناء
أ – ما ذهب اليه البعض من حلية الغناء في موارد الاستثناء وعدم حرمته:
كالسيد السبزواري (قدس سره)(28) والفيض الكاشاني (قدس سره)(29) قد يفهم من عبارتهما التفصيل في حرمة الغناء بأن يقال هو في ذاته ليس محرَّماً وإنَّما الحرمة تنشأ من المقارنات كدخول الرجال علىٰ النساء أو باستعمال آلات اللهو أو التكلم بالباطل أو مشاكل ذلك، وقد استدل علىٰ ذلك بوجوه:
الأول: دعوىٰ الانصراف بأن يقال إنَّ النصوص دالة علىٰ حرمة الفناء في تلك الفترة الزمنية في حكم بني العباس.
الثاني: رواية أبي بصير، قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن كسب المغنيات، فقال: «التي يدخل عليها الرجال حرام والتي تدعىٰ إلىٰ الأعراس ليس بها بأس، وهو قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ…﴾»(30).
الثالث: صحيحة أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «أجر المغنية التي تزف العرائس ليس به بأس وليس بالتي يدخل عليها الرجال»(31).
الوجه الرابع: عبد الله بن جعفر في قرب الإسناد عن عبد الله بن الحسن عن علي بن جعفر عن أخيه قال: سألته عن الغناء هل يصلح في الفطر والأضحىٰ والفرح؟ قال: (لا بأس به ما لم يُعصَ به)، ورواه عليّ بن جعفر أيضاً في كتابه ولكن نقله صاحب الوسائل (قدّس سرّه) بعبارة (ما لم يؤمر به)، ولكن الموجود في المصدر الآن هو عبارة (ما لم يزمّر به)، وهذا هو المناسب)(32).
يرىٰ المحقق الشيخ مرتضىٰ الأنصاري (قدّس سرّه) في الغناء، عدم حرمته ذاتاً، أي بعنوانه الذاتي من دون تعنونه بعناوين أُخر محرَّمة كاللهو الباطل وقول الزور وأمثال ذلك، فلو فرض انفكاكه عن تلكم العناوين، فلا حرمة فيه، وإنما يحرم إذا تصادق مع عنوان محرم غير عنوان الغناء.
هذا من ناحية حكمه الذاتي، حسب دلالة الكتاب والسُنَّة، أمّا من جهة الصدق الخارجي، فيرىٰ أنَّه متَّحد مع عنوان اللهو وعدم انفكاكه عنه خارجاً، فهذا تشخيصه الخاص لموضوع الغناء خارجاً، وتلك نظرته الخاصة لحكم الغناء ذاتاً، المستفاد من ظواهر النصوص الواردة في الباب.
قال – بعد نقل جملة من الأحاديث -: (وظاهر هذه الأخبار بأسرها، حرمة الغناء من حيث اللهو والباطل، فالغناء – وهي من مقولة الكيفية للأصوات إن كان مساوياً للصوت اللهوي والباطل – كما هو الأقوىٰ فهو، وإن كان أعم وجب تقييده بما كان من هذا العنوان، كما أنَّه لو كان أخص وجب التعدّي عنه إلىٰ مطلق الصوت الخارج علىٰ وجه اللهو وبالجملة، فالمحرم هو ما كان من لحون أهل الفسوق والمعاصي، التي ورد النهي عن قراءة القرآن بها، سواء أكان مساوياً للغناء أو أعم أو أخص مع أنَّ الظاهر أنَّ ليس الغناء إلَّا هو)(33).
إلَّا أنَّه في [المسألة] الثالثة عشر في المكاسب المحرمة، ج١، ص٢٨٥، قال: (لا خلاف في حرمة الغناء في الجملة، والأخبار بها مستفيضة، وادَّعىٰ في الإيضاح تواترها)(34).
ب – ما ذهب اليه العامة:
وقد روي البخاري وأحمد عن عائشة أنَّها زفت امرأة إلىٰ رجل من الأنصار فقال النبي (صلّىٰ الله عليه [وآله] وسلم): (يا عائشة، ما كان معهم من لهو؟ فإنَّ الأنصار يعجبهم اللهو)(35).
وروىٰ ابن ماجة عن ابن عباس، قال: أنكحت عائشة ذات قرابة لها من الأنصار فجاء رسول الله فقال: (أهديتم الفتاة)؟ قالوا: نعم، قال: (أرسلتم معها من يغني)؟ قالت: لا. فقال رسول الله (صلّىٰ الله عليه [وآله] وسلم): (إنَّ الأنصار قوم فيهم غزل، فلو بعثتم معها من يقول: أتيناكم أتيناكم.. فحيانا وحياكم)؟!(36).
