شبهة فهم القرآن

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علىٰ سيد الخلق أجمعين محمد وآله الطاهرين.

المقِدمة:

الشبهات بمفهومها العام تقع علىٰ مواضيع متعدِّدة وعلوم مختلفة، وليس من الضروري أن تكون الشبهات مختصة في دين معين أو مذهب ما بين الأديان، بل الشبهات عامة تخص جميع الأديان والمذاهب، والمختصّون في الرد علىٰ تلك الشبهات دائماً ما يتصدّون لردِّها إيماناً بما يعتقدون به أو يعلمونه، وقد يكون ذلك بتعصُّب، إلّا أنَّ الحق والإنصاف أن يتعامل من يتصدّىٰ للرد علىٰ الشبهات بالعلم والمعرفة دون اللجوء إلىٰ الجدل والنزاعات، والتسليم بأي فكرة تنمّي فكر الإنسان وتُرسِّخ عقيدته حتّىٰ وإن كانت بعنوان شبهة، وحتّىٰ إذا غُض النظر عن أهداف صاحب الشبهة، لذا فإننا اعتمدنا في ردِّنا علىٰ الشبهات علىٰ منهج ربما يكون جديداً، وأسلوب قد يختلف عن الأساليب المعروفة في الرد علىٰ الشبهات، فإنَّ المعروف عمن يرد علىٰ شبهةٍ ما أنَّه يقدِّم الأدلة في رد تلك الشبهة وإثبات بطلان أدلة صاحب الشبهة وردّها، والمجيء بما يُثبت ما يتبنّاه، إلّا أنَّنا وبسبب انتشار الكثير من الشبهات التي تكون لأصحابها أغراض مشبوهة وغير علمية من جهة، ومن جهة أخرىٰ قد يأخذ المستهدف من الشبهة بعض الأدلة والإثباتات أخذ المسلَّمات دون الرجوع إلىٰ أصلها، ودون الانتباه إلىٰ بعض المغالطات التي يستعملها طارح الشبهة فيقع في مصيدة التضليل دون أن يعلم، وأيضاً يعمد بعض أصحاب الشبهات إلىٰ استخدام إعلام كاذب في تواتر بعض القضايا التي لا تواتر فيها وربما لا وجود لها أصلاً، وبهذه الأساليب قد ينطوي الأمر علىٰ المستهدف من الشبهة ويسلِّم بها، وقد يقوده هذا التسليم إلىٰ الانحراف عن جادة الحق، فالمناهج المتَّبع في الرد علىٰ الشبهات متعدِّدة كالوصف والتحليل مثلاً أو بمنهج الاستقراء، والبعض يعتمد علىٰ ما موجود في القرآن والسُنَّة كدليل وحيد للرد علىٰ الشبهات بإيراد النصوص ودلالتها، ومما هو واضح في الرد علىٰ الشبهات هو العناية بالأدلة العقلية وتنوعها ثم استخدام أسلوب التدرُّج في بيان المراد، وهذا وإن كان بمجمله جيِّد وقد يفي بالغرض كون الأدلة النقلية علىٰ مستوىٰ القرآن والسُنَّة عالجت الكثير من تلك الشبهات ولا استغناء عنها أصلاً، إلَّا أنَّ اتِّباع منهج جديد وأساليب متعدِّدة مكملة لما متَّبع في الرد علىٰ الشبهات لاسيما في زمن سرعة الانتشار وسعة التلقي والوصول إلىٰ الفئة المستهدفة بسرعة، وانطواء بعض المغالطات علىٰ الكثير ممن كان محدوداً في ثقافته يجعل من انتشار الشبه وتصديقها أمراً سهلاً.

جدير بالذكر أن الاكتفاء بمنهج الرد بالدليل النقلي علىٰ الدليل النقلي مثلاً ربما يوقع الفئات المستهدفة في حيرة بين تصديق أي الدليلين بعد أن عمدوا أصحاب الأجندات المشبوهة إلىٰ فقدان الثقة بمن يجب الوثوق بهم وإن كانت نسبياً، من هذا وذاك نرىٰ ضرورة إيجاد منهج جديد في الرد علىٰ الشبهات بما يتناسب والوضع العام بين طرح الشبهات ومن يُستهدف بها.

خلاصة المنهج الجديد:

نرىٰ أنَّ اتِّباع منهج جديد في الرد علىٰ الشبهات ربما يكون بمثابة الوقاية من تلك المحاذير التي أشرنا إليها، فالمستهدفون بعد اطِّلاعهم علىٰ رد الشبهات بالمنهج الجديد قد تحصل لهم حالة من الوقاية في السقوط بشباك أصحاب الأجندات المشبوهة.

ويمكن تلخيص المنهج الجديد بالنقاط الآتية:

1 – بيان أصل الشبهة ومنشؤها.

2 – معرفة القائلون بالشبهة والرادون عليها.

3 – بيان غرض صاحب الشبهة.

4 – تحديد الفئة المستهدفة.

5 – كيفية التعامل مع الشبهة من جهة صدق أدلتها والبحث عنها.

وغير ذلك مما نتَّبعه في هذا المنهج، لغرض التوعية في التعامل مع الشبهات مضافاً إلىٰ ردِّها، وسيتَّضح كل ذلك من خلال الرد علىٰ شبهة فهم القرآن.

