تداعيات الحداثة على الغرب

تداعيات الحداثة

حدثت تحوُّلات كبيرة ومختلفة في الغرب منذ ما يسمَّىٰ بعصر القرون الوسطىٰ (من القرن الخامس إلىٰ القرن الخامس عشر الميلادي) أو ما يسميها البعض بالقرون المظلمة مروراً بعصر الحداثة وعصر ما بعد الحداثة إلىٰ العقد الأخير من القرن العشرين والعقدين الأول والثاني من القرن الحادي والعشرين والتي يسمّونها عصر (بعد ما بعد الحداثة)، وكانت لهذه التحولات تداعيات مختلفة إيجابية وسلبية، وكانت جميع هذه التحولات توصف بأنَّها ردت فعل للتحوُّلات السابقة عليها فقد اتَّصف عصر القرون الوسطىٰ عند الغرب بالجهل وسيطرة القطب الواحد علىٰ كل جوانب الحياة حتَّىٰ في تعيين الملك والرئيس ثم جاء بعده عصر الحداثة أو عصر التنوير أو عصر الثورة الصناعية كردة فعل علىٰ ما حصل في عصر القرون الوسطىٰ وكان من أركان عصر الحداثة أمور منها إنكار الإله أو جعله خاضعاً للمادة والنفعية وجعل ما وراء المادة وَهم، وكذلك الاقتصار علىٰ المعرفة الحسية فقط وإنكار ما وراءها إلىٰ غيرها، وكان من المفترض أن يأتي عصر الحداثة كحل جذري حتَّىٰ يوصل المجتمع الغربي إلىٰ بر الأمان وينقذهم مما تفشىٰ وساد في القرون الوسطىٰ فيخرجهم من الجهالة إلىٰ العقلنة ومن البؤس والفقر إلىٰ الاقتصاد المستقر والمستدام ومن عدم الأمن والأمان إلىٰ بر الأمان والاستقرار ومن ذل الإنسان إلىٰ كرامته، ولكن كل هذا تهاوىٰ وسقط علىٰ أعتاب الحربين العالمية الأولىٰ والثانية والتي اشترك فيها الغرب والشرق والتي ذهب ضحيتها الملايين من الناس الأبرياء، فلم يجد الغرب في ظل الحداثة إلَّا الموت والانحلال والبؤس والتفكك وعدم الاستقرار الاقتصادي، وذبحت الكرامة بالتمييز العنصري وأصبح الإنسان وخصوصاً المرأة عندهم لعبة تباع وتشترىٰ وضاعت عندهم القيم والمبادئ إلىٰ غير رجعة.

ونتيجة لذلك وقف علماؤهم وفلاسفتهم في منتصف القرن العشرين وما بعده إلىٰ تسعينيات القرن الماضي موقف المتأمل لإيجاد حل آخر بعد فشل الحداثة في إيجاد حلول جذرية لما مرَّ به المجتمع الغربي، وقد وقع الحل علىٰ ما أسموه (ما بعد الحداثة) والذي ارتكز في بعض أركانه علىٰ ما هو نقيض الحداثة، حيث كان من أركان هذه المرحلة عجز العقل وتشظي الحقيقة ونسبيتها، وأصبح الشك فيها هو المحور، وتعدَّدت المعاني والقراءات وأصبح النص متاحاً للقارئ، فلا سلطة للمؤلف ولا للنص وحلَّت المدرسة التفكيكية الغربية والانتقائية وعدم الثبات ونقد كل ما هو مألوف وتقليدي إلىٰ غيرها، ولكن هذا الحل لم ينجح ايضا في انتشال الغرب من نتائج الحداثة، حيث بقيت تلاحقهم الكوارث وتضاعفت أكثر فأكثر واستمرت الحروب والفوضىٰ في السلطة والحكم وفي العلاقات الاجتماعية والجنسية والاقتصادية وغيرها.

ومن هنا أصبحت الحاجة ملحة عند مفكريهم وفي بداية تسعينيات القرن الماضي تقريباً إلىٰ التفكير بحل آخر لعله ينقذ الغرب مما وقع فيه، فجاء الحل بما يسمَّىٰ عندهم (بعد ما بعد الحداثة) وقد وصف بعضهم هذا الحل فقال: (هذه المرحلة الجديدة، مرحلة بعد ما بعد الحداثة تعبّر عن نفسها كما لو كانت عصر نهضة ذهبي يمجد العقل والإبداع والتميز والاحترافية والتمرُّد علىٰ القيم الموروثة والارتقاء بالفردانية، وكان لمنتجات التكنولوجيا الحديثة والسيبرانية التأثير الأعظم في هذه المرحلة، فقامت التكنولوجيا الحديثة بإعادة ترتيب أوراق العالم من جديد، وانطلقت تعيد تعريف كل شيء، المنتِج والمنتَج والمستهلك).

وها نحن نعيش مع الغرب عصر هذا الحل ولا زلنا نلاحظ مشاكل الغرب مستجدة وكبيرة، وفي مفردات عديدة كالتلوث والأوبئة والحروب وغيرها، حتَّىٰ أمسي الغرب يخشىٰ من أحدث ابتكاراته وهو الذكاء الاصطناعي من أن يُستغل أو يتمدَّد فتكون البشرية رهينة الآلة وينقلب السحر علىٰ الساحر.