وروىٰ النسائي والحاكم وصححه عن عامر بن سعد قال: دخلت علىٰ قرظه بن كعب وأبي مسعود الأنصاري في عرس، وإذا جوار يغني. فقلت: أي صاحبي رسول الله أهل بدر يفعل هذا عندكم؟! فقالا: اجلس إن شئت فاستمع معنا، وإن شئت فاذهب، فإنه قد رخص لنا اللهو عند العرس)(37).
ونحن في مقام التحقيق نقول: إنَّ الغناء بأي صورة من صوره سواء باستعمال آلات اللهو أو التكلم بالباطل أو بدخول الرجال علىٰ النساء أو بأي معنىٰ من معانيه فهو محرم للنهي الوارد في القرآن الكريم إلَّا ما خرج بدليل.
رابعاً: الخاتمة
لا شك أنَّ للغناء موارد شك كغيره من المفاهيم الأخرىٰ – وهل أنَّ الصوت الفلاني يناسب مجالس الفسق والفجور، أم لا؟ وفي هذا المجال قد استعرضنا عدَّة تعاريف للغناء ومن خلالها حكم البعض بحرمة الغناء واستدل علىٰ ذلك بأدلة ذكرت في محلها، والبعض الآخر حكم بالحلية واستدل بأدلة أخرىٰ أيضاً ومن ثم ذكرنا مجموعة من الاستفتاءات حول الموقف الشرعي في قراءة القرآن والموشحات الدينية والأناشيد الثورية بالألوان المتعارف عند أهل الفسق وبينا من خلال البحث فلسفة تحريم الغناء، وختمنا البحث في تحقيقنا للبحث.
والحمد لله رب العالمين وصلّىٰ الله علىٰ أشرف الخلق أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين.
الهوامش:
(1) معجم المعاني الجامع.
(2) لسان العرب – ابن منظور: ج١٥، ص١٣٩.
(3) القاموس المحيط الفيروز آبادي.
(4) موقع السيد السيستاني.
(5) الكافي – الشيخ الكليني: ج٢، ص٦١٤.
(6) منهاج الصالحين للسيد محمد سعيد الحكيم: ج١، ص٤٣٨.
(7) المكاسب المحرمة: ج١، ص٢٩٠.
(8) الأمثل في تفسير القرآن: ج١٢، ص١٣.
(9) وسائل الشيعة: ج١٢، ص ٢٢٥ – ٢٢٧، ٢٣١ باب تحريم الغناء.
(10) وسائل الشيعة: ج١٢ ص٢٢٥ – ١٢٧،١٣٢ باب تحريم الغناء.
(11) وسائل الشيعة: ج١٢، ص ٢٢٥ – ٢٢٧، ٢٣١ باب تحريم الغناء.
(12) سفينة البحار: ج٢، ص٣٣٨.
(13) وسائل الشيعة: ج١٢.
(14) وسائل الشيعة: ج١٢.
(15) وسائل الشيعة: ج١٧، ص ١٢٤.
(16) الكافي ٦: ٤٣٤ / ٢٣.
(17) منهاج الصالحين للسيد الخوئي (قدّس سرّه): ج٢، م١٧.
(18) منهاج الصالحين للسيد السيستاني (دام ظله): ج٢، م٢٠.
(19) منهاج الصالحين للسيد كاظم الحائري (دام ظله): م١٧.
(20) منهاج الصالحين للشيخ الفياض (دام ظله): م٢١٠، ج٢، ص١٠٨.
(21) رواه البيهقي: ج١٠، ص٢٢٢.
(22) إغاثة اللهفان: ج١.
(23) سنن ابن ماجة كتاب الفتن، باب العقوبات: برقم ٤٠٢٠.
(24) تفسير القرطبي: ج٧، ص٥١٣٦.
(25) تفسير الجامع للقيرواني.
(26) تفسير القرطبي.
(27) فقه المغتربين للسيد السيستاني (دام ظله).
(28) في كفاية الأحكام: ج١، ص٤٣٨.
(29) الوافي: ج١٧، ص٢١٨ ط. ج.
(30) وسائل الشيعة العاملي: ج١٧، ص١٢٠، أبواب ما يكتسب به: ب١٥، ح١.
(31) المصدر نفسه: ح٣.
(32) وسائل الشيعة، العاملي: ج١٧، ص١٢٢، أبواب ما يكتسب به، ب١٥، ح٥، ط آل البيت.
(33) المكاسب المحرمة، طبعة شهيدي ص٣٦.
(34) إيضاح الفوائد: ج١، ص٤٠٥.
(35) صحيح البخاري: ص٥١٦٢.
(36) رواه ابن ماجة: ص٢٠٧٤.
(37) أخرجه النسائي والحاكم النيسابوري: ج٦، ص٢٢٣.