الدين والحرية الشخصية

الدين والحرية الشخصية

مقدمة

من المفاهيم التي انتشرت بقوة في عصرنا وفي مختلف جوانب الحياة هو مفهوم (الحرية)، حيث تجده في الحقل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بل فرض وجوده حتَّىٰ في الأُسرة الصغيرة.

تعريف الحرية:

جذر اللفظة اللغوي يرجع إلىٰ (حرّ)، وهو كما قال المصطفوي في التحقيق:

إنَّ الأصل الواحد في هذه المادة: هو الحرارة ضدّ البرودة، وبمناسبة هذا المعنىٰ تستعمل في الخالص من الشيء، والوسط منه، والبريء من العيب والنقص، فالرجل الحرّ من كان خالصاً من القوم ليس بمملوك، ومن هذا المعنىٰ تحرير الولد أي إفراده للطاعة، وتحرير الكتابة تقويمها(1).

والمراد منه فيما نحن بصدد بيانه: إن شاء فعل وإن شاء ترك، وهو ناشئ من مبدأ الاختيار.

والمعنىٰ الاصطلاحي الذي يرفعه أصحاب الفكر الليبرالي هو رفع القيود الدينية كما سترىٰ.

سبب كتابة هذا المقال:

حاول بعض ولا يزال يحاول الانتقاص من الدين الإسلامي بشتَّىٰ الوسائل، فقد وجَّهوا إليه العديد من التهم الباطلة، فقالوا مثلاً: إنَّ الإسلام ظلم المرأة في أطروحاته وتشريعاته، فلم ينصف بينها وبين الرجل في كثير من الجوانب، وقالوا: إنَّ في كتاب الإسلام – وهو القرآن – تناقضاً، وقالوا: إنَّه خال من الجوانب العلمية إلىٰ غيرها من المفتريات.

والإشكالية الأولىٰ وبالخصوص ما تعلق بالفرد – حيث يتَّسع مفهوم الحرية إلىٰ المجتمع أيضاً – كانت الداعي لكتابة هذه السطور.

 – خارطة البحث:

أولاً: بيان الإشكال، وحاصله: أنَّ الإسلام قيَّد الحريّات الشخصية، وسنذكر ثلاث نقاط:

ثانياً: في بيان مستويات الاستبداد الديني وسنذكر مستويين ونتحدَّث في المستوىٰ الأول، وسنذكر إشكالين، ونجيب عنهما إن شاء الله تعالىٰ.

ثالثاً: الخاتمة.

أولاً: بيان الإشكال في أنَّ الإسلام قيَّد الحريات الشخصية

1 – توضيح ما قالوا:

أ – لا إشكال أنَّ الحرية الشخصية هي إحدىٰ مناشئ سعادة الإنسان الحر، حيث يشعر بأنَّه سيد نفسه، ولا توجد عليه وصاية، فهو يفكر ويقرِّر ثم يتَّخذ السلوك الذي يقتنع به طبقاً للفكرة التي أسسها.

لذا تجده قد لا يتأذىٰ لو وقع في بعض المحاذير إذا كانت نتيجة اختياره، بينما يتضايق لو تم الحجر عليه أو منعه من اختيار شيء معين.

والمنشأ لهذه الحرية فطري لا ينكره صاحب وجدان.

ب – ولا يقصد من الحرية، الحرية المنفلتة، بحيث يحق لكل شخص أن يقوم بأي شيء، لما أسسوا عليه مبدأ الحرية (الفطرة) وهي لا تسمح بالحرية ولو علىٰ حساب حرية شخص آخر.

وهذا محدّد مهم للحرية المدعاة، كما لا يرفض أصحاب الدعوىٰ النصائح والإرشادات، وإنما يرفضون إبراز الحكم والقرار بنحو الإلزام، فهذا هو تقييد لحرية الإنسان غير مُبرر، ينبغي محاربته وردعه.

ج – الدين كثيراً ما يقيد حريات الإنسان الشخصية بما لا يتصادم مع حرية الآخرين وحقوقهم، وبنحو إلزامي، وذلك من خلال جملة من تشريعاته.

