
تمهيد:
في العصر الرقمي الذي نعيشه اليوم، أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي جزءاً لا يتجزَّأ من حياتنا اليومية، ومع هذا الانتشار الواسع، يبرز سؤال مهم حول كيفية استخدام هذه المنصات بطريقة أخلاقية ومسؤولة، فالأخلاق ليست فقط سلوكاً شخصياً، بل هي ركيزة لضمان بيئة تواصل آمنة ومحترمة للجميع، في هذا المقال، سنتناول أهمية الالتزام بالأخلاق في مواقع التواصل الاجتماعي وأثرها علىٰ الفرد والمجتمع.
ولأنَّ مواقع التواصل أصبحت تؤثر علىٰ عقول وسلوكيات الأفراد، فمن الضروري أن نبدأ بذكر أبرز المبادئ الأخلاقية التي ينبغي الالتزام بها عند استخدامها، ومن هذه المبادئ:
أوَّلاً: النية في التصفح:
ينبغي أن يحرص المسلم علىٰ تصحيح نيَّته عند تصفُّحه لمواقع التواصل، فيجعل هذا التصفُّح قربة إلىٰ الله تعالىٰ، لا وسيلة لهدر الوقت أو اللهو فيما لا ينفع، فقد يطلب العلم، أو يشارك محتوىٰ نافعاً، أو يدعو إلىٰ الخير، وكلّ ذلك يُحتسب له إنْ خَلُصت النية.
عن سفيان بن عيينة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) – في حديث -: «والنية أفضل من العمل، ألا وإنَّ النيَّة هي العمل، ثم تلا قوله تعالىٰ: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلىٰ شاكِلَتِهِ﴾ [الإسراء: 84] يعني علىٰ نيَّته»(1).
ثانياً: مراقبة الله (عزَّ وجلَّ) أثناء التصفُّح:
يجب علىٰ الإنسان المسلم أن يكون واعياً أنَّ الله هو الرقيب والشاهد علىٰ كل ما يقوم به أثناء تصفُّحه لمواقع التواصل الاجتماعي، فكل نظرة وكل مشاهدة تُسجل وتُدرج ضمن هذه الآية الشريفة، وسوف تواجهها يوم القيامة:
﴿… يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ (الزلزلة: 6-8).
ثالثاً: عدم الاطِّلاع علىٰ أسرار الآخرين:
يجب تجنُّب التطفُّل علىٰ خصوصيات الآخرين أو الاطِّلاع علىٰ أسرارهم، ويكفي ما نقرأ في قوله (جلَّ وعَلا): ﴿يا أَيـُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا…﴾ (الحجرات: 12).
رابعاً: نشر المحتوىٰ الهادف:
أنْ ننشر كل ما هو هادف ومفيد، والابتعاد عن نشر المحتوىٰ السيِّئ أو غير اللائق، وليعلم المسلم أنَّ نشره للمحتوىٰ السيِّئ سيحمل وزره ووزر من يراه أو يسمعه أو يشاهده، قال الله تعالىٰ: ﴿وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (الإسراء: 53).
خامساً: التعامل بأخلاق عالية:
يجب أن يكون تعاملك مع الآخرين، سواء كان ذلك كتابة أو صوتاً، ضمن الرد الحضاري الذي يسوده الأخلاق والهدوء والاحترام، قال (جلَّ في عُلاه): ﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (فصلت: 34).
وهذه الآية توجِّه المسلم إلىٰ الرد بالحسنىٰ حتَّىٰ في مواجهة الإساءة، وهو مبدأ أساسي في التعامل الأخلاقي الرفيع، سواء في مواقع التواصل الاجتماعي أو في حياتنا اليومية.
سادساً: نشر روح الإيجابية:
الابتعاد عن نشر كل ما يزرع روح اليأس والقنوط بين المجتمع، بل ينبغي نشر روح المحبَّة والتسامح والطمأنينة والسلام, فالمجتمع اليوم بحاجة إلىٰ هذه اللغة أكثر من أيِّ وقت مضىٰ.
