التدين والحياة الروحية

إنَّ الإنسان وبما جهَّزه الله تعالىٰ من الإدراك والوعي والشعور لم تكن تنشئته كغيره من المخلوقات الأخرىٰ بل هي تنشئة خاصه وتمتد هذه التنشئة إلىٰ العلاقة بين الخالق والمخلوق، فنجد علاقة خاصة بين الخالق الرحيم العطوف وخلقه بغض النظر عن عنايته ورعايته لهم، مما يولد لهم إحساساً بالسكينة والطمأنية، وهذا يعد أحد المتطلبات الضرورية بالنسبة إلىٰ الفرد.

ومن انعكاسات الرحمة الإلهية علىٰ خلقه نجد أنَّه سبحانه قد وهب للإنسان فرصة الاختيار في ما يريد، لهذا جعل الحياة بمثابة ميدان للسباق يتنافس فيه الإنسان مع غيره فتتباين فيه المراتب والدرجات كل بحسب جهوده ومساعيه(1).

إنَّ ظاهرة التديُّن ظاهرة غريزية وقد أثبتت أبحاث التحليل النفسي أنَّ التديُّن من النزعات الأساسية في الإنسان تلك التي تكمن في اللاوعي وإذا كانت البشرية قد ظلت طريقها إلىٰ التوحيد في العبادة في أطوار مختلفة في حياتها فإنَّ اعتقادها في الذات الغيبية وإن ارتبطت ببعض التجسيدات دليل قاطع علىٰ نزعتها الفطرية نحو التديُّن، فالديُّن هو مصدر سكينتها وسعادتها ولا يمكنها الاستغناء عنه مطلقاً والعاطفة الدينية هي أعمق وأرسخ العواطف الإنسانية وأشدها أثراً في الفرد والجماعة(2).

الحياة الروحية من آثار التديُّن:

إنَّ من نتائج التديُّن المهمة هي العلاقة الروحية بين العبد تجاه معبوده وهو الله تعالىٰ وهناك عدد من اللوازم والمتطلبات المهمة والضرورية التي تدعوا إلىٰ العناية بالحياة الروحية ومراعاتها، ثم إنَّ عدم فهم وإدراك هذه المتطلبات يعد السبب الأساس في إغفال هذه الحياة التي تشكِّل الجانب المهم من حياة الفرد، وهذه اللوازم إنما كانت بهذه الأهمية لعدَّة أمور:

1 – مطلب رئيس بالنسبة لحياة الفرد.

2 – إحراز السعادة الإنسانية لأنها من أهم عواملها.

3 – لزوم العناية بالحياة الروحية لأنها من أهم أسباب التطور والتكامل المادي والمعنوي(3).

ومن هنا فإنَّ الجانب الروحي في شخصية الإنسان المسلم يتمثَّل في مجموعه من العناصر النفسية الداخلية التي تشد الإنسان بالله تبارك تعالىٰ(4).

فاليقين بالله سبحانه وتعالىٰ والسكينة إليه والخوف والرجاء والصبر والتوكل والثقة بالله وقوة الإرادة وغيرها مما يتألف منها الجانب الروحي وإحضار عوامل القرب الإلهي في القلب واللسان يستشعر بها الإنسان معاني الإيمان والتفويض لله سبحانه وتعالىٰ والتوكل عليه سيكون سبباً في تقوية وتقويم الروح المعنوية(5).

ومن هذه العناصر والمقومات المهمة التي تغذي الحياة الروحية هي:

1 – التوكل علىٰ الله سبحانه وتعالىٰ:

إنَّ التوكل علىٰ الله سبحانه واجب وأنَّه من صفات المؤمن وذلك يقتضي الرجوع إليه تعالىٰ في طلب الرزق ودفع المضار بالوجوه التي تحل لأنَّ هذا هو التوكل من دون ما يقوله الجُهال من أنَّه العدول عن طريق المكاسب وإهمال النفس.

ثم إنَّ التوكل ليس هو التكاسل والخمول بل هو متضمن للعمل والقرآن الكريم يدلنا علىٰ ذلك بوضوح قال تعالىٰ: (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران: 172-173)، فقد ذكر المولىٰ تبارك وتعالىٰ عدَّة أمور قبل التوكل فقد كانت هناك استجابة لله والرسول وكان هناك إحسان وتقوىٰ ثم التوكل.

معاني التوكل:

قيل في معنىٰ التوكل:

1 – التوكل الطمأنينة إلىٰ الله (عزَّ وجلَّ).

2 – وقال آخر: حسبك من التوكل أن لا تطلب لنفسك ناصراً غير الله (عزَّ وجلَّ) ولا لرزقك خازناً لغيره ولا لعلمك شاهداً غيره.

