العجلة والسرعة بين اللغة والقرآن

العجلة والسرعة بين اللغة والقرآن

إنَّ للمفردة القرآنية قيمة عظيمة من حيث الموقع والمعنىٰ حيث يتوقَّف عليها فهم الآيات القرآنية وتفسيرها، ولذا نجد الدقة العالية في اختيار الألفاظ واستعمالها في القرآن الكريم من قبل المولىٰ تبارك وتعالىٰ، وهذا من المعاجز القرآنية الخالدة، بل إنَّ بعض المفردات لها معنىٰ خاص في موضع ما وعندما تستعمل في موضع آخر يكون لها معنىٰ غير المعنىٰ الذي وضعت له وذلك نتيجة للقرائن التي تحف بالكلام، وهذا من الأمور الجميلة واللطيفة في القرآن الكريم بشكل خاص وفي اللغة العربية بشكل عام.

ومن الملفت للنظر أنَّ كل هذه الدقة والاختيار في القرآن الكريم تتلاءم مع الاستعمال العربي في اللفظ والتركيب لأنَّ القرآن الكريم عربي في كل مفاصله، قال تعالىٰ: ﴿إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا﴾ (يوسف: ٢)، ﴿وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا﴾ (الرعد: ٣٧).

ولو دقَّقنا في الألفاظ القرآنية لوجدنا بعضاً منها له حقيقة شرعية قرآنية تختلف عن المعنىٰ اللغوي كالصلاة فهي في اللغة بمعنىٰ الدعاء وفي الاصطلاح القرآني، فهي الأفعال المخصوصة المعروفة، وكذلك الزكاة فهي في اللغة بمعنىٰ النماء وأمّا في الشرع فهي إخراج قسم من الأموال وفق شروط معينة.

وهناك من الألفاظ ما يتطابق فيه المعنىٰ اللغوي مع المعنىٰ الشرعي كلفظ البيع فهو في اللغة نفسه في الشريعة.

وقد اختصَّ علم المفردات بهذا الجانب من القرآن الكريم وأُلفت كتب ودراسات فيه ووجد الكثير من الفوارق بين معاني المفردات القرآنية وكيفية استعمالها.

ونحن في هذا المقال سنسلِّط الضوء علىٰ مفردتي العجلة والسرعة اللذان وردا في القرآن الكريم لبيان معناهما من حيث الاستعمال مع ملاحظة السياق القرآني ومقارنتها بالمعنىٰ اللغوي، والذي دعانا إلىٰ ذلك هو كثرة الخلط الواقع في فهم بعض الآيات نتيجة استعمال مفردة العجلة في معنىٰ السرعة وهكذا العكس، ولذا ارتأينا في مقالنا هذا أن نسلِّط الضوء علىٰ الفارق بين السرعة والعجلة لتجنب الخلط في الاستعمال والاستشهاد علىٰ ذلك بآيات القرآن الكريم.

الأمر الأول: تعريف العجلة والسرعة لغة:

العجلة والسرعة لغةً: إنَّ العَجَلُ العَجَلة (هي السرعة خلاف البطء)(1).

وأيضاً قال الجوهري: (العَجَلُ العَجَلة) هي السرعة خلاف البطء(2)، وفي المعجم الوسيط هي (الطوق أو القرص القابل للدوران).

والذي يعنينا من المعنىٰ اللغوي هو المعنىٰ الأوَّل.

وأمَّا السُرعة: قال ابن منضور: (هي نقيض البُطء).

والجدير بالذكر أنَّ السرعة أُخذت في التعريف اللغوي للعجلة فهل يعني هذا أنهما مترادفان؟

في الحقيقة يوجد فرق بينهما وإن كانا يتَّفقان في الدلالة علىٰ تقليل زمن الحدث لكن يوجد فرق دقيق بينهما ذكره علماء اللغة وهو ما ذكره أبو هلال العسكري حيث قال: (الفرق بين السرعة والعجلة أنَّ السرعة: التقدّم فيما ينبغي أنْ يُتقدَّم فيه، وهي محمودة، ونقيضها مذموم وهو الإبطاء، والعجلة: التقدّم فيما لا ينبغي أنْ يُتقدَّم فيه، وهي مذمومة، ونقيضها محمود وهو الأناة).

وقال أيضاً: (المسارعة هي البدار إلىٰ الشي وتقديمه في أول وأقرب أوقاته أمَّا العجلة التقدُّم بالشيء واستقباله قبل وقته)(3).

وقال الرَّاغِبُ: (العَجَلةُ طَلَبُ الشَّيءِ وتحَرِّيه قَبلَ أوانِه)(4).

(وذكر بعض أنَّ لفظ السرعة إنَّما يستعمل في الخير، أمَّا العجلة فغالباً تقال في الشر)(5).

الأمر الثاني: بعض الآيات القرآنية التي ذكرت العجلة والسرعة:

بعد تتبُّع الآيات القرآنية المباركة فقد ذكرت العجلة في مواضع متعدِّدة وسوف نستعرض أهم الآيات في هذا المجال:

الآية الأولىٰ: قوله تعالىٰ: ﴿قالَ هُمْ أُولاءِ عَلىٰ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضىٰ﴾ (طه: 84).

