مقدمة:
إنَّ حديث «نيّة المؤمن خير من عمله» من الأحاديث المشهورة عند الأعلام وهو ينطوي علىٰ معاني عميقة تستحق التأمل والتدبّر، حيث إنَّه يفتح الآفاق لفهم تقدُّم النيّة علىٰ العمل، ويُبرز أهمية الباطن علىٰ الظاهر في ميزان التقييم الإلهي للأفعال، فالنيّة في الإسلام ليست مجرد شرط لصحة العمل، بل هي جوهره وروحه، التي تُحدّد قيمته وثقله في ميزان العدل الإلهي.
والحديث يجسد فلسفة قرآنية واضحة، دلَّت عليهما بعض الآيات القرآنية كما في قوله تعالىٰ: ﴿وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ (البينة: 5) مما يدلّ علىٰ أنَّ الله تعالىٰ أمر بالعبادة وأداء الأعمال بشرط الإخلاص بل دلَّت بعض الأدلة علىٰ أنَّها لا تُقبل عند الله إلَّا إذا كانت خالصة لوجهه الكريم.
وعلىٰ هذا الأساس، تُعدّ النيّة الصالحة حجر الأساس الذي تُبنىٰ عليه الأعمال، وإلَّا فإنَّ العمل قد يغدو مجرد حركة خالية من الأثر في ميزان الحسنات، فإنَّ الحديث يُبرز فضيلة النيّة باعتبارها تعبيراً عن حالة إيمانية دائمة، حتَّىٰ مع غياب العمل الظاهري.
فقد يعجز المؤمن عن تحقيق ما نواه بسبب ظروف خارجة عن إرادته، ومع ذلك يُثيبه الله (عزَّ وجلَّ) علىٰ نيّته الطيبة كأنَّها عمل متحقق.
وهذا يُجسّد عدل الله ورحمته، حيث ينظر ويقبل سبحانه وتعالىٰ ما في القلوب من النوايا الحسنة، حتَّىٰ وإن لم تُترجم إلىٰ أفعال.
ومن هذا الحديث، يمكن القول إنَّ النيّة هي المحور الحقيقي الذي يُقيم به الله أعمال عباده، إذ لا تقتصر علىٰ تحديد مصير العمل، بل تعبّر عن جوهر الإيمان، فالإيمان في أصله ينطلق من القلب ويتجلىٰ في النيّات قبل أن يظهر في الأفعال والسلوك.
إنَّ النكتة التي ذكرتها الرواية الشريفة ولابد من التأمل فيها وهي أفضلية النية علىٰ العمل مع أنَّها من الأمور الجوانحية والقلبية والسهلة المؤنة ولا تحتاج إلىٰ كلفة ولا إلىٰ عمل جوارحي ولا إلىٰ حركة ولا تحتاج إلىٰ سعي ومشقة فكيف تكون النية أفضل من العمل؟
وقبل بيان وجه الأفضلية وتوجيهات العلماء من المناسب أن ندخل ولو اختصاراً في بيان مفردات هذه الرواية الشريفة وهي (النية، المؤمن، خير، العمل):
بيان مفردات الرواية الشريفة:
أولاً: النية وفيها أمور:
١ – النية لغة من نوىٰ ينوي بمعنىٰ قصد الشيء، ولم يذكر في اصطلاح العلماء تعريف خاص للنية إلَّا أنَّه نقل عن بعض رسائل الشيخ الطوسي (قدّس سرّه) أنَّه قال: (النية هي القصد إلىٰ الفعل وهي واسطة بين العلم والعمل).
والجدير بالذكر أنَّ النية تعدّ أحد أهم العناصر الأساسية في العمل الإنساني في مختلف المجالات، سواء كانت دينية، أخلاقية، أو اجتماعية.
