المقدمة
إنَّ حقوق الإنسان من مقولة السهل الممتنع، فمع كونها من الأمور التي تناسب فطرة الإنسان من جهة وأنَّها متأصلة في جميع البشر، يضعها في خانة السهل، إلّا أنَّ خفاءها المفهومي والتلاعب فيه سعةً وضيقاً وعدم تطبيقها تبعاً لمفهومها الصحيح، مضافاً إلى المغايرة في تقنينها بين القانون الوضعي والشرعي، مما أدّى إلى غياب المنهج بسب تعدد المدارس الفكرية المختلفة والمنفعلة من حضورات نابعة من خلفيات أيديولوجية واختلاف السلطات السياسية يجعلها ممتنعة التطبيق بما يحقق العدل في حقوق الإنسان بين أفراده.
ومن هنا ينبغي تبويب حقوق الإنسان في الفكر الإسلامي وبيان مفهومها والمنهج فيها، وتمييزه عن النظريات الاشتراكية والماركسية والليبرالية وغيرها، وذلك لدفع الالتباس الحاصل في حقيقة حقوق الإنسان وتطبيقه، وما يهمنا هنا بيان حقيقته في الفكر الإسلامي، وتمييزها عما سواها.
وسيكون الكلام في أربعة محاور:
المحور الأول: الحق، وأهمية نشر الثقافة الحقوقية
الحق في اللغة:
الحق خلاف الباطل، وجمعه حقوق(1)، وحقّ الشيء: ثبت ووجب(2).
الحق في الاصطلاح:
عرِّف الحق بتعريفات عدَّة وبعضهم أرجعهُ إلى المعنى اللغوي، ولكن ما يناسب المقام بيان المعنى الاصطلاحي لما لذلك من أثر على فهم معنى الحق في اصطلاح فقهاء المسلمين، وفقهاء القانون، حتى يتبيَّن المراد الحقيقي لما يشمله أصل الموضع بعد أن كان الحق له معاني متعددة أو اصطلاحات مختلفة، وسيتَّضح ذلك من خلال بيان أقوالهم:
أولاً: عَرَّف المشهور(3) الحقّ بأنَّه: سلطنة على الشيء، وربّما أُضيف إليه فعليّة بأن يقال: الحقّ سلطنة فعليّة على الشيء.
ثانياً: يرى الشيخ الأنصاري أنَّ الحق بمعنى الثبوت كما ورد في القول: وأمّا الحق فله في اللغة معانٍ كثيرة، والمظنون رجوعها إلى مفهوم واحد، وجعل ما عداه من معانيه من باب اشتباه المفهوم بالمصداق، وذلك المفهوم هو الثبوت تقريباً، فالحق بمعنى المبدأ هو الثبوت، والحق بالمعنى الوصفي هو الثابت، وبهذا الاعتبار يطلق الحق عليه تعالى لثبوته بأفضل أنحاء الثبوت الذي لا يخالطه عدم أو عدمي، والكلام الصادق حق لثبوت مضمونه في الواقع(4).
والمراد من الثبوت هنا هو كونه وجوداً واقعياً من جهة مقارنته بالباطل الذي لا وجود له أصلاً، إذ إنَّه يوصف بالكذب، وقد أثبت ذلك بعض اللغويين في بعض كلماتهم كما مرَّ بيانه.
ويمكن القول في مصطلح الثبوت إنَّه يُرى من جهتين:
– من جهة كونه ثابتاً في نفسه.
– ومن جهة كون ثابتاً للغير لو أنَّ الحق أُسند للغير، أي أنَّ الحق ثابت لذلك الغير.
ثالثاً: ما يستحقّه الرجل(5).
رابعاً: مصلحة مستحقّة شرعاً(6).
