مراحل هلاك الإنسان في القرآن

هلاك الانسان

عندما نقرأ القرآن ونتأمَّل ونتدبَّر في آياته، نجد الكثير من الحقائق الواضحة، التي يغفل الإنسان عنها بقصد أو بدونه، فتعال معنا إلىٰ مشاهدة بعض الوقائع التي يعرضها كتاب الله العزيز في بيان مراحل سير الإنسان نحو هلاكه.

فمتىٰ يصل الإنسان بنفسه إلىٰ مرحلة الهلاك؟

وهل يمكن إنقاذ نفسه قبل فوات الأوان؟

والجواب عن ذلك: يتَّضح من خلال التدبُّر في آيات الله (عزَّ وجلَّ).

فقد ذكر الله (عزَّ وجلَّ) في القرآن الكريم مراحل خمسة، يسلكها الإنسان قبل الوصول لمرحلة الهلاك، ولكن هذه المراحل تكون نتيجة لغفلة الإنسان عنها واستهانته بأوامر الله (عزَّ وجلَّ)، وقد حذَّر الله تعالىٰ عن الغفلة في آيات عديدة منها:

حيث قال تعالىٰ في سورة مريم: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْـرَةِ إِذْ قُضِـيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ (مريم: ٣٩).

وقال تعالىٰ في سورة الأنبياء: ﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ﴾ (الأنبياء: 97).

فهاتين الآيتين الكريمتين وغيرها بيَّنت وأوضحت أنَّ الغفلة سبب هلاك الإنسان وانحطاطه في الدنيا وخسرانه الآخرة، فالتذكُّر والتنبُّه والالتفات للنفس وعدم التواني وكثرة الاستغفار وطلب الرحمة والتوفيق ومحاسبة النفس وذكر الله تعالىٰ، كل ذلك مما يُعيد الإنسان إلىٰ جادة الحق، واستئناف ارتباطه بالله (عزَّ وجلَّ)، وخلاف ذلك يكون طريقاً ومرحلة جديدة يخوضها الغافل في وحل مراحل الهلاك.

فالغفلة هي بوابة الدخول لمستنقع الأهواء والأماني الخدّاعة الغرور.

ولذا حذَّر أئمتنا (عليهم السلام) من الغفلة، وعالجوها أيضاً، كما ورد عن إمامنا الباقر (عليه السلام) حيث قال:

«وإِيَّاكَ والْغَفْلَةَ فَفِيهَا تَكُونُ قَسَاوَةُ الْقَلْبِ، وإِيَّاكَ والتَّوَانِيَ فِيمَا لَا عُذْرَ لَكَ فِيهِ، فَإِلَيْهِ يَلْجَأُ النَّادِمُونَ، واسْتَرْجِعْ سَالِفَ الذُّنُوبِ بِشِدَّةِ النَّدَمِ وكَثْرَةِ الِاسْتِغْفَارِ، وتَعَرَّضْ لِلرَّحْمَةِ وعَفْوِ الله بِحُسْنِ المُرَاجَعَةِ، واسْتَعِنْ عَلَىٰ حُسْنِ المُرَاجَعَةِ بِخَالِصِ الدُّعَاءِ، والمُنَاجَاةِ فِي الظُّلَمِ…» إلخ(1).

وليت شعري فكم من غافل وثق بهواه وعاش دنياه ولم يأبه بأوامر مولاه، حتَّىٰ جاءته المنية، فضيَّع آخرته بمناه.

ثم تتوالىٰ علىٰ الغافل بعد ذلك مراحل الهلاك شيئاً فشيئاً، كما يصوِّرها الله تعالىٰ في آية أخرىٰ، حيث تُصوِّر لنا مشهداً من مشاهد يوم القيامة علىٰ لسان أهل الجنة وهم يُلقون الحجة علىٰ المنافقين الذين غفلوا واتَّبعوا أهواءهم، وهي قوله تعالىٰ: ﴿يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلىٰ وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّىٰ جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ﴾ (الحديد: ١٤).