قال سُبحانَه: ﴿قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (الزمر: 53).
سابعاً: الابتعاد عن التعصب:
ومن المهم أن يتحلَّىٰ المستخدم في مواقع التواصل الاجتماعي بروح التسامح واحترام الآخرين، وأن يبتعد عن التعصُّب والنقاشات الحادَّة التي تثير الفتن وتنشر الكراهية، فقد يتسبَّب تعليق واحد جارح في أذىٰ نفسي أو خلاف اجتماعي لا يُحمد عقباه، وفي هذا السياق، يُروىٰ عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في وصفه للمؤمن أنَّه قال: «لا وثاب، ولا سباب، ولا عياب، ولا مغتاب»(2).
وهذا يؤكِّد أنَّ صفات المؤمن الحقيقية تتجلَّىٰ في كفِّ لسانه عن السباب والعيب والغيبة، سواء في كلامه المباشر أو ما ينشره إلكترونياً.
ثامناً: المساهمة برأي إيجابي:
حاول أن تشارك بآرائك الإيجابية، فالمشاهدون أو القرّاء ينجذبون إلىٰ الآراء الجميلة والمحفِّزة، روي عن رسول (صلِّىٰ الله عليه وآله): «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه».
تاسعاً: صلة الرحم والأصدقاء:
يجب التواصل مع الأصدقاء والأقارب، والسؤال عنهم وتفقُّدهم، فهذا يعد من مصاديق صلة الرحم.
وقد عدَّ الفقهاء المواصلة عن طريق مواقع التواصل من صلة الرحم.
قال (جلَّ ثناؤه): ﴿وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَساءَلُونَ بِهِ وَالْأَرحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ (النساء: 1).
فهذه الآية تدعو إلىٰ صلة الرحم والاهتمام بالأقارب، وهو ما يمكن أن يشمل التواصل معهم عبر مختلف الوسائل، بما في ذلك مواقع التواصل الاجتماعي.
عاشراً: ترك الابتزاز الإلكتروني:
الابتزاز الإلكتروني جريمة يُحاسب عليها القانون بالإضافة إلىٰ الحكم الشرعي، الذي يحرِّم الاعتداء علىٰ الآخرين بأيِّ وسيلة تهدِّد المجتمع أو مستخدمي مواقع التواصل, وهناك العديد من الجرائم الإلكترونية التي تحدث في المجتمع، ولذلك هناك قوانين وضوابط تضعها الدول للحدِّ من هذه الجرائم أو القضاء عليها، عن فاطمة بنت الرضا، عن أبيها، عن آبائه، عن علي (عليهم السلام) قال: «لا يحلُ لمسلمٍ أن يُروع مسلماً»(3).
يُظهر أنَّ الترويع أو التهديد لأيِّ شخص، سواء كان هذا التهديد لفظياً أو إلكترونياً، لا يتَّفق مع الأخلاق الإسلامية، الابتزاز الإلكتروني يُعتبر شكلاً من أشكال الترويع والتهديد، حيث يتم استخدام أساليب مختلفة مثل التهديد بالكشف عن معلومات خاصة أو نشر محتوىٰ مسيء للضغط علىٰ شخص ما لأغراض معيَّنة.
وبناءً علىٰ هذا الحديث، فإنَّ الابتزاز الإلكتروني يُعتبر محرَّماً في الإسلام، لأنَّ الهدف من هذا الفعل هو ترويع الشخص وتهديده، وهذا يتعارض مع المبادئ الأخلاقية التي يدعو إليها الدين الإسلامي.
الحادي عشر: الوعي باستخدام التكنولوجيا:
لا تكن جاهلاً بهذه البرامج، هناك من الناس من يدخل إلىٰ هذه المواقع وهو لا يعرف كيفية استخدامها، لذا أن يكون لدىٰ الشخص معرفة جيدة بأساليب استخدامها بشكل صحيح.