والصحيح أنَّ الحق هنا يعني الثبوت والوجوب والمطابقة للواقع بالمعنى الذي يكون مفهوماً جامعاً لتلك المعاني، وليس كونه مشتركاً لفظياً، كما في لفظة العين مثلاً التي تعطي معاني متعددة، وهذا ليس غريب في اللغة العربية، حيث يستشهدون على كل لفظ بأمثلة متعددة إذ يكون كل مثال من تلك الأمثلة يحتوي على إشارة لجزئية من كُلّي المعنى.
وعليه فيمكن القول: إنَّ الحق هو اعتبار خاص له آثار مخصوصة.
ولا يقال: إنَّ هذا تطويل بلا طائل، بل هو مما له العناية في الوصول للحق بالمعنى الذي يتناسب مع موضوع الحق الذي نحن بصدده، فالمراد من الثبوت في معنى الحق هنا أعلى مراتب الثبوت فلا يخفى أنَّ الثبوت مفهوم مشكك، وعلى هذا قلنا في مفهومه المطابقة للواقع، بل يصل إلى رتبة اليقين، فيكون واجب على من عليه الحق وملزم له.
أمّا الموارد الخاصة التي أشرنا إليها فهو ناتج الاختلاف في التعاريف التي صدرت عنهم إذ إنَّ ذلك الاختلاف ربما يكون ناتج من الاختلاف في المورد، من جهة كون المفهوم المراد تارة بالملك وأخرى بالسلطنة وأحياناً يكون التمايز عن كليهما فيكون له اعتباراً خاصاً يكون خارج تخصصاً ذلك، وقد يدل قول بعضهم على المفهوم.
والنتيجة ومما يتطلبه العدل والإنصاف أنَّ جميع التعاريف مع كونها لا تكون جامعة أو مانعة في بعض الأحيان، إلّا أنَّها ليست ببعيدة عن تعريف الحق، بل يمكن القول بصحتها في الجملة إن صح التعبير.
خامساً: زين العابدين بن نجيم: عرّف الحق بأنَّه: (الحق ما يستحقه الرجل)(7)، ولا يخفى إرادة الشمول في هذا التعريف فإنَّ لفظة ما تدل على شمول الأعيان والمنافع وجميع ما يطلق عليه الحق.
سادساً: الدكتور محمد يوسف موسى عرّف الحق بأنَّه: (مصلحة ثابتة للفرد أو المجتمع أو لهما معاً، يقررها الشارع الحكيم).
سابعاً: الأستاذ عيسوي أحمد عيسوي عرّف الحق بأنَّه: (مصلحة ثابتة للشخص على سبيل الاختصاص والاستئثار يقررها المشرع الحكيم).
ثامناً: الدكتور أحمد فهمي أبو سنة عرَّف الحق بأنَّه: (في عرف الفقهاء هو ما ثبت في الشرع للإنسان أو لله تعالى على الغير).
أهمية نشر الثقافة الحقوقية:
والحق – سواء كان بمعنى ميزة منحها القانون، كما عليه القانون الوضعي، أم أولوية تستبطن مصلحة لذي الحق ذاتية أو جعلية مع استلزام مسؤولية تقع على الطرف الآخر، كما عليه القانون الشرعي، له من الأهمية في البنية القانونية والفلسفية والفكرية والفقهية العالمية، والبنية السياسية والحضارية، التي تتطلب نشر الثقافة الحقوقية، ونتيجة لهذه الأهمية ينبغي لنا أن نسجل ثمرات ونتائج لمقولة الحق، منها:
١ – تحقيق العدالة بكافة مفاصلها، وإعطاء كل ذي حق حقه ورفض طغيان النزعة الفردية.
٢ – حفظ النظام ومنع لغة النفوذ والمقاصد الضيقة، وحاكمية النظام العقلائي.
٣ – منح الحرية الوسيعة كمّاً وكيفاً وفكراً وإدارة وتبياناً، والمقصود من وسعها هنا أعلى درجات الحق المستحق دون استغلال المفهوم المشكك فيه، فيكون مفهوم النسبية مسقط للعدالة، مع عدم قبول الحرية المطلقة التي تضيع حقوق الآخرين.