وكذلك فإنَّ دور النية يتباين بحسب المجال الذي تُطبق فيه، ولها تأثير جوهري علىٰ القيمة والنتائج المترتبة علىٰ الأفعال، وفيما يلي تفصيل لدور النية في بعض المجالات:
منها: النية في البُعد الديني:
في الشريعة الإسلامية، النية تُعدّ شرطاً أساسياً لصحة الأعمال العبادية، حيث ذكرت بعض الأخبار مكانة النية كما في قوله (صلّىٰ الله عليه وآله وسلم): «إنَّما الأعمال بالنيات، وإنَّما لكل امرئ ما نوىٰ» (حديث نبوي)، العمل بدون نية يُعدّ فاقداً للروح والقصد، وبالتالي لا يُحسب كعبادة، والنية تميّز بين العادات والعبادات، كما في الفرق بين الصوم كعبادة وبين الامتناع عن الأكل لأسباب أخرىٰ.
ومنها: النية في الأخلاق والسلوك:
إنَّ للنية في المجال الأخلاقي دوراً كبيراً في تقييم العمل فالعمل الجيد الذي يُقصد به الخير يُعتبر أخلاقياً حتَّىٰ لو لم يُحقق النتائج المرجوة، وعليه فالأخلاق تُقيّم من خلال نية الشخص وليس فقط نتائج أفعاله، مثلاً لو تصدق شخص بنيّة خالصة لكنه أخطأ في التنفيذ، فإنَّ نيته تكون محل اعتبار.
ومنها: النية في العلاقات الاجتماعية:
تؤثر النية علىٰ بناء الثقة والانسجام في العلاقات عندما تكون النوايا صافية وخالية من الأغراض السلبية، وتزداد العلاقات قوة ومتانة، إنَّ الأعمال النابعة من نوايا سيئة حتَّىٰ لو كانت ذات مظهر حسن قد تؤدي إلىٰ توتر وانهيار العلاقات.
ومنها: النية في المجال القانوني والعدلي:
تعتبر النية في الفقه والقانون عنصراً جوهرياً في تحديد المسؤولية الجنائية أو الأخلاقية، حيث إنَّها تمييز بين الجريمة العمدية وغير العمدية وهذا يعتمد علىٰ نية الفاعل، والنية قد تكون عاملاً مخففاً أو مشدداً في العقوبة.
ثانياً: المؤمن وفيه أمور:
منها: المؤمن في اللغة: مشتق من الجذر الثلاثي (أمن)، ويشير إلىٰ الأمان والطمأنينة، ومعنىٰ المؤمن في اللغة يتَّصل بعدَّة معان منها:
المُصدِّق: المؤمن هو الذي يصدق الشيء تصديقاً جازماً ومنه قول الله تعالىٰ: ﴿وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا﴾ (يوسف: 17)، أي بمُصدق لنا.
المُطمئن: المؤمن هو الذي يشعر بالأمان والطمأنينة، سواءً لنفسه أو لغيره.
مانح الأمان: يُطلق علىٰ المؤمن من يمنح الأمان للآخرين ولا يُخيفهم، كما يُقال: (آمَنَ فلانٌ فلاناً) أي جعله يشعر بالأمان.
ومنها: معنىٰ المؤمن في السياق الشرعي:
المؤمن بالله: هو من يُصدّق بالله تصديقاً جازماً، ويؤمن بوجوده وأسمائه وصفاته وما أمر به.
ومنها: الفرق بين الإسلام والإيمان وفق المباني الشيعية:
الإسلام: يعني الإقرار بالشهادتين (التوحيد والنبوة) والقيام بالفرائض العملية مثل الصلاة والصيام والحج وغيرها. الدلالة القرآنية قوله تعالىٰ: ﴿قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ (الحجرات: 14)، في هذه الآية يُفهم أنَّ الإسلام قد يقتصر علىٰ الأفعال الظاهرة، دون الدخول إلىٰ عمق القلب.
الإيمان: هو التصديق القلبي الجازم بالله تعالىٰ، ونبوة النبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلم)، والولاية لأهل البيت (عليهم السلام) الإيمان الحقيقي لا يتحقق إلَّا من خلال قبول ولاية الإمام علي (عليه السلام) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، باعتبارهم أوصياء النبي وأهل العصمة الذين يمثلون الامتداد الطبيعي للإسلام الحقيقي، الإيمان أعمق من الإسلام حيث يتطلَّب الاعتقاد الصادق القلبي، ولا يقتصر علىٰ الأفعال الظاهرة فقط.