هذا حاصل كلامهم.

ثانياً: مستويات الاستبداد الديني

يتجلىٰ الاستبداد الديني علىٰ مستويين: (سلوكي وفكري):

المستوىٰ الأول: السلوكي (الجانب العملي)

وقد أشكلوا في هذا المستوىٰ بعدة إشكالات:

الإشكال الأول:

إنَّ النصوص الدينية (الإسلامية) وخصوصاً القرآن الكريم لا تذكر مفردة الحرية، فلو كان القرآن يرىٰ قيمة حقيقية لحرية الفرد لذكرها في بعض آياته، وأسس لها، بينما لا نجد ذكر لها في جميع الآيات.

الجواب:

يمكن الجواب علىٰ هذا الإشكال بالقول:

إنَّ هناك طرقاً متعددة لإيصال المعاني إلىٰ الغير، فتارة يتم إيصال المعنىٰ عن طريق اللفظ الذي وضع للمعنىٰ، مثلاً عندما يراد الحديث عن معنىٰ الأسدية فيقال: (رأيتُ أسداً) فلفظ أسد دال علىٰ معنىٰ الأسدية، لأنَّه موضوع لمعنىٰ الأسدية وهو الحيوان المفترس المعهود.

وتارة يتم إيصال المعنىٰ عن طريق تركيب يضم عدَّة معاني يفهم منه ذلك المعنىٰ، كما لو أُريد التعبير عن كرم إنسان، فيقال: (فلان كثير الرماد)، فهذا التركيب يبيِّن لنا أنَّ هذا الإنسان كريم ويعبر عن هذه الطريقة بالكناية وهي أنَّك تذكر معنىٰ وتريد لازمه.

وهي طريقة مستعملة في كلمات العرب بل وغيرهم، وقد قيل: إنَّ الكناية أبلغ من التصريح في بعض الأحيان.

إذاً، من خلال الطريقة الثانية فهمنا أنَّ المتكلم يريد أن يصل إلىٰ الكرم عن طريق التركيب بين لفظين هما: كثير، ورماد.

ولا يجد السامع أو القارئ أي تشويش في فهم المعنىٰ، لأنَّ تلك الألفاظ الكنائية لها علاقة بالمعنىٰ المراد، وليست أجنبية عنه، وإلّا كان استعمالاً خطأ.

وقد استعمل القرآن الكريم الطريقة الثانية في موارد كثيرة:

منها: الكناية، ففي قوله تعالىٰ: ﴿…هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ…﴾ (البقرة: 187) أطلق لفظ اللباس وأراد العلاقة الزوجية.

ومنها: الاستعارة، كما في قوله تعالىٰ: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَىٰ النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَىٰ الظُّلُماتِ﴾ (البقرة: 257) فقد استعار لفظة الظلمات للكفر والنور للإيمان.

إذاً، لا ينحصر الوصول إلىٰ المعنىٰ بالإتيان باللفظ الذي وضع للمعنىٰ فقط.

والنتيجة: ليس من الضروري لأي متكلم ومنه القرآن الكريم أن يحصر إيصال مراده باعتماده الطريقة الأولىٰ فقط، خصوصاً إذا لاحظنا أنَّه كلام بليغ معجز.

بل يمكن الوصول إلىٰ المعنىٰ بطرق أخرىٰ كالكناية والاستعارة والتمثيل وغيرها.

وهنا نسأل: هل توجد آيات تتحدَّث عن معنىٰ الحرية بدون ذكر لفظ الحرية؟

الجواب: نعم، نذكر منها:

أولاً: آيات تبين حرية الاعتقاد

1 – قوله تعالىٰ: ﴿وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس: 99).

2 – قوله تعالىٰ: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف: 29).

3 – قوله تعالىٰ: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَنْ تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ﴾ (الغاشية: 21-24).

4 – قوله تعالىٰ: ﴿قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلىٰ كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْـرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران: 64).

