
المطلب الثاني: الأُسس الشرعية والقانونية لآثار المواطنة (القسم الأوَّل):
كنا قد تحدَّثنا في الحلقة الأولىٰ عن المطلب الأوَّل في بحث (المواطنة في نصوص المرجعية العليا) وهو تعريف المواطنة، وهنا في الحلقة الثانية نريد الحديث عن المطلب الثاني وهو الأُسس الشرعية والقانونية لآثار المواطنة (القسم الأوَّل) فنقول:
كان الإسلام من السبّاقين والداعين الأوائل وبحرص شديد لإقامة دولة علىٰ أُسس متينة تدعو إلىٰ السلم والعدل والمساواة وإعطاء الحقوق وتطبيق الواجبات في الجوانب المختلفة.
فالمتتبع للقرآن الكريم والسُنَّة الشريفة واللذين سبقا كل التشريعات والقوانين المدنية الحديثة يجد ذلك الاهتمام الكبير بهذا الشأن، فهناك سيل من الآيات المباركة المبثوثة في شتىٰ سور القرآن – كما سيأتي التعرض لبعضها – ركَّزت وبشكل كبير علىٰ نقاط مهمة ومفصلية في تنظيم الأمور، ورعاية الإنسان والمجتمع بكل أطيافه، ومن الطبيعي أن تكون هذه القوانين والأُسس بدرجة عالية من الدقة والإتقان لأنَّها صادرة من الحكيم الخبير، ولا غرابة في ذلك حيث إنَّ الإسلام كان ولازال حاملاً مشعل الهداية والسلم وإخراج الناس من الظلمات إلىٰ النور، فلابد والحال هذه أن يضع القوانين والأُسس التي توصل لهذه الغاية.
وقد طبق الرسول الأكرم (صلَّىٰ الله عليه وآله وسلَّم)، والإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) من بعده ما دعىٰ إليه القرآن الكريم، وأخذوا علىٰ عاتقهم هذه المهمة العظيمة كما سنبيِّن إن شاء الله تعالىٰ.
ولأجل التعرف علىٰ ما دعىٰ إليه الإسلام من التنظيم والعدل والمساواة وغيرها لابد أن نطَّلع علىٰ العلاقات الموجودة بين أطراف المواطنة ثم نبحث عن آثارها ومقتضياتها والدليل عليها.
ما هي علاقات المواطنة؟
تقدَّم في تعريف المواطنة – في الحلقة الأولىٰ – أنَّه اشتمل علىٰ مصطلح المواطن إضافة إلىٰ الدولة والثاني يتكوَّن من الأرض (الوطن) والشعب والحكومة، وعليه تتكوَّن لدينا مجموعة ارتباطات وعلاقات بين أطراف المواطنة وهي:
أوَّلاً – العلاقة من المواطن اتِّجاه وطنه.
ثانياً – العلاقة من الوطن اتِّجاه المواطن.
ثالثاً – العلاقة من المواطن اتِّجاه الحكومة.
رابعاً – العلاقة من الحكومة اتِّجاه المواطن.
خامساً – العلاقة بين المواطنين.
وقد غطىٰ القرآن الكريم والسُنَّة الشريفة الآثار والمقتضيات الناتجة عن هذه العلاقات، حيث إنَّ هناك عدَّة مقتضيات وآثاراً تترتَّب علىٰ كل علاقة من هذه العلاقات الخمس سنذكر بعضها والدليل عليها:
أوَّلاً – العلاقة من المواطن تجاه وطنه ولهذه العلاقة مقتضيات كثيرة نذكر بعضها:
منها الدفاع عن الوطن والذب عنه، فإنَّ الدفاع عن الوطن أمر فطري جبلت عليه المخلوقات لأنَّ الوطن يمثل لها الأمن والاستقرار، والحق المشروع والمكفول في كل القوانين، وإذا تعرَّض الوطن للخطر نراها تدافع عنه إلىٰ آخر نفس وبمختلف الأساليب المتاحة وهكذا الإنسان، وقد أكَّد القرآن الكريم هذه الفطرة والجِبلّة بمثل قوله تعالىٰ: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلىٰ نَصْـرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ﴾ (الحج: ٣٩-٤٠).