وقد بيَّنت النصوص الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) معنىٰ الإسلام والإيمان، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس: شهادة أن لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصيام شهر رمضان، فهذا الإسلام»، وقال: «الإيمان معرفة هذا الأمر مع هذا، فإن أقرَّ بها ولم يعرف هذا الأمر كان مسلماً وكان ضالاً»(1). يوضح هذا الحديث أنَّ الإسلام هو الظاهر من الأعمال والشعائر، بينما الإيمان يشمل الاعتقاد بالولاية، وهو (معرفة هذا الأمر).
وعن الإمام الباقر (عليه السلام): «الإيمان ما وقّر في القلوب وصدّقته الأعمال، والإسلام ما عليه المناكح والموارث وحقن الدماء والإيمان يشترك الإسلام والإسلام لا يشترك الإيمان»(2) يظهر الفرق من قول الإمام بين الاعتقاد القلبي (الإيمان) والانقياد الظاهري (الإسلام).
ومنها: هل معنىٰ المؤمن عند علماء الإمامية وعلماء العامة يكون واحداً أم يختلفان؟
في المذهب الشيعي، مفهوم المؤمن له أبعاد خاصة مستمدة من العقيدة والفقه الشيعي، حيث يجمع بين الإيمان القلبي والتصديق العملي والولاء لأهل البيت (عليهم السلام)، بين مفهوم المؤمن عند الشيعة وأهل السنة نقاط مشتركة، لكن توجد أيضاً فرق مهم يعود إلىٰ الأسس العقائدية والتعريف الدقيق للإيمان ودور العمل فيه.
أولاً نقاط الاشتراك:
منها: الإيمان بالله وأصول الدين الأساسية، يتَّفق الشيعة وأهل السنة علىٰ أنَّ المؤمن هو من يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، كما ورد عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): «الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالأركان، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر»(3)، في الحديث النبوي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلم) عند أهل السنة: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره»(4).
منها: العمل بتعاليم الدين، الإيمان مرتبط بالعمل عند كلا الطرفين ولكنه شرط الكمال عند أهل السنة ولا يكون شرط صحة كما هو المشهور منهم ولكن عند الشيعة العمل جزء من الإيمان كما سيجيء بعد قليل الروايات الدالة علىٰ هذا المطلب.
ثانياً: نقطة الاختلاف:
مكانة الولاية والإمامة: عند الشيعة الإيمان يشمل الاعتقاد بأصول الدين (التوحيد، العدل، النبوة، المعاد) مع الإيمان بالإمامة وولاية أهل البيت (عليهم السلام) كشرط أساسي، يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «الإيمان هو الإقرار والقول والعمل، ومن أحبنا وأقر بولايتنا فهو مؤمن»(5) بدون الإيمان بالولاية، لا يعتبر مؤمناً.
أمّا عند أهل السنة: الإيمان يشمل الإيمان بأصول الدين من دون اشتراط الإيمان بولاية أهل البيت (عليهم السلام).
ومنها: العلاقة بين الإيمان والعمل:
عند الشيعة: الإيمان يتكوَّن من التصديق القلبي، الإقرار باللسان، والعمل بالأركان، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان» (نهج البلاغة)(6).
عند أهل السنة: يختلف الموقف: بعضهم (كالأشاعرة) يعتبر الإيمان تصديقاً قلبياً فقط، بينما يرىٰ آخرون (كالحنابلة) أنَّ العمل جزء من الإيمان.
ثالثاً: الخير وفيه أمور:
منها: المعنىٰ اللغوي: أنَّ الجذر اللغوي لكلمة الخير مأخوذ من الجذر (خ-ي-ر). أصل الكلمة يشير إلىٰ الزيادة والنفع والصلاح.
يُطلق الخير علىٰ كل ما يُعتبر نافعاً أو محبوباً أو مرغوباً فيه، ويُستخدم للدلالة علىٰ الفضيلة، كالبر، والنفع، والرزق، والنعمة.