شبهة فهم القرآن:

شبهة فهم القرآن من الشُبَه التي انتشرت علىٰ نطاق واسع، وتتلخص بإمكان فهم القرآن من أي أحد حتىٰ الأُمي، والتصدي لرد مثل هذه الشبهة يدخل ضمن دائرة الرد علىٰ الشبهات المختلف إذ إنَّه وردت نصوص ومفاهيم عديدة بهذا الخصوص، كلها تقع ضمن دائرة واحدة، وهناك نصاً مطروحاً نورده هنا ليكون منطلقاً للرد علىٰ هذه الشبهة، علماً أنَّ كل النصوص في هذه الشبهة لا تختلف من حيث المضمون إلّا بصياغات وألفاظ لا تخرجها عن وحدة موضوعها، علىٰ أنَّنا سنتناول جوانب عديدة في هذا الإطار.

أولاً: نص الشبهة

يقول أصحاب الشبهة:

(أوجد هؤلاء لدىٰ عوام الناس أنَّ القرآن لا يمكن فهمه إلّا من قِبَل العلماء، وأن العوام من الناس لا يمكنهم فهم القرآن مباشرة، بل يجب عليهم أن يتَّبعوا العلماء فيما يريدون فهمه من القرآن علماً بأن النبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلم) كان يقرأ القرآن علىٰ المشركين وهم أُمِّيون دون أن يحتاجوا إلىٰ تفسير في فهمه ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ﴾ (البقرة: 99)، ولم يقل: (أنزلنا إليك آيات معقدات).

منهج الرد علىٰ الشبهة:

نرىٰ أنَّ وجود منهجاً منظماً للرد علىٰ أيَّة شبهة يقع في طريق أحكام الرد وسد الثغرات والابتعاد عن العشوائية وإمكان الاستفادة من مثل هذه الأجوبة من فئات ومستويات مختلف مما يؤدي إلىٰ الغرض الذي لأجله يتم التصدي للرد علىٰ أيَّة شبهة مضافاً إلىٰ ذلك سيكون العدل والإنصاف مبدئاً في الابتعاد عن الجدل والتدليس وطرح المغالطات وكما يأتي:

خلاصة الشبهة ودليلها:

(القرآن لا يحتاج إلىٰ تفسير ويمكن فهمه حتّىٰ من قِبَل الأُمّي).

دليلهم: يدَّعون أنَّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقرأ القرآن علىٰ الأُميين دون أن يحتاجوا إلىٰ تفسير… وهذه دعوىٰ بلا دليل، فمن قال إنهم لم يحتاجوا إلىٰ تفسير؟

ويستدل علىٰ رأيه بالآية الكريمة: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ﴾ (النور: 34)، دون أن يستند إلىٰ دليل علىٰ الآية المرادة هنا من أي نوع من الآيات من قبيل كونها من آيات القرآن أو من الآيات الأخرىٰ مع الغفلة أو التغافل عن الآيات ذات الصلة التي تنفي المدَّعىٰ والتي سنشير إليها في الرد.

ومن الجدير بالذكر هنا الإشارة إلىٰ أنَّ الشبهة تقع تحت عنوان الشبه الإسلامية، أي أنَّ مدَّعيها من المسلمين ويؤمنون بالله ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلم) والقرآن الكريم، وهذه الإشارة مما يقتضيه منهج الرد في تصنيف الشبهات، فعندما يكون صاحب الشبهة مسلم غير أن يكون من غير المسلمين، وأن يكون من مذهب ما غير ما يكون من مذهب آخر، وهذا يقع تحت منهج الرد من حيث الرد والأدلة كما هو واضح، فربما يكون صاحب الشبهة يأتي بدليل يلزم نفسه في رده بدليل مشابه أو من مصادر هو أقر بها إذ لابد من إلزامهم بما ألزموا به أنفسهم.

الغرض من الشبهة:

بيان الغرض من الشبهة واحد من أهم الأسباب التي تؤدي إلىٰ معرفة صاحب الشبهة ومراده، مما يسلِّح الفئة المستهدفة بسلاح يمنعهم من التسليم الفطري أو الساذج بما يُطرح، ويعطي الفرصة للتفكر ملياً والبحث عن الحق فيما يُطرح، وهنا لا يخفىٰ مراد صاحب الشبهة بأدنىٰ تأمل لأن غرضه صرف الناس عن اتِّباع العلماء لصدهم عن معرفة الدين، لاسيما ما ينقل من الشريعة بالقرآن والسنة، وبالتالي إضلالهم والإصرار علىٰ إلغاء الاختصاص في العلم.