وهذه الآيات وغيرها واضحة البيان في أنَّ الله تعالىٰ قد بيَّن الحق، كما أوضح في آيات أخرىٰ النتائج الإيجابية لاتِّباع الحق، والإنسان حُرّ في اختياره، ومنشأ هذه الحرية كما تقدَّم هو الاختيار، الذي هو مناط الثواب والعقاب.

ثانياً: الحرية الشخصية

1 – قوله تعالىٰ: ﴿وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ﴾ (البلد: 10).

2 – قوله تعالىٰ: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعىٰ﴾ (النجم: 39).

3 – والنتيجة: أنَّ ما ذكر – وهو عدم ذكر مفردة الحرية في القرآن – لا يعد إشكالاً ولا يستحق الوقوف عنده أكثر من ذلك، لوجود المعنىٰ في أكثر من آية كريمة.

الإشكال الثاني:

إنَّ الدين يحتوي علىٰ مجموعة من الأحكام ترجع في حقيقتها إلىٰ قيود للحرية الشخصية، وأعني: تلك الأحكام الإلزامية سواء أكانت بنحو الوجوب أم الحرمة، فهي تفرض علىٰ الناس قيوداً يصعب تحملها مثلاً:

وجوب الصلاة علىٰ المسلمين ووجوب طاعة الزوجة لزوجها ووجوب إحسان الابن لوالديه وغيرها.

وكذلك بالنسبة إلىٰ الأحكام الإلزامية المحرَّمة، فكلمة حرام تعني المنع، وهو تقييد للحرية، مثلاً: حرم الإسلام تبرج المرأة أمام الأجانب، كما حرَّم ومنع العلاقة غير المشروعة وإن وافق الطرفان عليها، ومنع أكل لحم الخنزير والميتة، وشرب الخمر، وهكذا في موارد كثيرة داخلة في الحياة الشخصية للفرد.

وغيرها من الأحكام التي لا تخفىٰ علىٰ من له أدنىٰ اطِّلاع علىٰ قائمة التشريعات الإسلامية.

هذا في العبادات..

أمّا في باب المعاملات فقد أعطىٰ الدين ولايات للبعض تقيِّد حركة الآخرين الشخصية، كولاية الأب أو الجد علىٰ ابنتهما.

كل هذه الأمور تتصادم مع الحرية الفردية السلوكية.

ويمكن الجواب عن الإشكال بالتالي:

أولاً: نذكر مقدمة مهمة وهي بيان الوجهة العامة للدين.

إنَّ القارئ الجيد والمنصف إلىٰ مفردات الدين (الإسلامي) يجد أنَّ وجهته العامة هي وجهة التسامح والتخفيف قبل التشديد والثقل، وهو واضح في موارد:

منها: البناء علىٰ إباحة كل شيء شك في تكليفه، وهذه قاعدة فقهية مسلم بها، مستدلة وليس المقام مقام شرحها ويمكن مراجعتها في الكتب الاستدلالية الفقهية.

ومنها: درء الحدود بالشبهات، بمعنىٰ أنَّ الشارع قد رفع عقوبة الحد والتعزير ولو كانت بمستوىٰ القتل أو الزنا عن المرتكب لأسبابهما إذا كان هناك شبهة طارئة وإبهام وترديد.

ومنها: تقييد الحدود بشروط في بعضها يندر جداً تحققها.

ومنها: منع القاضي بالعمل بعلمه عند أغلب الأعلام، لضبط قانون العقوبات وعدم إخضاعه لعلم شخصي.

ومنها: (وهو الأهم) مسامحة الغافل والناسي والجاهل، وبهذا امتازت الأطروحة الدينية حتىٰ علىٰ أحدث الشرائع القانونية المعاصرة.

بل قد يسمح الشارع بإلغاء بعض العقوبات لظروف معينة، كإلغاء حَدّ السرقة عند المجاعة.