وقوله تعالىٰ: ﴿قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ (البقرة: ٢٤٦).
ومنها حب الوطن وقد انعكس هذا وبشكل واضح في السُنَّة الشريفة، فقد ورد عن الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) أنَّه قال: «لمّا بعث الله محمداً (صلَّىٰ الله عليه وآله) بمكة وأظهر بها دعوته ونشر بها كلمته وعاب أعيانهم في عبادتهم الأصنام وأخذوه وأساؤوا معاشرته وسعوا في خراب المساجد المبنية التي كانت لقوم من خيار أصحاب النبي محمد (صلَّىٰ الله عليه وآله) وشيعته وشيعة علي بن أبي طالب (صلوات الله عليهما) كان بفناء الكعبة مساجد يحيون فيها ما أماته المبطلون فسعىٰ هؤلاء المشركون في خرابها وإيذاء محمد (صلَّىٰ الله عليه وآله) وسائر أصحابه وألجأوه إلىٰ الخروج من مكة إلىٰ نحو المدينة التفت خلفه إليها وقال: الله يعلم أنَّني أحبك ولولا أن أهلك أخرجوني عنك لما آثرت عليك بلداً ولا ابتغيت عنك بدلاً، وإنِّي لمغتم علىٰ مفارقتك فأوحىٰ الله إليه يا محمد أنَّ العلي الأعلىٰ يقرأ عليك السلام ويقول: سنردك إلىٰ هذا البلد ظافراً غانماً سالماً قادراً قاهراً، وذلك قوله تعالىٰ: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلىٰ مَعادٍ﴾ [القصص: ٨٥] يعنىٰ إلىٰ مكة ظافراً غانماً…» الخبر(1).
وروي عن رسول الله (صلَّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) في دعائه عندما دخل المدينة أنَّه قال: «اللَّهمَّ حبِّب إلينا المدينةَ كما حبَّبت إلينا مكة وأشد، وبارِك في صاعها ومُدِّها…»(2).
إنَّ تعبير الرسول الأكرم (صلَّىٰ الله عليه وآله): «الله يعلم أنَّني أحبك» ودعاؤه فيه دلالة واضحة علىٰ حبه لوطنه الذي أخرج منه والذي هاجر إليه.
وورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنَّه قال: «عُمرَتْ البلدان بحب الأوطان»(3).
فحديث الإمام (عليه السلام) يفهم منه الحث علىٰ حبِّ الأوطان حيث ربط بين عمارة البلدان وحبِّ الأوطان وجعل العلاقة بينهما طردية كلما زاد أحدهما زاد الآخر.
ومنها بناء الوطن والمحافظة علىٰ منشآته حيث ذكر القرآن الكريم وبشكل عام ضرورة عمارة الأرض والمحافظة عليها وبناءها، فقد قال الله تعالىٰ: ﴿وَإِلىٰ ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾ (هود: ٦١).
فالقرآن الكريم يخاطبنا من خلال قوم صالح بقوله: إنِّي استعمرتكم في الارض، أي المكان الذي تعيشون فيه وتستوطنونه فجعلتكم عمّاراً لها من الخراب، فاسعوا في بنائها وجعْلِها صالحة لئن ينتفع بها.
وهذا ما أكَّد عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) لمالك الأشتر حيث أمره بضرورة إصلاح الأرض قبل أخذ الخراج منها حيث قال له: «وَلْيكُن نَظَرُكَ في عمارةِ الأرْضِ أبْلَغَ من نظرِكَ في اسْتِجْلابِ الخراجِ، لأنَّ ذلكَ لا يُدْركُ الا بالعمارةِ؛ ومن طَلَبَ الخراجَ بغيرِ عمارةٍ أخْرَبَ البلاد، وأهْلَكَ العباد»(4).