الفئة المستهدفة من طرح الشبهة:

لا يخفىٰ أنَّ من يتبنّىٰ ويطرح مثل هذه الشبهات لا يمكن حسن الظن به(1)، لأنهم غالباً لا يبحثون عن الحقيقة بل همُّهم الإضلال لا الهداية، ولذا لم نجد يوماً طارح أو متبنّي لشبهةٍ ما، أقرَّ بأي حقيقة إلّا ما ندر، بل يختلق الأكاذيب ويحتج بحجج واهية ويستند إلىٰ أدلة هزيلة وإلىٰ المغالطات والجدل الأعمىٰ، لذا نجدهم يسعون إلىٰ توسعة نطاق الفئات المستهدفة قدر الإمكان، إلّا أنَّ الفئة الرئيسية المستهدفة هي فئة الشباب لاسيما ممن لم يتحصَّنوا من براثن الشيطان فيؤدي إلىٰ الابتعاد عن العلماء والغرق في الجهل الذي يقودهم إلىٰ الضلال، علماً أنَّهم يناقضون أنفسهم لأنهم يعملون علىٰ قيادة الفئة المستهدفة بعد حرفهم عن القيادة المختصة الحقة دون أن يشعر المتأثر بهم أنَّه خرج من قيادة أهل الحق إلىٰ قيادة أخرىٰ مضللة.

منشأ الشبهة وقدمها والقائلون بها:

مما هو واضح ومصرَّح به فإنَّ صاحب الشبهة اعتمد علىٰ قوله تعالىٰ: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ﴾ (النور: 34)، وهي مغالطة واضحة إذ الآية الكريمة تتحدَّث عن الآيات المبينات للأحكام من الحلال والحرام، لا أنَّ المعاني التي جاء بها القرآن من كونها واضحة بيِّنة لا تحتاج إلىٰ بيان، وأنَّه غفل أو تغافل بل وتعمَّد إلىٰ عدم إكمال الآية بنص: ﴿… وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ (النور: 34)، جاء في تفسيرها (يعني الحلال والحرام والحدود وأمره ونهيه مما ذكر في هذه السورة إلىٰ هذه الآية، ثم قال سبحانه: ﴿وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ يعني سنن العذاب في الأُمم الخالية، حين كذبوا رسلهم (وموعظة) يعني وعظه (للمتقين)، تفسير سورة النور من الآية: 35-38)(2).

ومما يجب بيانه هنا أنَّ التشابه في آيات القرآن ببعض نصوصها، أو تكرارها في مواطن عدَّة قد يُستغل من قبل صاحب الشبهة للمراوغة في إثبات صحة مدَّعاه، ولذلك نتعرَّض هنا لذكر الآية التي تقترب ألفاظها من الآية التي نحن بصددها حتّىٰ لا يبقىٰ مجال للمراوغة والإيهام، ونبيِّن دلالتها أيضاً، فقوله تعالىٰ: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ﴾ (البقرة: 99) والتي جاء في تفسيرها: (القول في تأويل قوله تعالىٰ: (ومكنون سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلّا أحبارهم وعلماؤهم، وما حرفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه من أحكامهم، التي كانت في التوراة، فأطلعها الله في كتابه الذي أنزله علىٰ نبيه محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم).

فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف نفسه ولم يدعه إلىٰ إهلاكها الحسد والبغي، إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة تصديق من أتىٰ بمثل الذي أتىٰ به محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) من الآيات البينات التي وصفت من غير تعلم تعلمه من بشر ولا أخذ شيء منه عن آدمي، وبنحو الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس.

– حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ﴾ (البقرة: 99) يقول: فأنت تتلوه عليهم وتخبرهم به غدوة وعشية وبين ذلك، وأنت عندهم أُمّي لم تقرأ كتاباً، وأنت تخبرهم بما في أيديهم علىٰ وجهه، يقول الله: (ففي ذلك لهم عبرة وبيان وعليهم حجة لو كانوا يعلمون).

– حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولىٰ زيد بن ثابت، عن عكرمة مولىٰ ابن عباس، وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال ابن صوريا القطيوني لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بيِّنة فنتَّبعك بها فأنزل الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ﴾ (البقرة: 99).

– حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولىٰ زيد بن ثابت، قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال ابن صوريا لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فذكر مثله)(3).

ومن هنا يتَّضح معنىٰ الآيات التي ذكرت في القرآن لا ما ذهب إليها صاحب الشبهة من معنىٰ في أنَّ المراد منها أن ألفاظ القرآن لا تحتاج إلىٰ بيان معتمداً علىٰ ذلك في عدم الحاجة إلىٰ التخصص في فهم الآيات وأنَّ كل الناس ومنهم الأُمّي يمكنهم فهم القرآن، هذا هو منشأ الشبهة عند صاحبها ومن سبقه في مثل هذا وإن تعدَّدت أدلتهم فالرد علىٰ الشبهة محكم مهما كان دليلهم وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله.