والآية التي قبلها وهي قوله تعالىٰ: ﴿وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسىٰ﴾ (طه: 83).

تتكلَّم عن حدث في قصة موسىٰ (عليه السلام) وهو أن يذهب موسىٰ ومعه جماعة من بني إسرائيل إلىٰ الطور حتَّىٰ تتَّضح لهم بعض الحقائق وتتكشف لهم بعض الأمور إلَّا أنَّ موسىٰ (عليه السلام) لشدة شوقه إلىٰ الله تعالىٰ طوىٰ الطريق ووصل إلىٰ الميقات قبل أصحابه فجاء الخطاب الإلهي بقوله تعالىٰ: ﴿وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ﴾، يعني ما الذي أدَّىٰ بك إلىٰ الإسراع قبل قومك، فمعنىٰ العجلة هنا هو الإسراع فيما لا ينبغي وهو مطابق للمعنىٰ اللغوي لأنَّ العجلة هنا أخذت بمعنىٰ الإسراع المذموم.

أمَّا جواب موسىٰ (عليه السلام) وهو قوله تعالىٰ: ﴿قالَ هُمْ أُولاءِ عَلىٰ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضىٰ﴾ (طه: 84) فإنَّ سبب عجلتي هو رضاك والشوق إلىٰ لقياك، فإنَّ العجلة في الآية بمعنىٰ المسارعة التي هي التقدُّم فيما ينبغي التقدم فيه، وهذا المعنىٰ للعجلة لا يتطابق مع المعنىٰ اللغوي.

الآية الثانية: قوله تعالىٰ: ﴿وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُـرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ (آل عمران: 176).

هذه الآية نزلت بعد واقعة أُحُد، فبعد ما انتصر المشركون علىٰ المسلمين نجد أنَّ بعض المسلمين تسارعوا في إظهار الكفر، فأراد الله تعالىٰ تسلية نبيه (صلَّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) كي لا يحزن لفعلهم بقوله تعالىٰ: ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُـرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ (آل عمران: 176) والخسارة العظيمة هي أنَّهم ليس لهم حظاً في الآخرة وإن تمتعوا بالدنيا.

فإنَّ السرعة في الآية جاءت للشر ونتيجتها العذاب الإلهي، وقد خالف معنىٰ السرعة هنا المعنىٰ اللغوي الذي ذكره أبو هلال العسكري.

الآية الثالثة: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ (العنكبوت: ٥٣) لقد تكرَّر مثل هذا التعبير في آيات أُخر، وحاصل الآيات أنَّ الله يخاطب نبيه (صلَّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) بأنَّ الكفار يستعجلونك بطلب العذاب ويقولون: لو كان عذاب ربّك حقاً فلم لا يأتينا، فإنَّ هذه الآية تجيب الكفار والمشركين بأن لا داعي للعجلة لأنَّ وعد الله آتٍ، مع أنَّهم يستهزئون بطلبهم لكن الله يمتعهم سنين ثم يأتيهم العذاب المهين، وهذا المعنىٰ للعجلة يتطابق مع معناها اللغوي.

الآية الرابعة: ﴿أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ﴾ (المؤمنون: ٦١).

إنَّ الآية الكريمة تتحدَّث عن بعض أوصاف المؤمنين وهو المسارعة والمبادرة إلىٰ فعل الخيرات، وقد جاءت الآية ضمن سياق المقارنة بين حال الكفار والمؤمنين فإنَّ أولئك يظنون أنَّ الأموال والبنين هي الخيرات ولكنها في الحقيقة استدراج لهم وهم لا يعلمون، إنَّما الخيرات في الحقيقة هي التي يسارع إليها المؤمنون من الإنفاق في سبيل الله والإخلاص والإيمان والعلم المقرون بل خشية والقربىٰ إلىٰ الله سبحانه.

ويتبيَّن أنَّ السرعة هنا استعملت لفعل الخير وهذا واضح من سياق الآيات، وهذا المعنىٰ للسرعة يتطابق مع المعنىٰ اللغوي لها.

الخاتمة:

إنَّ لفظ السرعة في القرآن الكريم تارة تأتي بمعنىٰ ممدوحاً كما أشرنا إليه وعلىٰ هذا يكون المعنىٰ اللغوي مطابقاً للاستعمال القرآني وأخرىٰ تأتي لفظة السرعة قرآنياً بمعنىٰ الذم والعجلة وعلىٰ هذا يكون التغاير بين الاستعمال القرآني والمعنىٰ اللغوي وكذلك الأمر في العجلة.

 

 

 

الهوامش:


(1) لسان العرب: ١١/٤٢٥

(2) تاج اللغة وصحاح العربية: ١٧٦٠/٥

(3) أبو هلال العسكري، الحسن بن عبد الله، الفروق اللغوية: ص٢٧٦، تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين.

(4) المفردات: ص٣٢٣.

(5) انظر: الصافي، محمود بن عبد الرحيم (ت1376هـ): الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه، ج3، دمشق: دار، الرشيد ط(1418هـ).

Edit Template
Scroll to Top