قال تعالىٰ: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ﴾ (المؤمنون: 97).
يعتبر الدين الإسلامي ديناً يراعي الفطرة الإنسانية، ويقوم علىٰ التيسير ورفع المشقَّة عن المكلَّفين، فالشريعة الإسلامية جاءت لتكون رحمةً وتخفيفاً علىٰ الناس في حياتهم الدينية والدنيوية، وهذا المبدأ يتجلّىٰ في مختلف الأحكام الشرعية التي تراعي أوضاع الإنسان المختلفة، مثل كثرة الشك والوساوس، حيث يوجه الفقه الإسلامي إلىٰ تجاهل الشكوك المتكرِّرة وعدم الالتفات إليها لتجنُّب الوقوع في الحرج والمشقَّة.
فالوسواس وكثير الشك ليسا مقتصرَين علىٰ العبادات فحسب، بل يمتدان أيضاً إلىٰ المعاملات والحياة اليومية، فالوسوسة وكثرة الشك من الأمور التي قد تصيب بعض الأفراد في حياتهم اليومية، وخصوصاً في عباداتهم ومعاملاتهم، وقد يؤثر ذلك بشكل سلبي علىٰ أداء المسلم للفرائض والشعور بالراحة النفسية في التعامل مع الأحكام الشرعية، وفي هذه المقالة سنتناول حكم الإسلام في التعامل مع الشخص كثير الشك والوسواسي، وكيف يمكن أن يوجِّهه الفقه للتغلُّب علىٰ هذه المشكلة.
ويطلق علماء النفس علىٰ مرض الوسواس مصطلح (الاضطراب الوسواسي الجبري), وعلماء النفس يعتبرون أنَّ المريض بالوسواس كثيراً ما يرافقه أشخاص في حياته اليومية ليُوجّه ويتخلَّص من الوسوسة وكثرة الشك.
الفرق بين الوسواس وكثير الشك:
قال السيد الخوئي (قدّس سرّه) في بحث كثير الشك وأحكامه: (… وقد حملها الأصحاب علىٰ الوسوسة التي هي أعلىٰ مراتب كثرة الشك، بل النسبة بينهما عموم من وجه، لأنَّ الوسوسة هي الاحتمالات التي يحتملها الوسواسي ولا منشأ عقلائي لها، فترىٰ مثلاً أنَّه يدخل الماء ويرتمس ويحتمل أن لا يحيط الماء برأسه، أو يتوضأ وهو علىٰ سطح الطبقة الثانية مثلاً ويحتمل أن قطرة من القطرات الواقعة علىٰ الأرض طفرت علىٰ بدنه أو لباسه مع أنَّ الفاصل بينهما خمسة أمتار أو أزيد، إلىٰ غير ذلك من الاحتمالات التي ليس لها منشأ عقلائي.
وأمّا كثرة الشك فاحتمالات كثير الشك عقلائية إلَّا أنَّها متكررة وكثيرة، ومعه لا موجب لحملها علىٰ الوسوسة، لأنَّ الابتلاء بالوضوء والصلاة كما يشمل الوسوسة كذلك يشمل كثرة الشك فيهما وكلاهما من الشيطان، فإنَّ أدنىٰ ما يستلزمه كثرة الشك، أن يكون المكلَّف مواظباً لعمله لئلّا ينقص أو يزيد شيئاً، فيصرف توجهه إلىٰ ذلك ولا يمكنه التوجُّه إلىٰ عبادته توجُّهاً واقعياً وهذا من أهمّ ما يشتاق إليه الشيطان لوضوح أنَّه يمنع عن التوجُّه إلىٰ العبادة حقيقة ويوجب الاكتفاء منها بظاهرها وحيث إنَّ إطاعة الشيطان مذمومة فلا يلتفت إلىٰ شكّه ذلك)(1).