أمّا قِدَم الشبهة والقائلون بها أو من تصدىٰ لرد مثلها فقد ورد الرد: أمّا من جهة تقدير من يقول بهذه الشبهة يعني علىٰ فرض وجودها، أو من جهة وقوع القول فيه فعلاً، وعلىٰ أية حال فإننا سنبيِّن أنَّ من يتصدىٰ لنشر هكذا شُبَه وإشكالات فهو لا يعدو كونه يسترق السمع من هنا وهناك فيختلق ما يوقع الشك والشُبَه بين الناس لنيل ما توسوس به نفسه، فنقول:

إنَّ مسألة التأكيد علىٰ فهم القرآن وتأويله ليست بالمسألة الجديدة فقد تصدىٰ القرآن الكريم لذلك عند نزوله، وذكرت آياته مسألة تأويل القرآن ومن يختص به كما وردت الروايات الكثيرة لدىٰ الفريقين في ذلك أيضاً، أمّا في تفسير الآية التي ذكرت تأويله أو في غيرها فلا خلاف علىٰ إجماع المسلمين علىٰ ضرورة فهم القرآن وتفسيره، بل أن القرآن صرَّح بذلك من أن القرآن يحتاج لبيان ما نزل إلىٰ الناس، وأن النبي مكلَّف ببيانه للناس كما في قوله تعالىٰ: ﴿وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ (النحل: 44)، وفيها دليل كون النبي (صلىٰ الله عليه وآله وسلم) مفسراً ومبيِّناً للقرآن، وأنه لا يمكن لأي أحد فهمه كما يدَّعي صاحب الشبهة.

مضافاً إلىٰ ذلك تصدي العلماء لتفسير القرآن، وهذه تفاسير الفريقين منذ العصر الأول للإسلام واضحة جلية، وبغض النظر عن مناهج التفسير وأنواعه وما قيل ويقال في ذلك لأنَّه ليس غرض بحثنا هنا، فالمهم هو إثبات التصدي للتفسير حتّىٰ عند المتشددين.

ومما يدل علىٰ قِدَم الإشكال في فهم القرآن والاحتياج إلىٰ تفسيره هو مسألة تأويل القرآن في موارد الخلاف التي وقعت بين المفسرين ومنشأ الخلاف ومثاله هو في تفسير قوله تعالىٰ: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا﴾ (آل عمران: 7) فقد ورد عن ابن عباس: إنَّه قال في هذه الآية: أنا ممّن يعلم تأويله(4).

وكذا قال الرازي: ﴿وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ…﴾ (آل عمران: 7) اختلف الناس في هذا الموضع، فمنهم من قال: تمّ الكلام هاهنا، ثمّ الواو في قوله: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ واو الابتداء، وعلىٰ هذا القول لا يعلم المتشابه إلَّا الله، وهذا قول ابن عبّاس وعائشة ومالك بن أنس والكسائي والفرّاء، ومن المعتزلة قول أبي علي الجبائي، وهو المختار عندنا -أي عند الرازي-.

والقول الثاني: إنَّ الكلام إنَّما يتمّ عند قوله: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ وعلىٰ هذا القول يكون العلم بالمتشابه حاصلاً عند الله تعالىٰ وعند الراسخين في العلم، وهذا القول أيضاً مرويّ عن ابن عبّاس ومجاهد والربيع بن أنس وأكثر المتكلِّمين)(5).

ثم أكدت الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بأنَّ لابد للعلماء من أن يدقّقوا في فهم القرآن، لأن فيه تبيان لكل شيء ولكل ما يحتاجه الناس، فقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلَّا وله أصل في كتاب الله (عزَّ وجلَّ)، ولكن لا تبلغه عقول الرجال)(6) وفي هذا دلالة علىٰ ضرورة أن يستوحي العلماء عمق وامتداد القرآن حتّىٰ يصلون إلىٰ شموله لكل شيء فالجمود علىٰ حروفه وكلماته قد تقف بالإنسان علىٰ المعاني الحرفية للكلمات فقط.

كما ورد في الحديث عن أبي الحسن موسىٰ (عليه السلام)، ردّاً علىٰ سؤال أحدهم: (قلت له: أكلّ شيء في كتاب الله وسُنَّة نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلم) أم تقولون فيه؟) -ومن هنا یتَّضح أن في زمن الأئمة (عليهم السلام) كان هناك انتشار لمثل هذا الجدل في بعض الشبهات التي تطرح من هنا وهناك- (قال: قلت له: أكلّ شيء في كتاب الله وسُنَّة نبيِّه أو تقولون فيه؟ قال الإمام (عليه السلام): بل كلّ شيء في كتاب الله وسُنَّة نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلم)(7).

ونستوحي من هذا أنَّ المشكلة ليست في قصور كتاب الله وسُنَّة نبيِّه عن تلبية الحاجات العامّة والخاصّة للإنسان، مما يحتاج إلىٰ أن يعرف أحكامه، بل المشكلة هي في جمود الذهنية التي تفهم كتاب الله.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «ما لم يوافق من الحديث القرآن، فهو زخرف»(8).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «خطب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) بمنىٰ قال: أيّها الناس، ما جاءكم عني يوافق كتاب الله، فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله، فلم أقله»(9)، فقد أراد أن يربط الناس بالقرآن علىٰ أساس أنَّه الأصل، وأراد أيضاً أن يكذّب الكذابة التي كثرت عليه، بإرجاع الناس إلىٰ القرآن، فلا يتركهم يستغلون قداسته عند الناس، ليقدموا إليهم أحاديث خلاف القرآن.