ويُقابل (الخير) في المعنىٰ (الشر) الذي يدل علىٰ الأذىٰ والنقص، ففي معاجم اللغة: ابن منظور (لسان العرب) الخَير ضِدُّ الشَّرِّ. والخَير: الفَضِيلةُ من كلِّ شيءٍ والخَير المالُ الكثيرُ. يُقال: (فلان ذو خَيرٍ) أي ذو فضائل وأموال. وقال الفراهيدي في كتابه (العين): الخَير: النَّفع والفضيلة، ويُستخدم للإشارة إلىٰ السعادة أو البركة.
ومنها: عند أهل المعقول: (الخير) هو غاية الأشياء الحسنة، ويُنظر إليه كغاية الكمال. وعند الفلاسفة المسلمين (مثل الفارابي وابن سينا)، (الخير) هو ما تتوق إليه الموجودات بطبيعتها، أي ما يحقق الكمال والغاية. ويقسم الفلاسفة الخير إلىٰ: الخير المطلق: ما لا يعتريه نقص أو شر، مثل الله (عزَّ وجلَّ)، وإلىٰ الخير النسبي: ما يُعتبر خيراً في سياق معين، ولكنه قد يكون شراً في سياق آخر.
ومنها: في علم الكلام: (الخير) هو ما يتوافق مع إرادة الله وحكمته، أي ما يؤدي إلىٰ تحقيق السعادة في الدنيا والآخرة.
ومنها: في الأخلاق: (الخير) يعني الأفعال أو الصفات التي تؤدي إلىٰ النفع والصلاح سواء علىٰ المستوىٰ الفردي أو الجماعي. يُستخدم للإشارة إلىٰ الفضائل الأخلاقية مثل الصدق، الأمانة، والعدل.
ومنها: في النصوص الفقهية: (الخير) يشير إلىٰ كل ما أمر به الله سبحانه وتعالىٰ من بر وتقوىٰ وعبادات.
كقوله تعالىٰ: ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (الحج: 77) هنا الخير يشمل الأعمال الصالحة والعبادات التي تُحقق رضا الله.
رابعاً: العمل وفيه أمور:
منها: العمل حقيقة نسبية، فإنَّ العمل يحمل معنىٰ خاصّاً بحسب طبيعة كل عضو أو جانب عمل القلب هو النيّة والإخلاص والإرادة، وقد ورد في الحديث: «نية المؤمن خير من عمله»، والنيّة هي عمل قلبي داخلي يحدِّد اتِّجاه باقي الأعمال، فعمل العين النظر، وهو الوظيفة الطبيعية لهذا العضو وعمل اللسان النطق، سواء كان ذِكراً أو دعاءً أو كلاماً حسناً، وعمل اليد: المساعدة أو الكتابة أو العمل المادي.
هذه النسبية في معنىٰ العمل تُظهر أنَّ لكل عضو من الإنسان وظيفة محدّدة، وإذا أدّىٰ وظيفته بشكل صحيح، يُعتبر عمله كاملاً، كما يشير قوله تعالىٰ: ﴿صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (النمل: 88) إلىٰ أنَّ عمل الله في كل شيء متناسب مع طبيعة ذلك الشيء.
ومنها: العمل في الإيمان، يُعتبر العمل مظهراً للإيمان، فالإيمان بلا عمل ناقص، والعمل بلا نيّة فاقد القيمة الحقيقية، وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «الإيمانُ عملٌ كلُّهُ»؛ أي أنَّ الإيمان في جوهره عمل، حتَّىٰ لو كان هذا العمل باطنيّاً أو قلبيّاً.
ومنها: العمل في التكامل، يتكامل الإنسان في العمل وقد جعل الله تبارك وتعالىٰ الدنيا دار تنافس حيث قال: ﴿وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ﴾ (المطففين: 26)، فلكل عمل دوره في تحقيق تكامل الفرد والمجتمع.
منها: العمل في الموت والآخرة: جاء في الروايات أنَّ: «عمل الإنسان يُدفن معه»، وهو الذي يبقىٰ معه في القبر والآخرة بصورة روحية وملكوتيه، عن النبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلّم): «إذا ماتَ ابنُ آدمَ انقطعَ عملُه إلَّا مِن ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أو عِلمٍ يُنتَفَعُ به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له»(7)، هذا الحديث يشير إلىٰ أن العمل الصالح يمتد أثره حتَّىٰ بعد الموت، مما يدل علىٰ خلود أثر العمل في الآخرة.