ومنها المحافظة علىٰ ثروات الوطن يحدِّثنا القرآن الكريم في قصة نبي الله يوسف (عليه السلام) حيث قال سبحانه وتعالىٰ: ﴿قالَ اجْعَلْنِي عَلىٰ خَزائِنِ الْأَرضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ (يوسف: ٥٥).
حيث إنَّ نبي الله يوسف (عليه السلام) طلب من ملك مصر أن يجعله عاملاً علىٰ خزائن الأرض، وعلَّل ذلك بقوله: ﴿إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾، وهذا يدلِّل علىٰ أنَّ هناك ارتكازاً عقلائياً بضرورة حفظ ثروات البلد أمضاه الشارع المقدس لأنَّه هدف وغاية مهمة جداً، ولذا نجد ملك مصر أناط هذه المسألة بنبي الله يوسف (عليه السلام) لا بغيره.
ومنها اتِّباع قوانين البلد ودساتيره، فمما لا شك أنَّ القانون ركن أساسي ومهم في كل بلد وأصبح معياراً في تحضُّر البلدان وتمدنها، ومن هنا كتبت الدساتير والقوانين التي تحفظ كيان الدول وأمنها، وبدون هذا الركن ينحصر الخيار بالفوضىٰ لا محالة.
ومما امتازت به الشريعة الإسلامية امتلاكها أعظم دستور إلهي وهو القرآن الكريم الذي جاء به رسول الله (صلَّىٰ الله عليه وآله) لكي يُطبَق من قبل المسلمين في مكة والمدينة وسائر البلدان الأخرىٰ، وقد احتوىٰ هذا الدستور في طياته القوانين الشاملة لكل جوانب الحياة، وقد أمر المولىٰ تبارك وتعالىٰ باتِّباع هذا الدستور والامتثال لقوانينه فقال تعالىٰ: ﴿وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (الأنعام: ١٥٥) وقال تعالىٰ: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (البقرة: ٢٢٩).
ومنها الانتماء للوطن والجنسية والانتساب له أنَّ القاعدة الأساسية في الانتماء عند الإسلام هي الانتماء العقيدي الحقيقي إلىٰ الله ورسوله والأولياء وقد بيَّن القرآن الكريم ذلك بقوله تعالىٰ: ﴿قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ﴾ (التوبة: ٢٤).
وبقوله تعالىٰ: ﴿إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ﴾ (المائدة: ٥٥).
وذكر الرسول الأكرم (صلىٰ الله عليه وآله) الانتماء العقيدي في وثيقة المدينة المنورة في أوَّل بند منها حيث قال: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي (صلَّىٰ الله عليه وآله)، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أنَّهم أُمَّة واحدة من دون الناس»(5).
فوطننا الكبير هو الإسلام لا تحده أرض أو بحر لكن الاستعمار قطَّع أرض الإسلام الكبيرة وجعلها دويلات صغيرة ورسم لكل مواطن جنسية خاصة به ظناً منه أن يقضي علىٰ ذلك الانتماء العقيدي الإسلامي.
فالمسلمون مرتبطون برابطة الإسلام، ويتفاعلون مع ما يتعرَّض له من هموم وآلام تعصف به، وهذا الأثر قد يزداد وينقص من شخص لآخر تبعاً لشدة ارتباطه بوطنه وانتمائه إليه.
ومنها الولاء للوطن ومعنىٰ الولاء أي القرب من الوطن والدنو إليه ونصرته وعدم خذلانه وضرورة محبته ويقابلها أن يكون المواطن مفسداً لوطنه وجاسوساً لغيره مثلاً.