ثانياً: إذا اتَّضحت الوجهة العامة للدين الإسلامي، نشرع بالجواب في نقاط:

1 – إنَّ بعض الأشياء فطرية في أصلها:

ينبغي الالتفات إلىٰ أنَّ بعض الحاجات هي فطرية في أصلها، إلّا أنَّ توسعها وامتدادها كسبي غير فطري، نشأ نتيجة الظروف التي يعيشها الإنسان، فمثلاً، أصل الحاجة إلىٰ الطعام فطرية، إلّا أنَّها قد تتمدد وتتوسع إلىٰ مديات أكبر، مما يؤدي نتائج سيئة، لذا ينبغي تحديدها، ولا يعد ذلك تحديداً للفطرة، وإنَّما هو تحديد لتلك الامتدادات الناشئة من أمور طارئة علىٰ الفطرة، فالمنع عن التبذير مثلاً، لا يخالف الفطرة، بل هو منسجم معها.

2 – لابد أن لا تبنا الحرية الشخصية علىٰ حساب حرية الآخرين:

لقد حدَّد صاحب الدعوىٰ الحرية بما لا يصطدم مع حريات الآخرين، وهذا منتج يقتضيه العقل علىٰ الإجمال، لأنَّ القبول بممارسة حرية شخص علىٰ حساب حق آخر، ظلم واضح، وتجن ظاهر.

وبعض الأحكام الدينية ثابتة من هذا المنطلق، وهي تتساير مع الفطرة ولا تتصادم معها أبداً، سواء:

أكانت منافية للحرية الشخصية، كمن يمنع من بناء داره بطريقة يضر فيها جاره، أو يجعل داره محلاً لبيع بعض الأمور التي تسبب الأذىٰ للجار، وغيرها من الأعمال التي قد تكون في ملك المتصرف، إلّا أنَّها تعد تعدياً علىٰ الآخرين.

أم منافية للحرية العامة كمن يمنع من أن يلبس لباساً خادشاً للحياء العام، في الميادين العامة.

لذا يذكر أنَّ محافظين بعض المدن العالمية، منعت من نشر الصور الفاضحة في الأماكن العامة لحق الناس ورغبتهم في عدم الاطِّلاع القهري عليها، وهو مدخل حكيم في مراعاة الآداب العامة.

إلَّا أنَّه مع الأسف تمادىٰ اليوم بعض دعاة الحرية إلىٰ سن قوانين تخالف الفطرة، بل وتمنع من المعالجة، كما ورد في كندا، أنَّها تجرم الآباء لو حاولوا إقناع أولادهم بعدم تبديل جنسهم، مع أنَّ المعلمين في المدرسة يحق لهم إقناعهم بذلك من خلال التوسع في مفهوم الحرية، وهذا تجاوز علىٰ أصل الفطرة القاضية بالتنوع البشري، وبأخذ النصيحة من أقرب الناس وأحرصهم علىٰ مصلحتهم وهم الآباء, بل وصل العتو إلىٰ حدٍّ يفرضون علىٰ الناس قناعات فكرية، بأن يعترفوا بقبول بعض التشريعات الشاذة، وهو علامة واضحة بدأت تكشف عن نوايا هؤلاء الذين كانوا يترنمون بمفاهيم الحرية، وليس بعيداً عنا الحروب المعاصرة التي أفرزت وبشكل لا يقبل الشك الوجه الحقيقي لأولئك المدعين بعد سقوط قناع الزيف عن وجوههم.

3 – إمكان إضافة بعض القيود علىٰ ما يسمىٰ بالحرية الشخصية:

عند التأمل اليسير يجد المتأمل وبنحو يسير أن الفطرة السليمة لا تمنع من إضافة بعض القيود التي تقتضيها الحكمة، كالأمور التي يرتكبها الفرد ويكون ضررها بالغاً، مثل الانتحار، فهو حرية شخصية إلّا أنَّه لا يسمح للإنسان بممارستها لأنَّه يتضرَّر بها، ولا يعد منطق الفطرة هذا النوع من المنع تقييداً للحرية، ومثلها استعمال المخدرات، وممارسة بعض الأعمال الخطيرة من دون لوازم تأمين، وغيرها من المقيدات التي تحمي الإنسان من الوقوع في الضرر.