وفي هذا دلالة علىٰ ضرورة أن تفهم السُنَّة بفهم القرآن وإلّا فإنَّ الحقيقة الواقعة خارجاً والتي لا تقبل الشك هو أنَّ ما جاء عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) عند عرضه علىٰ القرآن لا يقصد به مطابقة الكلمات بالنص كلمة كلمة وإلّا لوكان مطابقاً بكلماته فهو لم يأتي بشيء جديد مع وجود كلماته نصاً، وهذا يدل علىٰ ضرورة فهم القرآن والسنة وتفسيرهما حتىٰ نرىٰ ما إذا كان يوافق القرآن أو لا، ولا حاجة لمزيد بيان في ذلك عند كل أحد حتّىٰ الأُمّي.

ثم إنَّه ما معنىٰ قوله تعالىٰ: ﴿وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ (آل عمران: 7)؟

وهل هؤلاء الراسخون في العلم هم في زمن نزول القرآن أم وجودهم إلىٰ قيام الساعة؟ أم أنَّ علم التأويل مقتصر علىٰ الله وحده؟ وقوله: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ بداية كلام جديد؟

ولو كانت بداية جديدة فهو دليل علىٰ أنَّ هناك من هو راسخ في العلم وبهذا تصنيف الناس إلىٰ من هو راسخ في العلم ومن هو غير راسخ في العلم، ثم أنَّ هذا المعنىٰ مع التنزُّل يثبت وجود الاختصاص في العلم وهو مما فيه الرد علىٰ صاحب الشبهة من عدم الحاجة إلىٰ الاختصاص في هذا العلم.

وهنا من الواضح أنَّ محل الخلاف بين العلماء في موضع الوقوف – بين ما يكون الوقف علىٰ لفظ الجلالة ﴿وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ﴾ وأنَّ ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ جملة جديدة، أو أنَّ الراسخين في العلم معطوف علىٰ لفظ الجلالة ولا يتعيَّن الوقف علىٰ لفظ الجلالة – يرجع إلىٰ معنىٰ التأويل والمراد منه.

وبغض النظر عن البحث في صحة الوقوف من عدمه لأننا لا نريد الإطالة في البحث بما هو خارج عن محله فإنَّ في ذلك دلالة لا تقبل الشك في لابدية فهم وتفسير القرآن من ذوي الاختصاص وليجيب صاحب الشبهة كيف يخرج من مثل هذا، فبأي تفسير ذهب فقد فسر وشرح المعنىٰ أم أنَّه يدعو لنفسه مختصاً بالقرآن دون غيره؟!

إلزام صاحب الشبهة بما يلزم به نفسه:

صاحب الشبهة الزم نفسه بالقرآن والروايات إذ إنَّه احتجَّ بهما، فلا مناص له من قبول الرد بهذين الموردين مع حفظ خصوصياتهما.

– اعتراف صاحب الشبهة ببشرية القرآن تارة واحتوائه علىٰ التناقض تارة أخرىٰ، وفهمه من قبل حتىٰ الأُمي، واحتجاجه بضعف وعدم صحة الروايات – وهذا ما يطرح عند أصحاب مثل هذه الشبهة فهذا الطرح وإن لم يذكر بالنص في هذه الشبهة إلّا أنَّه مطروح معلوم مما لا يخفىٰ – وهذا مردوداً عليه لاحتجاجه بها، أي أنَّ صاحب الشبهة احتجَّ بدليل قرآني وآخر روائي، فلابد من أن يقبل الرد بهذين الموردين وإلّا بطل استدلاله وعليه لابد من الإذعان إلىٰ آلية تمنع من هذه المحاذير.

– فهم القرآن من قبل الناس مع وجود آيات الأحكام يعني أن أحد من الناس قادر علىٰ استنباط الأحكام الشرعية منه ولأن بعض الأحكام وردت في السنة بلا أدنىٰ تأمل، فهذا يعني أن أي إنسان وإن كان أُمّي بإمكانه فهم الدين واستنباط الأحكام الشرعية من القرآن والسنة بلا حاجة لأي معرفة، وهذا باطل بحكم العقل والوجدان والحقيقة الخارجية.

– قبول الشبهة تؤدي إلىٰ محاذير عقلية:

سنبين هنا المحاذير العقلية الناتجة من قول صاحب الشبهة وكما يأتي:

– إلغاء التخصصات العلمية، وإلّا فخصوصية الدين بإلغاء التخصص فيه لا دليل عليها ولا يقول به عاقل.

– إلغاء كل أنواع المعرفة وعدم تمايز العلوم لعدم الحاجة اليها لإمكان أي إنسان وإن كان أُمّي معرفة جميع العلوم وهنا أيضاً جعل الخصوصية بعدم الحاجة للتخصص في العلوم الدينية لا دليل عليها.

– يلزم اختصاص القرآن والدين الإسلامي بالعرب دون غيرهم وإلّا غير العربي كيف يفهم الدين وما ورد في القرآن والسنة، وأن الاستعانة بالترجمة يرجعنا إلىٰ ما أفدناه لأن الترجمة علم من العلوم كما لا يخفىٰ.

– لا يمكنه رفض الرد بالآيات القرآنية ولا يحق له تفسيرها أو تأويلها لما ألزم نفسه بذلك كما جاء به دليلاً واحتجَّ به، وإلّا فالنتيجة إمّا التناقض وإمّا الحاجة إلىٰ التفسير والفهم وهذا ما لا يقره صاحب الشبهة لاحتجاجه بالآيات.