بيان أفضلية النية علىٰ العمل:
بعد توضيح المفردات الموجودة في الرواية ولو إجمالاً ننتقل إلىٰ بيان الوجوه في المقصود من الرواية وهو أفضلية النية من العمل.
الوجه الأول: ما ذكر في البحار من غير نسبته إلىٰ أحد وهو أنَّ المراد من الحديث أنَّ النية بلا عمل أفضل من العمل بلا نية ولكن هذا القول غير قابل للقبول لأنَّ العمل بلا نية بمنزلة العدم ليس له قيمة حتَّىٰ نقول النية فضيلتها أعلا من العمل(8).
الوجه الثاني: ينسب إلىٰ بعض المحققين وهو أنَّ المؤمن إذا نوىٰ أن يعمل عملاً يقصد إيقاعه بأحسن الوجوه الممكنة ولكن حينما أوقعه في الخارج لا يقدر علىٰ إيقاعه كما قصده لأجل موانع الموجودة من جهات المختلفة(9).
الوجه الثالث: أن النية أفضل من العمل لأنَّه ليس في النية إلَّا الخير وإذا كان النية شراً لا يترتب عليه عقاب لهذا يكون النية خير من العمل لأنَّ عمل الشر يترتب عليه عقاب إلَّا أنَّ هذا الوجه لا يكون مطلقاً بل فقط ينطبق علىٰ المؤمنين يعني الله (عزَّ وجلَّ) يعفو عن النية السوء للمؤمنين إذا لم يتحقق في الخارج أمّا بالنسبة إلىٰ الكفار يستحقون العقاب حتَّىٰ بالنسبة إلىٰ نياتهم.
الوجه الرابع: أن يكون المراد أن نية بعض الأعمال الشاقة أفضل من أصل بعض الأعمال السهلة وقليل المؤونة مثل نية الحج أفضل من الصدقة بمال قليل(10).
الوجه الخامس: ما نسب إلىٰ السيد المرتضىٰ (قدّس سرّه) في الغرر وهو يقول إنَّ المراد من كلمة الخير المعنىٰ الاسمي لا الوصفي يعني كما أنَّ أعمال المؤمن خير نيته أيضاً من الأعمال ويكون خيراً.
الوجه السادس: أنَّ المؤمن ينوي خيرات كثيرة لا يساعد الزمان علىٰ عملها فكان الثواب المترتب علىٰ نياته أكثر من الثواب المترتِّب علىٰ أعماله نسبه المرحوم المجلسي إلىٰ محمد بن حسن بن دريد صاحب كتاب جمهرة اللغة(11).
الوجه السابع: أنَّ النية سر لا يطَّلع عليه إلَّا الله (عزَّ وجلَّ) وعمل السر أفضل من عمل الظاهر(12).
الوجه الثامن: أنَّ النية أفضل لأنَّها أصل وأساس للعمل علىٰ نحو لا يكون للعمل بلا نية شيء من الثواب بنا علىٰ هذا نية كل عمل أفضل من نفس ذلك العمل كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «النية أساس العمل»، وقال أيضاً: «الأعمال ثمار النيات»، وقال: «لا عمل لمن لا نية له»(13).
الوجه التاسع: ما ذكره زيد الشحام عندما سأل الإمام الصادق (عليه السلام) قال: إِنِّي سَمِعْتُكَ تَقُولُ: «نِيةُ المُؤْمِنِ خَيرٌ مِنْ عَمَلِهِ»؟ فَكَيفَ تَكُونُ النِّيةُ خَيراً مِنَ الْعَمَلِ؟ قَالَ: «لِأَنَّ الْعَمَلَ إِنَّمَا كَانَ رِئَاءَ المَخْلُوقِينَ وَالنِّيةَ خَالِصَةٌ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، فَيعْطِي (عزَّ وجلَّ) عَلَىٰ النِّيةِ مَا لَا يعْطِي عَلَىٰ الْعَمَلِ»، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَنْوِي مِنْ نَهَارِهِ أَنْ يصَلِّي بِاللَّيلِ فَتَغْلِبُهُ عَينُهُ فَينَامُ فَيثْبِتُ اللهُ لَهُ صَلَاتَهُ وَيكْتُبُ نَفَسَهُ تَسْبِيحاً وَيجْعَلُ نَوْمَهُ صَدَقَةً»(14).