فلنتأمل في هذه الآية الكريمة ونتدبَّرها ونرىٰ ماذا بيَّن الله تعالىٰ لنا من حقائق مخيفة تبعث في نفس كل عاقل الحذر والتنبُّه، وهي تمثِّل مراحل المنافق الغافل أجارنا الله وإياكم منها.

فالمرحلة الأولىٰ: هي الفتنة:

قال تعالىٰ: ﴿وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾.

وهذه بداية الاختبار والتحدِّي، ويظن الإنسان أنَّه قوي ولا يُفتن، ويمكن أن يتفصىٰ بسهولة من هذا الاختبار ولا يراعي أو يحصِّن نفسه بدرع الإيمان وجدار الورع والتقوىٰ، فيرتكب ما يظن أنَّه قادر علىٰ التخلُّص منه متىٰ ما أراد، ويخدع نفسه بسلوك الطرق البعيدة عن الله تعالىٰ.

فيقع في شَرَك الشيطان، فيبدأ في إيقاع نفسه في الشبهات، كالعلاقات المحرَّمة مع أجنبية، بحجة الزمالة في دائرة معيَّنة أو جامعة ما أو أنَّها قريبتي أو جارتي أو غير ذلك مما هو متعارف عند العوام متناسي حدود الله التي رسمها مع كل امرأة أجنبية.

فتتطوَّر الأمور بينهما من السلام العام إلىٰ الأسئلة الشخصية ثم المفاكهة ثم الملامسة ثم ما لا يحمد عقباه.

وقد حذَّرنا الله تعالىٰ من هذه المرحلة، فضلاً عن الوقوع فيها.

علىٰ سبيل المثال: أنَّ الله تعالىٰ وضع حدّاً للزنا، وأنَّه كبيرة من الكبائر والنهي عنه من ضروريات الدين، ولكن النهي جاء محذِّراً بعدم القرب منه فضلاً عن ارتكابه، كما في قوله تعالىٰ:

﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنىٰ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً﴾ (الإسراء: ٣٢).

[لم تقل الآية: لا تزنوا، بل قالت: لا تقربوا هذا العمل الشائن، وهذا الأسلوب في النهي فضلاً عمّا يحمله من تأكيد، فإنَّه يوضح أنَّ هناك مقدمات تجر إلىٰ الزنا ينبغي تجنُّبها وعدم مقاربتها، فخيانة العين تعتبر واحدة من المقدمات، والسفور والتعرّي مقدمة أخرىٰ، الكتب السيئة والأفلام الملوّثة والمجلات الفاسدة ومراكز الفساد كل واحدة منها تعتبر مقدمة لهذا العمل.

كذلك فإنَّ الخلوة بالأجنبية (يعني خلوة المرأة والرجل الأجنبي عليها في مكان واحد ولوحدهما) يعتبر عاملاً في إثارة الشهوة](2).

وكذلك أيضاً أصدقاء السوء من حبائل الشيطان التي تجرُّ الإنسان إلىٰ مكائد الشر والخطيئة، فينبغي لكل مؤمن أن لا يغفل ويبتعد عن كل مقدمة تؤدي إلىٰ الوقوع في معصية الله (عزَّ وجلَّ)، قبل السقوط في وحل الخطيئة.

والمرحلة الثانية: وهي التربُّص في الخروج من المعصية:

قال تعالىٰ: ﴿وَتَرَبَّصْتُمْ﴾.

وهذا مما يرسمه الإنسان لنفسه والعياذ بالله تعالىٰ حيث ينتظر ويجمِّل المعصية في وهمه ومخيلته ولا يسعىٰ للهروب منها، ويكون الإنسان عاجزاً عن الخروج من الخطيئة، ويسوِّف المعصية والذنوب، فلو أنَّ شخصاً له صديق سوء آكلاً للحرام، مستحلّاً للرشوة أو شارباً للخمر، ويكون جليسه في معاصيه وخطاياه، فلا يبعد أن يكون مثله، بل أكثر منه في استحلال ما حرَّم الله تعالىٰ، ولا سبيل له إلَّا الهروب من مجالسته ومنادمته، فبئس الصديق مثله.