– في القرآن حروف مقطعة ولابد من وجود دلالة فيها مهما كان نوع تلك الدلالة وعليه فأين فهم كل أحد وإن كان أُمّي لهذ الحروف أو الرموز، وإن أمكن عن طريق وضع تفسيراً لذلك ولو علىٰ نحو الجواب السلبي – أي كونها بلا معنىٰ – فنتيجة ذلك أنَّه يقوم بشرح وتفسير لهذه الآيات وفي هذا دلالة علىٰ إمكان فهم القرآن لجماعة دون أخرىٰ وهو المطلوب، وإن قلت: إنَّ هذه الحروف لا فائدة ولا معنىٰ فيها فقد وقعتم في دائرة التفسير لأنكم تميزون ما به الفائدة من غيره، مضافاً إلىٰ ذلك فالكل متفق علىٰ أنَّ الباري (عزَّ وجلَّ) حكيم لا يصدر منه شيء عبثاً أو بلا معنىٰ، وإن قلتم بغير ذلك سقط ما بيننا وخرجتم عن معرفته سبحانه وتعالىٰ.

هذا ما يقتضيه المقام من هذه الجهة أمّا بعض ما يصلح أن يكون جواباً نقلياً من الكتاب والسنة فنختصره بالتالي:

الرد النقلي علىٰ الشبهة:

وهنا نتعرض إلىٰ ما نقل مما يصلح أن يكون رداً نقلياً علىٰ الشبهة:

– هناك إجماع لدىٰ المذاهب الإسلامية بضرورة اختصاص من له تفسير القرآن من جهات عدة نوجز منها:

– قال الإمام مالك: لا أُوتَي بِرَجُلٍ غير عالم بِلُغَاتِ العَرَب يُفَسِّر كِتاب الله إلَّا جَعَلْتُه نَكَالاً.

– ومن جهة التفسير بالرأي:

روىٰ الصدوق بإسناده عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال (جلّ جلاله): ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي…)(10).

وقال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «إيّاك أن تفسر القرآن برأيك حتّىٰ تفقهه عن العلماء)(11).

وروىٰ أبو جعفر الطبري، بإسناده عن ابن عباس، عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «من قال في القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار»(12).

– التفسير بمجرد اللغة ممنوع من جهة أنَّ القول بِتَفْسِير القرآن بِلغُة العَرَب لا بُدَّ له مِن قَيد، وهو أنْ يَجْرِي علىٰ أصُول المُفُسِّرِين، وأن لا يَكون نَتِيجَة مُسَارَعَة في تَفْسِير القرآن بِظَاهِر العَرَبِيَّة.

قال الإمام القرطبي في تفسيره: فَمَن لَم يُحْكِم ظَاهِر التَّفْسِير وبَادَر إلىٰ اسْتِنْبَاط المَعَاني بِمُجَرَّد فَهْم العَرَبية كَثُر غَلَطُه، ودَخَل في زُمرَة مَن فَسَّر القرآن بالرَّأي، والنَّقْل والسَّمَاع لا بُدّ لَه مِنه في ظَاهِر التَّفْسِير أوَّلاً لِيَتّقِي به مَواضِع الغَلَط، ثم بعد ذلك يَتَّسِع الفَهْم والاسْتِنْبَاط(13).

– ورد في الآيات من التدبر في القرآن دليل علىٰ إمكان فهم القرآن عند البعض وأنَّه داخل في إمكان من أراده ولو كان متاح لكل أحد لما اعتبره قفل علىٰ القلوب ولو كان الخطاب للمشركين الذي ادَّعىٰ صاحب الشبهة أنَّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يقرأ القرآن علىٰ المشركين دون أن يحتاجوا إلىٰ تفسير وهم أُميون.

قال الإمام البغوي في تفسيره وهو من أعلام القرن الخامس: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلىٰ قُلُوبٍ أَقْفالُها﴾ (محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم): 24)، فلا تَفهم مَواعظ القرآن وأحكامه، وأَمْ بمعنىٰ (بل)(14).

وقال الإمام القرطبي في تفسيره: قوله تعالىٰ: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾، أي: يَتَفَهّمونه فيعلمون ما أعدّ الله للذين لم يتولّوا عن الإسلام(15).

ومما لابد من بيانه هنا أن بعض الآيات الكريمة وردت فيها ألفاظ تحتمل عدة معاني من الناحية اللغوية، وبهذا فلابد من معرفة المراد منها فمما لا يقبل الشك أن اللغة العربية تحتوي علىٰ معاني متعددة في اللفظ الواحد الذي تسمىٰ ألفاظ مشتركة ومجازية، فكيف يهتدي أي أحد إلىٰ معرفة ذلك وإن كان عالماً باللغة بدون بيان دليل فيحتاج إلىٰ التفسير والتأويل بحسب الأصول المعدة لذلك والتي ليس محلها هنا، كل ذلك فضلاً عن الأُمي الذي يريد المستشكل منه فهم القرآن دون الحاجة إلىٰ تفسير وتخصص، وسنذكر جملة من الآيات التي تحتمل أكثر من معنىٰ وهي في البيان أبلغ وفيها كفاية في رد الإشكال دون الحاجة إلىٰ مزيد من البيان.