٤ – تثبيت القيم الإنسانية – مادية كانت أم روحية وشخصية أم اجتماعية وثقافية -.
المحور الثاني:
الحديث عن الحق تارة يكون في موضوع الحق، وأخرى في مسائله وأحكامه، وثالثة في المنهج المعتمد في التعامل مع الحقوق وهو المقصود هنا، فإننا نعتقد أنَّ المنهج المعتمد هو الوصول إلى الكرامة الإنسانية، أي تثبت الأولوية للفرد أو الجهة بما ينسجم مع مواهبه الذاتية ومقاصده وغايته، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ﴾ (الإسراء: 70)، ومما ورد في تفسير هذه الآية أنَّ النفس الإنسانية أشرف النفوس الموجودة في هذا العالم(8)، والسر في اتِّخاذ الكرامة الإنسانية كمنهج في حقوق الإنسان لأننا نؤمن أنَّ الإنسان خليفة الله في الأرض وأنَّه خلق في إطار الكمال الوجودي والسمو الروحي والعمران المادي وأنَّه كائن له نزعة قيمية وفردية واجتماعية ومادية معنوية، ونرى ضرورة كسب الإنسان منهج الحرية، شريطة أن تكون تحت بوتقة الكرامة، بمعنى أن لا تكون الحرية المطلقة سبب لانتهاك حرمته أو ضياع لحقوق الآخرين، ومن هنا نرى أنَّ الحرية وسيلة لتحقيق الحقوق الإنسانية لا أنها غاية في حدِّ ذاتها مما يجعلها حرية غير منضبطة.
ويتفرَّع على هذا المنهج المراد في هذا البحث، الكثير من النتائج والتي منها:
١ – منع العبادة التي تخدش كرامة الإنسان، كعبادة الأصنام والأمور المحقرة.
٢ – منع ما يخل بطبيعة الإنسان من الشذوذ الجنسي والمثلية والعبور الجنسي – تغيير جنس الإنسان -.
٣ – منع الإجهاض لكرامة الجنين.
٤ – عدم جواز الموت الرحيم كالموت السريري والسرطاني المحتوم.
٥ – كرامة الميت كالحي.
٦ – عدم الإذن في تضييع كرامة الإنسان ولو بإذنه.
٧ – ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشرائطهما.
٨ – عدم الإساءة للمقدسات والرموز الدينية وكل ما يتنافى مع السلم المجتمعي.
فالإسلام يملك ثقافة الحقوق كما يملك ثقافة الواجبات وقد حماها بالواعز الذاتي والجزاء الأخروي والقانون الجزائي، وبلغة الترغيب والترهيب وأمضى ملف الحقوق بسعته(9).
المحور الثالث: خصائص نظرية حقوق الإنسان في الإسلام
نظرية حقوق الإنسان في الإسلام نظرية متأصلة ومتجذرة ومستندها تكريم الله (عزَّ وجلَّ) للإنسان وجعله أسمى كائن في هذا الكون، وأنَّه خلق لهدف عظيم وخلق من نفس واحدة ولا مائز بين إنسان وآخر في الخلق في الحقوق، بل هي نظرية تطبيقية سياقية متكيفة مع طبيعة الإنسان وذاته.
ومن أهم خصوصيات حقوق الإنسان:
١ – كون مصدرها إلهي لا تقبل الحذف والتعطيل والنقص، وثابتة ومطَّردة.
٢ – منطلقها كرامة الإنسان وعزتَّه وسموه، وبالتبع حريته الكونية.
٣ – أسبقية الإسلام على المواثيق والشرائع الوضعية في إرساء مبادئ الحقوق، فالقرآن الكريم والسنة يعجان برسالة الحقوق بمعناها الوسيع.