فالوسواس هو حالة نفسية تجعل الإنسان يفكِّر باستمرار في أمور قد لا تكون منطقية أو مهمة، لكنها تصبح هاجساً لا يستطيع التغلُّب عليه بسهولة، خاصة فيما يتعلق بالطهارة، الصلاة، وغيرها من الأحكام الشرعية.
وكثير الشك هو الشخص الذي يشك في شكل متكرِّر ومستمر في أفعاله، سواء كانت عبادية مثل الصلاة، أو في تعاملاته اليومية، ويصبح هذا الشك عادةً تؤثر في اتِّخاذه للقرارات بثقة.
المرجع في معرفة الشخص المصاب بالوسواس وكثرة الشك:
قال السيد السيستاني (دام ظله): المرجع في صدق ذلك هو العرف، والظاهر صدقها بعروض الشك أزيد مما يتعارف عروضه للمشاركين مع صاحبه في اغتشاش الحواس وعدمه زيادة معتد بها عرفاً , فإذا كان الشخص في الحالات العادية لا تمضي عليه ثلاث صلوات إلَّا ويشك في واحدة منها، فهو من أفراد كثير الشك)(2).
الحكم الشرعي لكثير الشك والوسواس:
روي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «لا تعوّدوا الخبيث من أنفسكم بنقض الصلاة فتطمعوه، فإنَّ الشيطان خبيث يعتاد لما عوّد، فليمض أحدكم في الوهم، ولا يكثرنَّ نقض الصلاة، فإنَّه إذا فعل ذلك مرات لم يعد إليه الشك»(3).
وعند مراجعة فتاوىٰ العلماء جميعهم يفتون بأنَّ كثير الشك أو الوسواسي لا يجوز له الالتفات إلىٰ شكِّه إذا تكرَّر بشكل كبير ففي العبادات مثل الصلاة والطهارة، لا يُطلب منه إعادة الفعل المشكوك فيه أو إعادة الصلاة، بل يجب عليه الاستمرار وكأن شيئاً لم يحدث، بل حتَّىٰ وإن تيقَّن الوسواسي أو كثير الشك بنجاسة الشيء أو بطلان الوضوء أو الصلاة، فلا عبرة بعلمه، ويبني علىٰ الصحة.
ونجد أنَّ المرجعية العليا في النجف الأشرف تفتي بذلك حيث قالت: إنَّ جميع الفقهاء يفتون بكل صراحة ووضوح – تبعاً للنصوص الشرعية – بأنَّ وظيفة الوسواسي هي عدم الاعتناء بوسوسته، والبناء علىٰ طهارة كل ما يشك في طهارته، بل حتَّىٰ لو تأكد من نجاسة شيء – علىٰ خلاف ما يحصل لسائر الناس من العلم بذلك – فلا عبرة بعلمه، وواجبه أن يبني علىٰ الطهارة، فلو عمل الوسواسي بهذه الفتوىٰ الشرعية، وبنىٰ علىٰ طهارة كل مشكوك الطهارة، بل ومتيقن النجاسة، فهو معذور أمام الله، وإن كان عمله خلاف الواقع، ووقعت صلاته في النجاسة، أو كان أكله متنجساً(4).
بل حتَّىٰ في الشروط أو الصلاة، مثل الشك بين الأولىٰ والثانية، لا يعتني ويبني علىٰ الأكثر، إلَّا إذا كان الأكثر، فيه مفسدة، فيبني علىٰ الأقل.
والفقهاء يفتون بذلك، حيث قالوا: (كثير الشك لا يعتني بشكِّه، سواء أكان الشك في عدد الركعات، أم في الأفعال، أم في الشرائط، فيبني علىٰ وقوع المشكوك فيه، إلَّا إذا كان وجوده مفسداً أو موجباً لكلفة زائدة كسجود السهو، فيبني علىٰ عدمه، كما لو شك بين الأربع والخمس بعد الدخول في الركوع، أو شك في أنَّه أتىٰ بركوع أو ركوعين، مثلاً – في ما يشتمل علىٰ ركوع واحد في كل ركعة، لا مثل صلاة الآيات – فإنَّ البناء علىٰ وجود الأكثر مفسداً، فيبني علىٰ عدمه)(5).