الثاني عشر: عدم التأثُّر بالنقد السلبي:
لا تتأثر نفسياً بما تُنشره هذه المواقع، اليوم نرىٰ ونسمع عن الكثير من السلبيات التي يتم نشرها من قبل الأعداء بهدف تثبيط الناس وزرع اليأس في نفوسهم، لذا يجب أن نكون علىٰ وعي بثقافة عدم التأثُّر بهذه الأخبار، قال (تقدَّست أسمائه): ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَىٰ اللهِ إِنَّكَ عَلَىٰ الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾ (النمل: 79).
هذه الآية تذكِّر المؤمن بأنَّ الثبات علىٰ الحق أهم من الالتفات إلىٰ كلام المثبطين، وأنَّ التوكُّل علىٰ الله يعصم النفس من أثر النقد السلبي.
الثالث عشر: التمييز بين الحقيقة والشائعة:
لا تتأثَّر بكلِّ ما ينشره الآخرون، فغالبية ما يُنشر لا يعكس الحقيقة بشكل دقيق.
قال (جلَّ وعلا): ﴿يا أَيـُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلىٰ ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ﴾ (الحجرات: 6).
هذه الآية تحثّ علىٰ التثبُّت من الأخبار وعدم التسرُّع في تصديق أو نشر الشائعات دون تحقُّق، لما لذلك من أثر خطير.
الرابع عشر: عامل الجميع علىٰ حدٍّ سواء:
كن متواضعاً في تعاملك مع الناس، فلا تتكبَّر علىٰ أحدٍ بسبب فقره، أو لعدم امتلاكه شهادة، أو لاختلاف مذهبه، أو لأيِّ سببٍ آخر، فالقيمة الحقيقية للإنسان تكمن في أخلاقه وتعامله، لا في مظهره أو مكانته الاجتماعية، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «إنَّ في السماء ملكين موكَّلين بالعباد، فمن تواضع لله رفعاه، ومن تكبر وضعاه»(4).
خاتمة:
إنَّ استخدام مواقع التواصل الاجتماعي يتطلَّب منَّا جميعاً أن نتحلَّىٰ بمسؤولية كبيرة، فنحن نساهم في بناء صورة المجتمع ونقل المعلومات، سواءً كانت صحيحة أو خاطئة, لذا يجب علينا أن نكون علىٰ وعي بما ننشره، وأن نراعي تأثير الكلمات علىٰ الآخرين، فالكلمة الطيبة قد تفتح قلوب الناس، بينما الكلمة السلبية قد تؤذي وتزرع الفتنة, كما أنَّ علينا أن نكون حذرين من الشائعات والمعلومات المغلوطة، وأن نتأكَّد دائماً من صحة الأخبار قبل نشرها أو تصديقها.
وفي النهاية، فإنَّ الاستخدام الإيجابي لمواقع التواصل الاجتماعي يمكن أن يعزِّز من تواصلنا البناء، ويساهم في نشر الوعي والأخلاق الطيبة بين أفراد المجتمع.
فلنتعاون معاً من أجل جعل هذه المنصَّات مكاناً أكثر إيجابية، يتحلَّىٰ مستخدموها بالقيم الرفيعة، ويتجنَّبون الإساءة أو التأثيرات السلبية.
(1) وسائل الشيعة إلىٰ تحصيل مسائل الشريعة – محمد بن الحسن الحر العاملي: ج1، ص51، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، الطبعة الأولىٰ.
(2) مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل – حسين بن محمد تقي النوري: ج9، ص138، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، الطبعة الأولىٰ.
(3) وسائل الشيعة إلىٰ تحصيل مسائل الشريعة – محمد بن الحسن الحر العاملي: ج129، ص303، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، الطبعة الأولىٰ.
(4) وسائل الشيعة إلىٰ تحصيل مسائل الشريعة – محمد بن الحسن الحر العاملي: ج15، ص272، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، الطبعة الأولىٰ.