٤ – التقديس لمنظومة الحقوق واعتبارها من الضروريات، وأنَّ ما سنَّته الحضارة الإسلامية من حقوق هو فرض إلهي وعقيدة إلزامية.
٥ – حقوق الإنسان شرّعت بأصل الخلق فهي غاية الدين العليا، فالحقوق توأم الدين.
٦ – إنَّ حقوق الإنسان تسير في محاور أهمها أربعة:
أ – الحقوق السياسية.
ب – والحقوق المدنية مادية وروحية.
ج – والحقوق الاقتصادية.
د – والحقوق الاجتماعية.
لذا نحتاج في فهمهما المعمَّق إلى ملاحظة خصوص المشرّعين وصياغة الفقهاء ومتابعة أقوال الفلاسفة والخلقيين، كذلك ينبغي حماية الحقوق في مجال الممارسة والتطبيق لتكون نظرية واقعية.
المحور الرابع: تحديات حقوق الإنسان العالمية
هناك عدَّة تحدِّيات تواجه حقوق الإنسان والتي رسمتها الأنظمة الوضعية ومن هذه التحديات:
١ – الفجوة بين النظرية والخطاب بسبب عدم جعله مضموناً مقدّساً، أو إخفاق في المحركية والوعي.
٢ – الحقوق الأساسية ما زالت تمارس بشكل تفاضلي وانتقائي وأيدلوجي وتسويقي لمأرب سياسية واستيلائية.
٣ – لم يتمكَّن العالم من تنظيم وإرساء الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقيمية، بل جعلها مجرد شعارات براقة …!
٤ – المفهوم المتداول به اليوم عالمياً لحقوق الإنسان وُلد وترعرع في أحضان النظام الليبرالي والمذهب الفردي والمدرسة الوضعية، مرتكزاً على مفهوم معيَّن للحرية وجعله غاية(10)، وكذا النظام الرأسمالي، وجعل التفاوت الطبقي ومبدأ اللامتكافئ في توزيع الثروة، بل حتى الديمقراطية هي ديمقراطية رأسمالية، فهي مشروعية إنسانية ناقصة، طغت فيها قيم الاستغلال والاستلاب والظلم الاجتماعي، بل قد أهملت هذه النظرية الإنسان الاجتماعي، فهي نظرية تؤمن حق الفرد دون المجتمع، وعدم الاهتمام بالآخرين، وتجعله وجوداً مادياً غريزياً خالياً من أي كمال معنوي وروحي.
والحمد لله ربِّ العالمين وأفضل الصلاة والسلام على رسول الله وآله الطيبين الطاهرين.
(1) الجوهري، إسماعيل بن حماد، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، ١٤٦٠، ٤، مادة حق.
(2) القزويني، أحمد بن فارس بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، ٢، ١٥، مادة حق.
(3) انظر: الأصفهاني، محمد حسين، حاشية المكاسب، ١، ٤١.
(4) الأصفهاني، محمد حسين، حاشية المكاسب المحرمة، 1، 38.
(5) ابن عابدين، محمد أمين، حاشية رد المحتار على الدر المختار، ٥، ٣١٤.
(6) الخفيف، علي، الحقّ والذمة وتأثير الموت فيهما، ٣٦.
(7) ابن نجيم، زين الدين، البحر الرائق، 6، 227.
(8) انظر: فخر الدين الرازي, محمد بن عمر, مفاتيح الغيب (التفسير الكبير) تفسير الرازي: 21.
(9) جدير بالذكر هنا أنَّ السعة التي أمضاها الإسلام ارد فيها عدم إنقاص شيئاً من الحقوق, أي أنَّ الحق لابد أن يحفظ لصاحبه كاملاً, وهذا غير إعطاء الحرية بسعتها التي تؤدي إلى ضياع أو المساس بحقوق الآخرين.
(10) وقد فصَّلنا ذلك بعدم كون الحرية غاية.