وفي هذا السياق شرعت أحكام كثيرة:

منها: حرمة كتمان الشهادة، حيث يضر الكتمان بالآخرين لأنَّه من أسباب ضياع حقوقهم، وحرمة عقوق الوالدين، ووجوب إنقاذ المشرف علىٰ الهلاك، وأمثال ذلك، فإنَّها أمور تقيد الحرية الشخصية للإنسان، إلّا أنَّه يشعر الإنسان السوي بحزازة لو لم يلتزم بها من غير عذر.

4 – استغلال بعض الحريات من قبل بعض المتدينين:

في بعض الأحيان يتوسَّع صاحب الحق بحقه إلىٰ ما لا حق له، وهذه نقطة سلبية تعود للمتدين أو من يدعي التدين، وليس هي من الدين، ولطالما انعكست بعض الشبهات علىٰ الدين مع أنَّه ضحية، والجاني الحقيقي هو مدعي التدين نفسه، والمنطق السليم وإن كان يقتضي عدم إسقاط تصرف المدعي علىٰ النظرية، إلَّا هذه القاعدة المنطقية يتغافل عنها أصحاب الشبهات مع الأسف، وهي لا تنطلي علىٰ ذوي الحجج والعقول النيرة.

فمثلاً جعل الشارع إذْن الوالد شرطاً في صحة زواج البنت، وذلك رعاية لمصلحتها، بحكم خبرته وحنكته في الحياة أكثر من البنت، كما أنَّه أشفق علىٰ البنت من غيره، ولكن تعسّف بعض الآباء في هذا الحق، بحيث يتعامل معه وكأنَّه حق شخصي له، يجعل له مردودات سلبية علىٰ الدين، وفق نظر البعض، مع أنَّ الدين يسلب ولايته في هكذا موارد.

أو قد يستخدم صاحب الحق الشخصي أو العام أسلوباً خشناً قاسياً في طرح حقه، مع أنَّ الغاية التأثير علىٰ الآخر، والتعسُّف ليس أسلوباً مؤثراً، وبالتالي قد يؤدي هذا النوع من الممارسة مردوداً سلبياً علىٰ الدين لو كان صاحب الحق قد ثبت الحق له بمقتضىٰ حق شرعي.

5 – إنَّ بعض أحكام الدين ليست منافية للفطرة:

مما تقدَّم تبيَّن أنَّ بعض أحكام الدين الإسلامي ليست منافية للفطرة، بل هي من مقتضيات الفطرة، كما أنَّ الحرية المدعاة لا تنفي التقيد في بعض الأحيان، وبذلك تنحصر دعوىٰ منافاة الدين في بعض أحكامه للحرية الفردية لا جميعها، كلزوم الحجاب مثلاً.

ولكن ليس من المنطقي ملاحقة كل حكم، لكثرتها كما لا تعطي جواباً منهجياً للرؤية الدينية، لذا سوف نحاول التكلم بشكل عام، وهو ينطبق علىٰ كل حكم وجزئية.

توضيح ذلك:

إنَّ منشأ الأحكام هو الملاكات (مصالح ومفاسد)، وحقيقة ذلك ترجع إلىٰ أنَّ الشيء المحرم يزاحم شيئاً آخر أهم من متعلق الحرمة، فمثلاً: للزنا مساوئ خطيرة ترجح علىٰ مصلحة حرية الفرد والفردين علىٰ الممارسة، لذا ينبغي تحريم هذا الفعل لتلك المصلحة العليا، وهو ما صنعه الدين.

وهذا ليس بدعاً في الشرائع الدينية، بل هو جار في القوانين العرفية في جميع الدول، فلا تجدنَّ الحرية مطلقة في جميع الأنظمة الوضعية، لذلك طبيعة القوانين الموجودة في كل بلد تقيِّد الحرية، لوجود التزاحم بين القيم أنفسها، فحرية الإنسان الفردية قيمة مهمة، إلّا أنَّ حفظ الإنسان من العطب قيمة أهم، لذا حرم الإسلام الانتحار، بل وأوجب علىٰ القادر منع ذلك الشخص من الانتحار، وكذلك يمنع من استعمال المخدرات، وغيرها من الممارسات الخطيرة، التي تمنع لأجل الحفاظ علىٰ قيمة عليا أهم من قيمة الإنسان الفردية.