معنىٰ (القرء) في القرآن:

﴿وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (البقرة: 228).

الآيات في أحكام الطلاق والعدة وإرضاع المطلقة ولدها، وفي خلالها شيء من أحكام الصلاة. 

قوله تعالىٰ: ﴿وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾، هنا نختصر علىٰ بيان معنىٰ القروء:

القروء جمع قرء(16)، وهو لفظ يطلق علىٰ الطهر والحيض معاً، فهو علىٰ ما قيل من الأضداد، غير أنَّ الأصل في مادة قرء هو الجمع لكن لا كل جمع بل الجمع الذي يتلوه الصرف والتحويل ونحوه، وعلىٰ هذا فالأظهر أن يكون معناه الطهر لكونه حالة جمع الدم ثم استعمل في الحيض لكونه حالة قذفه بعد الجمع، وبهذه العناية أطلق علىٰ الجمع بين الحروف للدلالة علىٰ معنىٰ القراءة، وقد صرح أهل اللغة بكون معناه هو الجمع، ويشعر بأن الأصل في مادة قرء الجمع، قوله تعالىٰ: ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ (القيامة: 16-18)، وقوله تعالىٰ: ﴿وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَىٰ النَّاسِ عَلىٰ مُكْثٍ﴾ (الإسراء: 106)، حيث عبر تعالىٰ في الآيتين بالقرآن، ولم يعبر بالكتاب أو الفرقان أو ما يشبههما، وبه سمي القرآن قرآناً.

قال الراغب في مفرداته: والقرء في الحقيقة اسم للدخول في الحيض عن طهر ولما كان اسماً جامعاً للأمرين: الطهر والحيض المتعقب له أطلق علىٰ كل واحد لأن كل اسم موضوع لمعنيين معاً يطلق علىٰ كل واحد منهما إذا انفرد، كالمائدة للخوان والطعام، ثم قد يسمىٰ كل واحد منهما بانفراده به، وليس القرء اسماً للطهر مجرداً ولا للحيض مجرداً، بدليل أن الطاهر التي لم ترَ أثر الدم لا يقال لها: ذات قرء، وكذا الحائض التي استمر بها الدم لا يقال لها ذلك.

وبناءً علىٰ ما تقدَّم فالقرآن الكريم يحتاج إلىٰ متخصص في بيان المراد من ألفاظه فضلاً عن معرفته من غير المختص وفضلاً عن معرفته من الأُمي فيدحض رأي صاحب الشبه بأدنىٰ بيان.

هذا بيان موجز للرد علىٰ الشبهة، وقدمنا محاولة لتطبيق منهج وفكر ربما يكون مغايراً لما عليه من أنواع الردود المتعارفة والغرض من ذلك تطبيق مناهج وفكر متميز وقواعد ربما تصلح أن تفتح أُفقاً وفكراً يكون بمثابة قواعد تنفع كل من يريد أن يحصن نفسه من براثن الشيطان وأن لا يكون فريسة لها لاسيما لمن ليس له دراية وعلم في الرد بالنصوص ولا يكون متخصص، فعلىٰ أقل تقدير فإنه يصبح له القدرة في المناورة بقضايا عقلية من قبيل ما ذكرنا وهذا ينفع في عدم أخذ الشبهة أخذ المسلمات ويتأثر بها وهو واحد من أهم الأهداف في الرد علىٰ الشبهات بتحصين الفئات المستهدفة.

والحمد لله رب العالمين

الخلاصة:

– وجود التفاسير عند الفريقين دليل الحاجة إليه.

– ﴿وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ (آل عمران: 7) اختلف العلماء في تفسير العالم بالتأويل هل الراسخون في العلم أو لا؟ وهذا دليل الاحتياج إلىٰ فهمه كما أنَّ الراسخون في العلم في زمن النص فقط أو في كل زمن؟ ولا دليل علىٰ اختصاصهم بزمن النص مع أن المستشكل لا يرىٰ الحاجة للتفسير حتىٰ في زمن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

– في الحديث عن أبي الحسن موسىٰ (عليه السلام)، ردّاً علىٰ سؤال أحدهم: قلت له: أكلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أم تقولون فيه؟، وهذا دليل علىٰ أنَّ حاجة الناس إلىٰ فهم القرآن في زمن الإسلام الأول فضلاً عن الأزمنة المتأخرة.

– فهم القرآن من قبل الناس مع وجود آيات الأحكام يعني أن أحد من الناس قادر علىٰ استنباط الأحكام الشرعية وإن كان أُمّي بلا حاجة لأي معرفة وهذا باطل بحكم العقل والوجدان والحقيقة الخارجية.

– ‏قال الإمام مالك: لا أُوتَي بِرَجُلٍ غير عالم بِلُغَاتِ العَرَب يُفَسِّر كِتاب الله إلَّا جَعَلْتُه نَكَالاً.

– قال الإمام القرطبي في تفسيره: فَمَن لَم يُحْكِم ظَاهِر التَّفْسِير وبَادَر إلىٰ اسْتِنْبَاط المَعَاني بِمُجَرَّد فَهْم العَرَبية كَثُر غَلَطُه، ودَخَل في زُمرَة مَن فَسَّر القرآن بالرَّأي، والنَّقْل والسَّمَاع لا بُدّ لَه مِنه في ظَاهِر التَّفْسِير أوَّلاً لِيَتّقِي به مَواضِع الغَلَط، ثم بعد ذلك يَتَّسِع الفَهْم والاسْتِنْبَاط.