حاله كحال من يجلس بقرب المرض المعدي فلا محيص من العدوة، وصديق السوء أخطر مرضاً من الأمراض العضوية، ثم بعد هذا الطريق يصير به الحال إلىٰ مرحلة أخرىٰ وهي:

والمرحلة الثالثة: وهي الشك والريبة:

قال تعالىٰ: ﴿وَارْتَبْتُمْ﴾.

وهذا نتاج طبيعي للطريق الثاني، حيث يبدأ الإنسان تدريجياً يقلُّ إيمانه ويضعف شيئاً فشيئاً ويزداد شكّه، فيقول في دخالة نفسه: إنه مادام وحاله هذه بعيداً عن الله تعالىٰ غير ملتزم بما حرَّم عليه، فيبقىٰ علىٰ ضياعه وشكِّه، فلا تنفعني توبة أو ندم، فما دمت لا أصلِّي فلا داعي للصلاة وما دمت أستمع للغناء فلا داعي لتركها.

وهكذا إلىٰ أن يبقيه الشيطان في هذه الريبة والشك حتَّىٰ يصل الحال به إلىٰ المرحلة الأخيرة وهي:

المرحلة الرابعة: وهي الاغترار بالأماني:

قال تعالىٰ: ﴿وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ﴾.

وهي مرحلة فقدان الأمل والمقصود من الأمل هو تعلق الإنسان بالجنة أولاََ، والخوف من الله تعالىٰ ثانياً.

ولكن الإنسان عندما يغتر بالأماني فيكون المهم بل الأهم عنده ملذّات الدنيا (الأماني) وأمَّا الآخرة فليس لها نصيب في نفسه، فيبقىٰ والحال هذه إلىٰ أن يأتي أمر الله (عزَّ وجلَّ)، وهو -الموت- ولات حين مندم.

والمرحلة الخامسة: اتِّباع الشيطان:

قال تعالىٰ: ﴿وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ﴾.

وهنا الإنسان بعد أن يطوي المراحل الأربعة السابقة يصبح غرضاً للشيطان وأُلعوبة بيده يوجَّه أينما يريد، ومن هذه الآية نفهم أنَّ الشيطان ليس له سيطرة علىٰ الإنسان إلَّا بعد أن يكون الإنسان مهيئاً لذلك حيث يكون الإنسان أولاً مفتوناً ثم متربِّصاً ثم مرتاباً ثم مغتراً بالأماني، بعد هذا كلّه يسيطر عليه الشيطان ويبعده كلياً عن طريق الأمان إلىٰ الهلاك والعياذ بالله.

والجدير بالذكر أنَّ الله تعالىٰ من لطفه الكريم عزَّز الآية الكريمة فيما بعدها بقوله:

﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ﴾ (الحديد: 16).

وبعد هذا لابدَّ لكلِّ إنسان أن يسأل نفسه: أما حان الوقت للرجوع لله تعالىٰ والندم والتوبة عمّا اقترفته أيدينا من ذنوب، واليقظة من غفلتنا قبل فوات الأوان فنكون من المهلَكين؟

وعليه: أن يحذر الإنسان من هذه المكائد، حتَّىٰ لا يقع فريسة سهلة لوساوس الشيطان الرجيم، ودائماً فليكن طلب التوفيق والرحمة والمغفرة والإخلاص، وسوىٰ ذلك فلا نفع فيه، كما يعلمنا القرآن ذلك في قوله تعالىٰ: ﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَىٰ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَىٰ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ﴾ (البقرة: ٢٨٦).

 

 

 

الهوامش:


(1) بحار الأنوار: ج٧٥، ص١٦٤، باب وصايا الإمام الباقر (عليه السلام).

(2) تفسير الأمثل: ج٨، ص٣١٠.

Edit Template
Scroll to Top