3 – وقد وردت العديد من الآيات القرآنية في هذا الشأن إذ يستفاد من مجموع هذه الآيات أنَّ القصد من التوكل أن لا يشعر الإنسان بالوهن والعجز أمام المشكلات العظيمة، بل بتوكله علىٰ قدرة الله المطلقة إذ يرىٰ نفسه فاتحاً ومنتصراً، بهذا الترتيب يكون التوكل عنصراً من عناصر القوة واستمداد الطاقة وسبباً في زيادة الصمود والثبات وإذا اعتقد بعضهم أنَّ التوكل لا يتوافق مع التوجه إلىٰ العلل والعوامل الطبيعية فهو في خطأ كبير أو ليست هذه العوامل تسير بأوامر ومشيئة الله، نعم إذا اعتقدنا أنَّ العوامل مستقلة عن إرادته فهي لا تتناسب مع روح التوكل مع أنَّ الرسول (صلّىٰ الله عليه وآله وسلّم) الذي هو رأس المتوكلين لم يغفل من استخدام الخطط الصحيحة والاستفادة من الفرص المتاحة وأنواع الوسائل والأسباب الظاهرية بتحقيق أهدافه، إن هذا يثبت أن التوكل ليس له مفهوم سلبي(6)، واستناداً إلىٰ ذلك فلا يمكن أن يدب في عزمه الضعف ولا يشعر بالنقص والصغر أمام المشاكل مهما كبرت ويبقىٰ يقاوم ويواجه الأحداث بقوة وإيمان راسخَين، ويعطيه هذا الإيمان والتوكل قدرة نفسية عظيمة يستطيع معها تجاوز الصعاب، فالتوكل بهذا المضمون العميق يمنح الإنسان شخصية جديدة ويكون له تأثير علىٰ جميع أعماله(7)، لهذا نجد أن القائد يجب أن يكون صاحب قرار ولكن القرار يحتاج إلىٰ قوة إرادية كبيرة، من أين يأتي بها؟ من التوكل، ذلك أنَّ التوكل علىٰ الله وليس علىٰ الإنسان يجعل القائد سابقاً لأُمَّته رائداً في مسيرتهم يمنحهم روحاً جديدة ويجعله أكثر إقداماً ومن ثم أكثر قدرة علىٰ تفجير طاقات أُمته وتحريك فاعليتها(8) ويذكرنا القرآن الكريم بدور التوكل في حياة المؤمنين، قال تعالىٰ: (إِنْ يَنْصُـرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُـرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَىٰ اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران: 160).

التوكل في القرآن الكريم والحديث الشريف:

في القرآن الكريم وردت العديد من الآيات حول التوكل ما يأتي:

1 – قال تعالىٰ: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَىٰ اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق: 3).

2 – قال تعالىٰ: (وَتَوَكَّلْ عَلَىٰ اللهِ وَكَفىٰ بِاللهِ وَكِيلاً) (النساء: 81).

3 – قال تعالىٰ: (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (هود: 88).

4 – قال تعالىٰ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (النحل: 99).

5 – قال تعالىٰ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (الأنفال: 2).

أمّا في الحديث الشريف فقد وردت العديد من الروايات حول مفهوم التوكل منها:

في رواية عن الإمام أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث مرفوع إلىٰ النبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلّم) في حديثه مع جبرئيل قال: «قلت يا جبرئيل وما تفسير التوكل علىٰ الله؟ قال: العلم بأن المخلوق لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع، واستعمال اليأس من المخلوق فإذا كان العبد كذلك لم يعمل لأحد سوىٰ الله ولم يزغ قلبه ولم يخف سوىٰ الله ولم يطمع إلىٰ أحد سوىٰ الله فهذا هو التوكل»(9).

وعن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «الإسلام له أركان أربعة: التوكل علىٰ الله وتفويض الأمر إلىٰ الله والرضا بقضاء الله والتسليم لأمر الله»(10).

عن علي بن سويد عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله (عزَّ وجلَّ): (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَىٰ اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق: 3)، فقال: «التوكل علىٰ الله درجات، منها أن تتوكل علىٰ الله في أمورك كلها فما فعل بك كنت عنه راضياً تعلم أنَّه لا يألوك خيراً وفضلاً وتعلم أنَّ الحكم في ذلك له، فتوكل علىٰ الله بتفويض ذلك إليه وثق به فيها وفي غيرها)(11).

وللكلام تتمة في البحث في بقية المقومات.

 

 

الهوامش:


(1) السيستاني، محمد باقر، حقيقة الدين، دار الكتب والوثائق، 1438هـ.

(2) أسس التربية الإسلامية وطرق تدريسها، عبد الرحمن نحلاوي: 6.

(3) ينظر: جوانب التربية الإسلامية، مقداد يالجن: 1/257 – 258 /1406هـ.

(4) موسوعة مصطلحات علم الكلام الإسلامي، سميح دغيم:1/405، مكتبة ناشرون، 1998.

(5) ينظر: التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، وهبه الزحيلي: 24.

(6) الأولىٰ الكشف والبيان أبو إسحاق.

(7) الشيرازي، ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مدرسة الإمام علي (عليه السلام)، 1421هـ.

(8) المدرسي، محمد تقي، من هدىٰ القرآن، دار محبي الحسين (عليه السلام)، 1419هـ.

(9) بحار الأنوار، العلامة المجلسي: 100/22.

(10) وسائل الشيعة، الحر العاملي: 11/ 143.

(11) عدة الداعي ونجاح الساعي، العلامة الحلي: 82.

Scroll to Top