الوجه العاشر: ما نقله الشيخ الصدوق (قدّس سرّه) عن الإمام الباقر (عليه السلام) بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) أَنَّهُ كَانَ يقُولُ: «نِيةُ المُؤْمِنِ خَيرٌ مِنْ عَمَلِهِ وذَلِكَ لِأَنَّهُ ينْوِي مِنَ الْخَيرِ مَا لَا يدْرِكُهُ ونِيّةُ الْكَافِرِ شَرٌّ مِنْ عَمَلِهِ، وذَلِكَ لِأَنَّ الْكَافِرَ ينْوِي الشَّرَّ ويأْمُلُ مِنَ الشَّرِّ مَا لَا يدْرِكُهُ»(15).
وهناك وجوه أخرىٰ ولكنها ليست خالية عن التأمل ونكتفي بذكر هذا المقدار من أقوال العلماء وإن كان بين بعض هذه الوجوه تداخل.
النتيجة:
إنَّ حديث «نيّة المؤمن خير من عمله» يُعدّ من الأحاديث المشهورة في المصادر الإسلامية، ويتمتّع بمكانة وأهمية خاصة، وبناءً علىٰ العبارات المختلفة التي وردت حول معناه ومفهومه، يمكن استخلاص الآراء التالية:
١ – تفوّق النية علىٰ العمل.
٢ – كون النية وحدها أفضل من العمل بلا نية.
٣ – تفوّق النية بسبب طينتها مقارنة بذات العمل.
٤ – كون النية جزءاً أصيلاً من طينة العمل.
٥ – احتساب النية كعمل صالح بذاته.
٦ – كون النية الحسنة في ذاتها عملاً صالحاً.
٧ – كون النية تُؤجر أكثر من الأعمال القليلة.
٨ – تفوّق النية الخفية علىٰ العمل الظاهر.
٩ – كون النية هي الأصل والأساس الذي تقوم عليه الأعمال.
المنابع:
1 – مصباح الشريعة (المنسوب إلىٰ الإمام الصادق (عليه السلام))، قم مؤسسة الأعلمي للمطبوعات 1400ق.
2 – الكافي – محمد بن يعقوب الكليني، طهران دار الكتب الإسلامي، 1365ش.
3 – علل الشرايع – محمد بن علي الصدوق، قم الانتشارات داوري، بي تا.
4 – بحار الأنوار – محمد باقر المجلسي، بيروت مؤسسة الوفاء 1404ق.
5 – وسائل الشيعة – محمد بن حسن، الحر العاملي، قم مؤسسة الإمام الهادي (عليه السلام)، 1418ق.
6 – اثنا عشر رسالة – السيد محمد باقر ميرداماد، انتشارات مكتبة السيد الداماد، بي تا.
7 – غرر الحكم ودرر الكلم.
8 – تحف العقول أبو محمد الحسن الحراني.
(1) كتاب أصول الكافي باب الإسلام والإيمان حديث الرابع.
(2) الكافي: ج2، ص25.
(3) الكافي: ج2، باب حقيقة الإيمان والكفر.
(4) صحيح مسلم كتاب الإيمان باب الإيمان والإسلام: ح1.
(5) الكافي: ج2، باب الإيمان والكفر، ح7.
(6) تحف العقول: ص144.
(7) جامع الأخبار: ج1، ص105.
(8) بحار الأنوار: ج68، ص189.
(9) نفس المصدر.
(10) المصدر.
(11) بحار: ج67، ص190.
(12) اثنا عشر رسالة: ج4، ص106.
(13) غرر الحكم ودرر الكلم: ص93.
(14) علل الشرايع: ج2، ص211.
(15) علل الشرايع: ج2، ص211.