الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسّلام على أشرف الأوّلين والآخرين محمّد وآله الطيِّبين الطاهرين واللّعن الدائم على أعدائهم إلى يوم الدين.
كثيرة هي الثورات التي حدثت في العالم الإسلامي وغير الإسلامي وعلى امتداد الزمان وقدمت فيها تضحيات كبيرة جداً، ولكن الملفت في تلك الثورات أنَّها لم يكن مصيرها إلّا أن تذكر في التاريخ ويمدح أصحابها ويبيّن كيفية حدوثها، ولكن آثارها انتهت وكذلك تفاعل الأُمم معها انتهى بمجرد موت أصحابها أو القضاء على تلك الثورات في مهدها وزجِّ أصحابها في السجون.
إنَّنا حين نتصفَّح ونتأمل في ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) في هذا الوقت البعيد عن زمان الثورة نراها غضة طرية يزداد تأثيرها عاماً بعد عام، ويتفاعل العالم معها تفاعلاً مذهلاً وعجيباً ومستمراً.
فأي سرٍّ موجود في هذه الثورة حتى جعلها بهكذا صورة رائعة؟
ربما ما سنذكره من أسباب يفسر لنا هذا الخلود الحسيني وتفاعل الأُمم معها إلى هذا الوقت:
١ – الشرعية الخالدة في ثورة كربلاء المتمثلة بقائدها الإمام الحسين (عليه السلام) المنتمي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبكل معاني الانتماء كما ورد في الحديث الشريف: «حسين مني وأنا من حسين»(1).
٢ – إنَّ ثورة كربلاء خاطبت الضمير الحي والعقل الإنساني وأرادت أن توصف لهما المخاطر والمحن التي ستواجه البشرية لو تقلد السلطة أمثال يزيد، ومن هنا أصبحت هذه الثورة الأداة التي تستنهض الضمائر والعقول للوقوف في وجه الطغاة في كل زمان.
٣ – إنَّ كربلاء ثورة واعية لم تكن انفعالية أو عشوائية أو منحصرة في زمن خاص، بل جاءت لتعالج أزمة حضارية موجودة في كل زمن تمثلت بغياب القيم والمبادئ في البشرية جمعاء وحلول الانحراف والانحطاط محلها، وقد بيَّن الإمام الحسين (عليه السلام) ذلك في مسيره إلى كربلاء حيث قال: «إنَّ هذه الدنيا قد تغيَّرت وتنكَّرت وأدبر معروفها، فلم يبق منها إلَّا صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون أن الحق لا يعمل به وأن الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً، فإني لا أرى الموت إلَّا سعادة ولا الحياة مع الظالمين إلَّا برماً»(2).
٤ – إنَّ خطابات الإمام الحسين (عليه السلام) في ثورة كربلاء لم تكن خطابات بنحو القضايا الخارجية التي لها أمد محدود وتنتهي، بل كانت خطابات بنحو القضايا الحقيقية الصالحة لأن يعمل بها وتنطبق في كل زمان ومكان مع توفر ظروفها وشروطها، وهذا له الأثر الكبير في بقاء الثورة صالحة لأن تكون مثالاً يطبق في كل زمان متى ما توفرت الظروف.
٥ – تركيز الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) على ثورة كربلاء حيث تم إعطاؤها أبعاداً متعدِّدة وتناولوها من جهات مختلفة تتلاءم مع كل زمان، وقد بدأ هذا التركيز منذ أن كان الإمام الحسين (عليه السلام) وليداً في مهده وقبل حدوث ثورة كربلاء إلى ما بعد استشهاده (عليه السلام) وما تعرَّضت له عائلته في السبي إلى أن رجعت إلى المدينة المنورة.
٦ – تفاعل الأُمم بشكل عام وشيعة أهل البيت بشكل خاص مع ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، وظهر هذا الأمر بعدَّة أشكال، منها زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) من قرب أو بعد، ومجالس الوعظ والإرشاد، والبكاء، ومواكب الخدمة الحسينية، والمسير إلى كربلاء على الإقدام خاصة في أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام) وغيرها من الشعائر التي أخذت بالنمو والتطور عاماً بعد عام.
وأخيراً فإنَّ الله تعالى هو المؤثر الأول في انطلاق وازدياد وانتشار وبقاء وهج كربلاء على الوجود ذلك لأنَّ الحسين (عليه السلام) نصر الله و قتل في سبيله، ولذا بقي حياً نسمع كلماته ونعيش مبادئه ونسير على نهجه وتستعر فينا حرارته، قال تعالى: ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ﴾ (البقرة: ١٥٤).
الهوامش:
(1) إرشاد المفيد: ٢: ١٢٧.
(2) تحف العقول: ٢٤٥.