وهنا ملاحظات:

١ – إنَّ الواقع العملي الذي عاشه ويعيشه الغرب يظهر لنا وبشكل جلي أنَّ الحلول التي وضعت لم تنقذ الغرب من مآسيه ومشاكله، نعم في بعض الجوانب غيَّرت صورة الغرب دون حقيقته.

٢ – نحن لا ننكر أنَّ هذه الحلول قد نتج عنها الكثير من الأمور النافعة ليس فقط للغرب بل لكل المجتمعات الأخرىٰ الغربية والشرقية، ولكن في قبال هذه النجاحات نرىٰ أنَّ هناك سقوطاً وفشلاً كبيراً في أغلب الجوانب الحياتية، وواقع الغرب والشرق يشهد بذلك.

٣ – إنَّ هذه الأفكار والنظريات لا تعدوا كونها بشرية خضعت للتجربة والتراكم والتحليل، ولكنها كانت قاصرة عن الوصول إلىٰ حلول جذرية تنقذ المجتمع الغربي مما هو فيه حيث لازالت الفوضىٰ والحروب والرأسمالية وانتهاك الحقوق الشخصية والعامة وغيرها ظاهرة للعيان ولا تحتاج إلىٰ برهان.

٤ – لابدَّ لنا أن نستفيد مما نتج عن هذه الحلول والنظريات من أمور إيجابية ولا يمكن لنا غض الطرف عنها فيمكن لنا الاستفادة مثلاً من التقدُّم في الجانب الطبي وبعض الجوانب التربوية وبعض الجوانب السياسية وهكذا.

إنَّ النظر إلىٰ ما وصل إليه الغرب في بعض جوانب الحياة من إيجابيات يدعونا إلىٰ حث الخطىٰ والسير للوصول إلىٰ القمة لا أن ننتظر من الغرب كي يعطينا ونسير حياتنا طبق ما يريد.

٥ – اعتقد أن سبب إخفاق هذه النظريات هو أنَّها بشرية بكل ما للكلمة من معنىٰ ولم تعتمد علىٰ قانون عام ومطلق ومعصوم تستند إليه، بل إنَّ الانطلاقة الأولىٰ للحداثة رفضت وبشكل قاطع اللجوء إلىٰ هكذا قانون معصوم حيث رفضت الإله واعتمدت علىٰ العقل البشري.

٦ – إنَّ الانبهار بهذه النظريات وإعطاؤها هالة من التقديس والتعظيم من قبل المسلمين أمر ليس بصحيح أبداً، حيث إنَّ نفس الغرب لم يقبل هذه النظريات علىٰ إطلاقها ولازالت هذه الحلول خاضعة للنقد وعدم القبول عندهم فكيف لنا أن نقبل بها وننبهر بصورتها ونغض الطرف عن مخاطرها.

٧ – لابد للمسلم أن يؤمن بإله الكون رب العالمين ويعتز بإسلامه وقرآنه وعقيدته وقادته المعصومين والحفاظ علىٰ الثوابت الإسلامية مع إمكانية الاعتماد علىٰ ما نتج من البشرية من نتائج إيجابية في عصورنا التي نعيشها.

إنَّ العصور الوسطىٰ في الغرب كان في قبالها عصر الأنوار الإسلامية التي أنارت مساحات كبيرة من العالم في ظل رسالة السماء والرسول الأكرم (صلَّىٰ الله عليه وآله وسلَّم).

إنَّنا نعتقد أن الإسلام هو الحل الوحيد لجميع مشاكل البشرية لو اعتُمد بشكل صحيح ودقيق وأُخذ من منابعه الأصيلة التي دلَّ عليها الرسول الأكرم (صلَّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) حيث قال: «إنِّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله (عزَّ وجلَّ) وعترتي أهل بيتي، ألا وهما الخليفتان من بعدي، ولن يفترقا حتَّىٰ يردا عليَّ الحوض»(1).

لكن الناس تركوا الثقلين وبالأخص أهل البيت (عليهم السلام) وهم سفينة النجاة واتَّبعوا السُبل فتفرَّقت بهم عن سبيل الله، وقد قال رسول الله (صلَّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) لعلي بن أبي طالب (عليه السلام): «يا علي، أنا مدينة الحكمة، وأنت بابها، ولن تؤتىٰ المدينة إلَّا من قبل الباب، وكذب من زعم أنَّه يحبني ويبغضك، لأنَّك مني وأنا منك، لحمك من لحمي، ودمك من دمي، وروحك من روحي، وسريرتك سريرتي، وعلانيتك علانيتي، وأنت إمام أُمَّتي وخليفتي عليها بعدي، سعد من أطاعك، وشقي من عصاك، وربح من تولاك، وخسر من عاداك، وفاز من لزمك، وهلك من فارقك، مثلك ومثل الأئمة من ولدك بعدي مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلَّف عنها غرق، ومَثَلكم مثل النجوم، كلما غاب نجم طلع نجم إلىٰ يوم القيامة»(2).

والحمد لله ربِّ العالمين

 

 

 

الهوامش:


(1) أمالي الصدوق:٥٠٠.

(2) المصدر السابق: ٣٤٢ .

Scroll to Top