فقد ورد في وثيقة المدينة المنورة التي كتبها رسول الله (صلَّىٰ الله عليه وآله): «وإِنَّ كلَّ غازيةٍ غزت معنا يعقّب بعضها بعضاً [أي يتناوب المسلمون في المشاركة في الجهاد]، وإنَّ المؤمنين يبيء بعضُهم علىٰ بعض بما نالَ دماءَهم في سبيل اللّه [أي يراقُ منهم الدمُ علىٰ السواء لا أن يتعرض للقتل بعض دون بعض]».(6)
وكذلك ورد فيها: «وإنَّ بينهم [أي بين اليهود والمسلمين] النصر علىٰ من دهم يثربَ [فعليهم معاً أن يدافعوا عن المدينة ضدَّ المعتدين]».(7)
وَقد ورد في خَبَر غَزوِ الأنبارِ بجَيشِ مُعاويَةَ أنَّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) استنهض قومه لنصرة وطنهم وعدم خذلانه فلَم يَنهَضوا وكانت النتيجة مؤلمة فقال (عليه السلام): «ألَا وإنّي قَد دَعَوتُكُم إلىٰ قِتالِ هؤلاءِ القَومِ لَيلاً ونَهاراً، وسِرّاً وإعلاناً، وقُلتُ لَكُم: اغزُوهُم قَبلَ أنْ يَغزوكُم، فوَاللَّهِ ما غُزِيَ قَومٌ قَطُّ في عُقرِ دارِهِم إلَّا ذَلُّوا، فتَواكَلتُم وتَخاذَلتُم حتّىٰ شُنَّت علَيكُمُ الغاراتُ، ومُلِكَت علَيكُمُ الأوطانُ».(8)
ثانياً: العلاقة من الوطن تجاه المواطن:
وهناك آثاراً ومقتضيات كثيرة لهذه العلاقة منها:
الأمن: إنَّ شعور المواطن بالأمن في بلده من أهم عوامل الاستقرار والطمأنينة وقد تناولت السُنَّة الشريفة، هذه القضية المهمة فقد ورد عن رسول الله (صلَّىٰ الله عليه وآله): «لا خير في الوطن إلَّا مع الأمن والسرور»(9).
وورد في وثيقة المدينة المنورة: «وإِنَّ يثرب حرام جوفُها لأهل هذه الصحيفة» أي أنَّ داخل المدينة حرم ومأمن لجميع من وقَّعَ علىٰ هذه الصحيفة(10).
وورد فيها أيضاً: «وإِنَّه من خرج [من المدينة] آمِنْ، ومن قعد آمِنْ بالمدينة إِلَّا من ظلم أو أثم»(11).
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): «شر الأوطان ما لم يأمن فيه القُطّان»(12).
وقال (عليه السلام): «لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً»(13).
وورد في دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام): «اللَّهم وأعطني السعة في الرزق والأمن في الوطن»(14).
ومنها حق الكسب الاقتصادي: وهو حق مهم ومحوري وأساسي في حياة الإنسان وقد أكَّد عليه القرآن الكريم حيث قال تعالىٰ: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ (الملك: ١٥).
وقد ورد عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنَّه قال: «من سعادة المرء أن يكون متجره في بلاده»(15).
وحينما يفتقد المواطن هذا المحور في بلاده لأسباب مختلفة فهو إمَّا أن يعيش الفقر والحاجة في بلده، وإمَّا أن يغادر وطنه بحثاً عن لقمة العيش ومتطلبات الحياة.
ومنها حق الحياة الكريمة صرَّح القرآن الكريم في مناسبات عدَّة وبشكل واضح بأنَّ الله تعالىٰ كرم الإنسان حيث قال تعالىٰ: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً﴾ (الإسراء: ٧٠).
وقال تعالىٰ علىٰ لسان عزيز مصر عندما اشترىٰ نبي الله يوسف (عليه السلام): ﴿وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْـرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسَـىٰ أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ﴾ (يوسف: ٢١).
ومن أوليات حقوق المواطن أن يعيش في وطنه بكرامة غير منقوصة ولا مسلوبة.
ومنها حق العدل والمساواة حيث لابد أن يتساوىٰ المواطنون في الحقوق والواجبات في الوطن الواحد، وهذا من القوانين المهمة التي ذكرها القرآن الكريم حيث قال تعالىٰ: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبىٰ وَيَنْهىٰ عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النحل: ٩٠).