– ومما ورد في الآيات من التدبر في القرآن دليل علىٰ إمكان ذلك عند البعض وأنَّه داخل في إمكان من أراده ولو كان متاح لكل أحد لما اعتبره قفل علىٰ القلوب ولو كان الخطاب للمشركين الذي ادَّعىٰ صاحب الشبهة أنَّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يقرأ القرآن علىٰ المشركين دون أن يحتاجوا إلىٰ تفسير وهم أُميون.

– وجود الاشتراك اللفظي في اللغة يلزمه معرفة القرائن الدالة علىٰ المراد من اللفظ، وهذا غير متاح لكل أحد مما يستدعي المعرفة في فقه اللغة فضلاً عن معرفتها من قبل الأُمّي ومثاله معنىٰ القرء الوارد في قوله تعالىٰ: ﴿وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (البقرة: 228)، فالقروء جمع قرء، وهو لفظ يطلق علىٰ الطهر والحيض معاً، فهو علىٰ ما قيل من الأضداد، فإن لمفردة القرء أكثر من معنىٰ فكيف يمكن معرفة المراد منها؟

المحاذير العقلية من قبول الشبهة:

– إلغاء التخصصات العلمية وكل أنواع المعرفة وعدم تمايز العلوم لعدم الحاجة إليها، لإمكان أي إنسان وإن كان أُمّي معرفة جميع العلوم، وإلغاء التخصص للعلوم الدينية لا دليل عليها.

– يلزم اختصاص القرآن والدين الإسلامي بالعرب، وإلّا غير العربي كيف يفهم الدين وما ورد في القرآن والسنة والاستعانة بالترجمة يُرجعنا إلىٰ ما أفدناه لأن الترجمة علم من العلوم التخصصية كما لا يخفىٰ.

– لا يمكن رفض الدليل القرآني ولا يحق له تفسيره لما الزم صاحب الشبهة نفسه بذلك، وإلّا فالنتيجة إمّا التناقض وإمّا الحاجة إلىٰ التفسير والفهم وهذا ما لا يقره صاحب الشبهة لاحتجاجه بالآيات.

– في القرآن حروف مقطعة ولابد من وجود دلالة فيها مهما كان نوعها وعليه فأين فهم حتىٰ الأُمي لهذ الحروف وإن أمكن التفسير لهذه الآيات فهو دليل إمكان فهم القرآن لجماعة دون أخرىٰ وهو المطلوب، وإن قلت: إن هذه الحروف لا فائدة ولا معنىٰ فيها فقد وقعتم في دائرة التفسير لأنكم تميزون ما به الفائدة من غيره، مضافاً إلىٰ ذلك فالكل متَّفق علىٰ أنَّ الباري (عزَّ وجلَّ) حكيم لا يصدر منه شيء عبثاً.

 

 

 

الهوامش:


(1) بدليل:

– (ما ورد عن رسول الله (صلىٰ الله عليه وآله): «احترسوا من الناس بسوء الظن». (ابن شعبة الحراني، الحسن بن علي، تحف العقول عن آل الرسول، ص65).

– الإمام علي (عليه السلام): «… وإذا استولىٰ الفساد علىٰ الزمان وأهله فأحسن رجل الظن برجل فقد غرر». (خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، نهج البلاغة، 2، 485).

– الإمام الكاظم (عليه السلام): «إذا كان الجور أغلب من الحق لم يحل لأحد أن يظن بأحد خيراً حتىٰ يعرف ذلك منه». (الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، 5، 298).

(2) الأزدي، مقاتل بن سليمان، تفسير مقاتل بن سليمان، 2، 418.

(3) الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل آيات القرآن 1: 618.

(4) وكما أكدنا ونؤكد علىٰ أننا لسنا بصدد إثبات صحة الأقوال بقدر ما نريد التأكيد علىٰ قدم المسألة.

(5)الرازي، فخر الدين، التفسير الكبير ومفتاح الغيب: 7،188.

(6) الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، 1، 108.

(7) الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي،1، 399.

(8) الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، 1، 117.

(9) الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، 1، 416.

(10) الصدوق، محمد بن علي بن بابويه القمي، الأمالي، ص 55.

(11) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، 89، 107.

(12) الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 1، 54.

(13) القرطبي، محمد بن أحمد الأنصاري، الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي) 1، 41.

(14) البغوي، الحسين بن مسعود، معالم التنزيل في تفسير القرآن (تفسير البغوي) 4، 180.

(15) مقال لعبد الرحمن بن عبد الله السحيم عضو مركز الدعوة والإرشاد بالرياض تحت عنوان (كيف نردّ علىٰ مَن يقول أنه يحقّ لكلِّ أحد أن يفهَم النُّصوص دون التقيّد بفَهم السَّلف؟).

(16) انظر: الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، تفسير سورة البقرة الآية 228.

Scroll to Top