هذا ما ندَّعيه في الدين، وهذه هي مناشئ أحكامه، ولا يدَّعي مسلم ولا أي متديِّن، أنَّ أحكامه نابعة من ارتجال، أو شهوة حاكم، أو غيرها من المناشئ العشوائية.

وهذا أمر مقر في جميع القوانين السماوية والوضعية، فعلامَ صارت أحكام الدين مقيدة للحرية الشخصية بالمعنىٰ السلبي، دون أحكام القانون الوضعي؟!

وحاول بعض أن يوجد الفارق بقوله: إنَّ القوانين الدينية تختلف عن القوانين الوضعية في نقطة مهمة، وهي: أنَّ شرائع الدين مفروضة علىٰ الإنسان، بينما القوانين العرفية الوضعية فقد اخترعها وأقرها الإنسان نفسه، فهو الذي تنازل عن حريته تجاهها، وليست مفروضة عليه كما في اللوائح الدينية.

ولكن هذا الكلام غير دقيق، بل ومجانب للصواب، وتوجد فيه مغالطة، لأنَّ القوانين الوضعية ليست باختيار جميع الأفراد، فإنَّ الدستور لو وافق عليه (51%) لكان نافذاً وملزماً لجميع المواطنين، مع أنَّ (49%) لم يرتضه ولم يختاره.

ولو قلت: بأنَّه ممضىٰ بحكم العقد الاجتماعي بينهم.

فأقول: كيف حال الأجيال التي تأتي بعد إقرار الدستور، فهم ملزمون بالقانون أيضاً ولم يشاركوا في استفتاء ولا بعقد اجتماعي! ومع ذلك لم يقل أحد أنَّ هذا يخالف الفطرة والحرية الشخصية بنحو يلزم محاربته.

ثم إنَّ الدين عبارة عن لائحة من القوانين معروفة مشهورة غير خفية، فمن شاء فعليه الإيمان بهذه اللائحة، ومن كفر فلا شأن له بتلك القوانين، كمن يدخل إلىٰ بلد بإرادته، فإنَّه يجب عليه الالتزام بقوانين ذلك البلد بمقتضىٰ العقد الذي أبرزته سمة الدخول التي تعطىٰ له، مع أنَّه لم يكن مشتركاً في سن قوانين ذلك البلد من قريب ولا من بعيد، بل ولا يحق له الدخول إلىٰ ذلك البلد ولا يناقش قوانينه، بحجة أنَّها تخالف حريته الشخصية، وهكذا.

فأصل الالتزام بالقيود الإلهية هو اعتقادنا بالعبودية، وأنَّ الله تعالىٰ هو المولىٰ، ولا حق لنا تجاهه، فهو الغني ونحن الفقراء.

نعم (وهذه نقطة حساسة):

الفارق بين التوجه الديني وغيره في مسألة التقنين:

إنَّ المتدينين يجعلون الأصالة في التشريع لله تعالىٰ، أمَّا غيرهم فلا يرون أنَّ لله حقاً في تشريع الأحكام، وإنَّما يخص هذا الحق بالإنسان نفسه.

فالجميع يقبل بتقييد الحرية الفردية، وليست دعوىٰ الحرية بالمعنىٰ الغربي إلّا شعارا لضرب الدين كمعطىٰ إلهي للإنسان، أو لتمرير أجندات مفروضة حتَّىٰ علىٰ أهل الغرب أنفسهم الذين بدأوا يأنون من بعض الأحكام الجائرة، والسبب ببساطة يرجع إلىٰ أنَّه لا توجد حرية واقعية، والاختلاف الحقيقي يرجع إلىٰ رؤية المختلفين للكون، وموقفهم تجاه الخالق، وهذا انعكس علىٰ تصرفات بعض مدَّعي الحرية، حيث تجدهم يعلنون عن حريتهم بممارسة الموبقات والمحرمات، بتصوره أنَّها الحرية الحقيقية، إلَّا أنَّه وقع في حضيض عبودية الشهوة وصار فريسة سهلة لموجهي الإعلام المغرض الذي تدخَّل في أدق تفاصيل حياته.