فلابد أن يعامل الناس من دون تمييز بينهم إلَّا بمعيار التقوىٰ قال تعالىٰ: ﴿يا أَيـُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثىٰ وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات: ١٣).
وورد في خطبة حجة الوداع: «أيُّها الناس، إنَّ ربَّكم واحد، وإنَّ أباكم واحد، كلُّكم لآدم وآدم من تراب، ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ﴾ وليس لعربي علىٰ عجمي فضل إلَّا بالتقوىٰ، ألا هل بلغت»؟ قالوا: نعم. قال: «فليبلغ الشاهد الغائب»(16).
وورد عنه (صلَّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) أنَّه قال: «الناس كأسنان المشط سواء»(17).
وقال (صلَّىٰ الله عليه وآله وسلَّم): «يا جويبر إنَّ الله قد وضع بالإسلام من كان في الجاهلية شريفاً، وشرَّف بالإسلام من كان في الجاهلية وضيعاً، وأعزَّ بالإسلام من كان في الجاهلية ذليلاً، وأذهب بالإسلام ما كان من نخوة الجاهلية وتفاخرها بعشائرها وباسق (المرتفع) أنسابها، فالناس اليوم كلهم أبيضهم وأسودهم وقرشيهم وعربيهم وعجميهم من آدم وإن آدم خلقه»(18).
ومنها حق التملك نهىٰ القرآن الكريم عن التجاوز علىٰ حقوق الآخرين حيث قال تعالىٰ: ﴿يا أَيـُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾ (النساء: ٢٩).
وجاء في خطبة حجة الوداع عن رسول الله (صلَّىٰ الله عليه وآله): «فإنَّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا»(19).
وقال رسول الله (صلَّىٰ الله عليه وآله) نصاً في احترام الملكية الخاصة: «كلّ أحد أحق بماله من والده وولده والناس أجمعين»(20).
وعن النبي (صلَّىٰ الله عليه وآله) أنَّه قال: «من اقتطع مال مؤمن غصباً بغير حقه لم يزل الله معرضاً عنه ماقتاً لأعماله التي يعملها من البرّ والخير لا يثبتها في حسناته حتىٰ يردّ المال الذي أخذه إلىٰ صاحبه»(21).
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): «من أحيا أرضاً من المؤمنين فهي له وعليه طسقها (خراجها) يؤديه للإمام في حال الهدنة»(22).
ومنها حق حرية الرأي والتعبير والمعتقد الذي لا يتعارض مع المبادئ الإسلامية، قال تعالىٰ: ﴿لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقىٰ لاَ انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: ٢٥٦).
وقال تعالىٰ: ﴿وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس: ٩٩).
ومنها حق التعليم المجاني، وهذا من الحقوق المهمة وهو حق طبيعي اهتم به القرآن والسُنَّة النبوية وله جوانب إيجابية مهمة في حياة الإنسان، ولأهميته فقد أمر الله نبيَّه بالدعاء والطلب من الله للتزود بالعلم، حيث قال تعالىٰ: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾ (طه: ١١٤).
بل إنَّ التعليم كان من وظائف الرسول الأكرم (صلَّىٰ الله عليه وآله)، قال تعالىٰ: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ (الجمعة: ٢).
وقد جعل النبي (صلَّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) مسجد المدينة المنورة مركزاً عبادياً وعلمياً وثقافياً حيث روي في موسوعة العقائد الإسلامية: خرج رسول الله (صلَّىٰ الله عليه وآله) ذات يوم من بعض حجره فدخل المسجد فإذا هو بحلقتين إحداهما يقرؤون القرآن ويدعون الله، والأخرىٰ يتعلَمون ويُعلِّمون فقال النبي (صلَّىٰ الله عليه وآله): «كل علىٰ خير هؤلاء يقرؤون القرآن ويدعون الله فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وهؤلاء يتعلمون ويُعلِّمون إنَّما بُعثتُ معلّماً فجلس معهم»(23).