أمّا الوسوسة في العقيدة:
فإنَّ الشخص الذي يفكر بعدم وجود الله أو بعدم عصمة أهل البيت، وغيرها من الأمور العقدية، وهو يصلي، ويؤدي الواجبات الشرعية فهذا حديث النفس لا قيمة له، فلا يعتنىٰ به.
فقد روي عن رسول الله (صلىٰ الله عليه وآله): «تجاوز الله لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تنطق به أو تعمل»(6).
وروي عنه (صلىٰ الله عليه وآله): «وضع عن أُمَّتي تسع خصال: الخطأ، والنسيان، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، وما استكرهوا عليه، والطيرة، والوسوسة في التفكر في الخلق، والحسد ما لم يظهر بلسان»(7).
فحديث النفس أو الخواطر هي مجرد وساوس لا يؤخذ الإنسان بها ما دام معتقداً بالله والأئمة (عليهم السلام)، ومجرد طروِّ هذه الوساوس لا يُخرج الإنسان من الإسلام والإيمان، وليس عليها عقوبة، إنَّما هي محاولات شيطانية للتأثير في الإنسان وإضلاله، وعليه أن يتمتع بالصلابة أمام هذه الهجمات، ويذكر الله، ويحاول أن يقطع علىٰ الشيطان وساوسه ومحاولاته.
الاستعانة بالذكر والدعاء:
فقد ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) أدعية وأذكار للوسواسي وكثير الشك.
منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «ذكرنا أهل البيت شفاء من الوعك والأسقام ووسواس الريب، وحبنا رضا الرب تبارك وتعالىٰ»(8).
ومنها من إحدىٰ وصايا الإمام علي (عليه السلام) إلىٰ كميل: «أن يقول: أعوذ بالله القويّ من الشيطان الغوي، وأعوذ بمحمد (صلىٰ الله عليه وآله) الرضي، من شرّ ما قُدِّر وقُضي، وأعوذ بإله الناس من شرّ الجنّة والناس أجمعين»(9).
ومنها ما روي عن الإمام الرضا (عليه السلام): «إذا خطر ببالك في عظمته وجبروته أو بعض صفاته شيء من الأشياء، فقل: لا إله إلّا الله، محمد رسول الله، عليّ أمير المؤمنين. فإذا قلت ذلك، عدت إلىٰ محض الإيمان»(10).
الخاتمة:
كثير الشك والوسواس يمكن أن يكونا تحدياً في حياة المسلم، لكن الإسلام قدّم حلولاً عملية للتعامل مع هذه الحالات، بتوجيهات الشرع، يمكن للمسلم أن يتجاوز هذه المشكلة، ويعيش حياة دينية هادئة ومستقرة دون الانغماس في الشكوك والوساوس.
أسأل الله أن يوفق الجميع لطريق الحق والهدىٰ.
ودمتم في رعاية الله وحفظه.
الهوامش:
(1) كتاب التنقيح في شرح العروة الوثقىٰ: ج6، ص124.
(2) موقع مكتب السيد السيستاني:
https://www.sistani.org/arabic/qa/0531/
(3) الكافي: ج3، ص358.
(4) موقع السيد السيستاني:
https: //www.sistani.org/arabic/qa/0751/
(5) موقع السيد السيستاني:
https://www.sistani.org/arabic/qa/0531/
(6) ميزان الحكمة – محمد الريشهري: ج4، ص3526.
(7) الكافي: 2 / 463 / 2.
(8) بحار الأنوار: ج26، ص227.
(9) بحار الأنوار: ج74، ص2.
(10) فقه الرضا (عليه السلام): 385.