وأكبر شاهد علىٰ ذلك ما تفعله الصرخات في الموضة وطريقة الحديث والسفر وغيرها من الشؤون الحياتية في حياة الإنسان حتَّىٰ المسلم.

يشير كما ذكر بعض المطلعين أنَّ (آلان دونو) في كتابه (نظام التفاهة) إلىٰ أنَّ المشاهير يعيدون نمط حياتنا، حتَّىٰ بات المشهور قدوة لبعض الناس في كل شيء.

بل إنَّ الإعلام العالمي موجَّه، يذكر (آموس فوغول) في كتابه (السينما التدميرية): أنَّ الإعلام يقوم علىٰ مبدأ غرس الأفكار في اللاوعي.

وإذا أردنا أن ننظر نظرة مجرَّدة عن كل أحكامنا المسبقة وحاولنا أن نقيِّم القيود والشروط التي قد تفرض علىٰ الإنسان مع غض النظر عن فارضها لوجدنا، وبكل إنصاف أنَّ بعضها عامل قوة للإنسان، بل لا تتجلىٰ إبداعاته إلّا بهذه القيود لرجوعها إلىٰ تحديد بوصلة نجاحه وباكورة عطائه، مثل مادة الاسمنت التي ابدع الإنسان في استخدامها وصنع منها ناطحات السحاب ومختلف المنشآت التي خدمت البشرية بنحو لا يمكن اليوم الاستغناء عن هذه المادة في عمران المدن، لا تكون ذات قيمة لو لم تكن مقيدة بقالب معين يرص قواها ويقومها ويجعلها من مادة ترابية لا فائدة منها بل قد تكون مضرة إلىٰ مادة عالية الثمرة بما يبرز من كمال لها.

وهكذا في كل شأن، وهل للبحث العلمي أن يكون رصيناً مفيداً من دون قيود صارمة؟

كذلك الإنسان من دون قيود موجهة لحركته تتخبطه الرؤىٰ والأفكار بحيث تهدر طاقاته.

ثالثاً: الخاتمة

اهتمَّ الدين الإسلامي بالحرية الشخصية للإنسان وبَيَّن حدودها، وهو وإن لم يذكرها صريحاً في القرآن الكريم وبلفظها، ولكنه ذكرها في عدَّة مواطن، وفي جوانب وتراكيب متعددة، وذكرنا أنَّ الوجهة العامة للدين هي التخفيف علىٰ العباد وأنَّ الحرية الشخصية لابد أن لا تتعارض مع حرية الآخرين، وأنَّ الحرية الدينية استغلت من قبل بعض المسلمين، ولكن هذا لا يؤثر علىٰ اهتمام الإسلام بالحرية الشخصية، وذكرنا أنَّ المتدينين يجعلون الأصالة في التشريع لله تعالىٰ، أمَّا غيرهم فإنَّهم لا يرون أنَّ لله حقاً في تشريع الأحكام، وإنما يخص هذا الحق بالإنسان نفسه.

وذكرنا أنَّ الدين عبارة عن لائحة من القوانين معروفة مشهورة غير خفية، فمن شاء فعليه الإيمان بهذه اللائحة، ومن كفر فلا شأن له, وبينّا أنَّ القوانين الوضعية مفروضة كالقوانين الدينية.

هذا كله في الحرية الشخصية في الجانب السلوكي وسيأتي الكلام في الحرية الشخصية الفكرية إن شاء الله تعالىٰ.

 

 

 

الهوامش:


(1) التحقيق في كلمات القرآن الكريم 2: 191، حر.

Scroll to Top