وقد أشار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلىٰ حق التعلم والتعليم فقال (عليه السلام): «ما أخذ الله ميثاقاً من أهل الجهل بطلب تبيان العلم، حتّىٰ أخذ ميثاقاً من أهل العلم ببيان العلم للجهّال، لأنَّ العلم كان قبل الجهل»(24).
ومنها حق الضمان الصحي هناك اهتمام كبير من قبل أهل البيت (عليهم السلام) بالجانب الصحي بشكل عام، فقد ورد عن أمير المؤمنين علي أبي طالب (عليه السلام) أنَّه قال: «الصحة أفضل النعم»(25).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «النعيم في الدنيا الأمن، وصحة الجسم، وتمام النعمة في الآخرة دخول الجنة»(26).
وورد عنه (عليه السلام): «لا يستغني أهل كل بلد عن ثلاثة يفزع إليهم في أمر دنياهم وآخرتهم فإن عدموا ذلك كانوا همجاً: فقيه عالم ورع، وأمير خير مطاع، وطبيب بصير ثقة»(27).
ومنها الحق في الحياة حيث حرص القرآن الكريم علىٰ ضرورة الحفاظ علىٰ حياة الإنسان بشكل عام حيث قال تعالىٰ: ﴿مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلىٰ بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرضِ لَمُسْـرِفُونَ﴾ (المائدة: ٣٢).
وقد ورد في وثيقة المدينة المنورة: «وإنَّه من اعتبط مؤمناً قتلاً [أي قتل من المؤمنين مؤمناً بلا جناية منه توجب قتله] عن بيِّنة فإنَّه قود به [أي يُقتَل بقتله قصاصاً] إلَّا أن يرضىٰ ولي المقتول»(28).
وسيأتي تتمة العلاقات الأخرىٰ في الحلقات القادمة.
الهوامش:
(1) جامع أحاديث الشيعة – السيد البروجردي: ج١٠، ٨٩ .
(2) وسائل الشيعة – الحر العاملي: ج١٠، ٢٣٧.
(3) تحف العقول: ٢٠٠.
(4) جامع أحاديث الشيعة – السيد البروجردي: ج١٧، ٣٣٦.
(5) السيرة النبوية – ابن هشام الحميري: ج٢، ٣٤٨.
(6) نهاية الارب – النويري: ج١٦، ٣٤٩.
(7) المصدر السابق: ٣٥١.
(8) الكافي – الكليني: ج٥، ٤-٥.
(9) من لا يحضره الفقيه: ج٤، ٣٢٥.
(10) السيرة النبوية – ابن هشام الحميري: ج٢،٣٥٠.
(11) المصدر السابق:٣٥١.
(12) ميزان الحكمة: ج٤، ٣٥٦٨.
(13) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) – الشيخ الصدوق: ج٢، ٧٥-٧٦.
(14) الكفعمي: ٢٠٥.
(15) الوسائل: ج١٧، ٢٤٣.
(16) تحف العقول – الحراني: ٣٤.
(17) من لا يحضره الفقيه – الشيخ الصدوق: ج٤، ٣٩٧.
(18) الكافي – الشيخ الكليني: ج٥، ٣٤٠.
(19) الكافي – الشيخ الكليني: ج٧، ٢٧٣.
(20) السنن الكبرىٰ: ج١٠، ٣١٩.
(21) الوسائل – الحر العاملي: ج١١، ٣٤٣.
(22) الوسائل – الحر العاملي: ج٩، ٥٤٩.
(23) موسوعة العقائد الإسلامية – محمد الريشهري: ج٢، ٣٣٦.
(24) الأمالي – الشيخ المفيد: ٦٦.
(25) ميزان الحكمة: ج٢، ١٥٧٠.
(26) معاني الأخبار – الشيخ الصدوق: ٥٤٩.
(27) تحف العقول عن آل الرسول – ابن شعبة الحراني: ٣٢١.
(28) السيرة النبوية – ابن هشام الحميري: ج٢، ٣٤٩.

