
إنَّ الإيمان بالله واليوم الآخر والذي هو أساس الأديان كلّها يقتضي أن يكون التعامل مع ما يجري في الحياة الدنيا بمنتهىٰ الدقة؛ لأنَّ آثاره قد تكون أبديّة وخطيرة، وأهم ما يملكه الإنسان في هذه النشأة الدنيوية عمره الذي يتكوَّن من سنين وأشهر وأيَّام وساعات وثوان، وهو ما يُعبَّر عنه بالوقت، وهو رصيد الإنسان، وجزء لا يتجزأ من حياته، والذي يمضي شيئاً فشيئاً رغماً عنه.
وهناك نظرة سطحية وغير دقيقة إلىٰ مفردة الوقت من قبل الإنسان حيث يتعامل معها وكأنَّها شيء عارض وثانوي في حياته، وربَّما هي أبخس شيء عنده، في حين أنَّها مفردة ثمينة جدًّا، وتشكِّل أداة للنمو والتطوُّر والسعادة، إذا استغلَّت بشكل صحيح.
ومن هنا لابد أن يكون حجم الاهتمام بالوقت واستغلاله أهم بكثير من غيره؛ لِمَا يترتَّب عليه من آثار كبيرة ومهمة في حياة الإنسان، كمن دخل لقاعة امتحانية، فإنَّ دقائقه في غاية الأهميّة؛ لأنَّها تؤثِّر علىٰ مستقبله، وإذا علمنا أنَّ الدقيقة الدنيويّة ستؤثِّر علىٰ المستقبل الأبدي- وهو الأخروي – فمن الطبيعي سوف نعطي قيمة للوقت، ونهتم به أكثر وأكثر، وهنا لابد من بيان أمور:
مفهوم الوقت:
كلمة الوقت في معاجم اللّغة تعني المِقدار من الزمن الذي قُدِّر لأَمرٍ مَا(1)، ويُعرَّف الوقت بأنَّه من المتغيِّرات الخارجيَّة التي لا تخضع لسلطة أو مالٍ أو قوَّة وقدرة، إذ تعجز كلّ القوىٰ والسلطات عن السيطرة عليه وتقديمه أو تأخيره وإعادته أو تعويضه وزيادته، وعدم القيود في هذا العنصر النفيس يجعلنا أمام متغيِّر يصعب السيطرة عليه مع أنَّه من أبرز مؤشِّرات تقييم النجاح والإنجاز، ويرفع أهميَّته عند الآدميين إلىٰ حدودٍ لا يمكن أن تُنافس، فلا ادِّخار فيه ولا إرجاع ولا تعويض، إنَّما فيه تنافس في الاستثمار والتنظيم والإدارة والتقليل من الهدر والتفريط المجاني، فهو من أهم الموارد التي تحتاج إلىٰ إدارة وينبغي أن تُدار أوَّلاً وقبل كلّ شيء.
أهميّة الوقت (عمر الإنسان):
لابد أن يعلم الإنسان أنَّ وقته هو عمره الذي يعيشه في الدنيا، كما نبَّه لذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) حيث قال: «إنَّ عمرك وقتك الذي أنت فيه»(2)، والملاحظ أنَّ صفة الشح مذمومة إلَّا أنَّها في الوقت الذي هو عمر الإنسان ممدوحة، فقد روي عن رسول الله (صلَّىٰ الله عليه وآله) أنَّه قال: «كن علىٰ عمرك أشح منك علىٰ درهمك ودينارك»(3).
والعمر إنَّما هو فترة محدودة، فالعاقل من ينتفع من فترته المتاحة له قبل نفادها، فعن رسول الله (صلَّىٰ الله عليه وآله) أنَّه قال: «أيُّها الناس… وإنَّ العمر محدود لن يتجاوز أحد ما قُدِّر له، فبادروا قبل نفاذ الأجل، والأعمال محصيّة»(4).
وعليه يجب أن يُستثمر الوقت بأفضل ما يكون، وأن لا يُضيَّع بالفضول من القول والفعل، فقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنَّه قال: «شرّ ما شُغل به المرء وقته الفضول»(5)، وكذلك فإنَّ الاشتغال ببعض سفاسف الأمور وفائتها يتسبَّب في إهدار الوقت وتضييعه، فعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنَّه قال: «الاشتغال بالفائت يضيع الوقت»(6)، إلَّا إذا كان الفائت واجب التحصيل كقضاء العبادات.
أين يُنفذ الوقت؟
جاء الحثّ الشديد من قِبَل المشرِّع الإسلامي بأن لا يُنفِذ – أي لا يصرف الإنسان وقته والذي هو عمره – إلَّا في طاعة الله تعالىٰ التي بها النجاة، فعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنَّه قال: «إنَّ عمرك مهر سعادتك إن أنفذته في طاعة ربِّك»(7)، وعنه (عليه السلام): «إنَّ أوقاتك أجزاء عمرك، فلا تنفد لك وقتاً في غير ما ينجيك»(8)، وعنه (عليه السلام): «احفظ عمرك من التضييع له في غير العبادة والطاعات»(9).
إنَّ النظر الدقيق في مستقبل الإنسان يحتِّم عليه أن يعطي اهتماماً بالغاً بالوقت، ولكن ذلك لا يعني أنَّ يتوجَّه الإنسان للعبادة فقط كما يُتوهَّم، بل يقَسِّم وقته بين واجباته ووظائفه في الحياة الدنيا، والتي يكون أداؤها من الطاعات، كما روي عن الإمام موسىٰ بن جعفر (عليه السلام) أنَّه قال: «اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات: ساعة لمناجاة الله، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الإخوان والثقات الذين يعرّفونكم عيوبكم ويخلصون لكم في الباطن، وساعة تخلون فيها للذّاتكم في غير محرَّم، وبهذه الساعة تقدرون علىٰ الثلاث ساعات»(10).
وركَّز الإمام الكاظم (عليه السلام) علىٰ تقسيم الوقت في هذا الحديث علىٰ عدَّة أمور وهي:
أوَّلاً: مناجاة الله تعالىٰ:
وهي من الأمور المهمة التي ركَّز عليها القرآن الكريم ويمكن أن تتجسَّد في أمور كثيرة، كالدعاء حيث قال تعالىٰ: ﴿وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ﴾ (غافر: 60).
ثانياً: «ساعة لأمر المعاش»:
أي أن يعمل الإنسان ويطلب رزقه وعائلته ولا يصبح كَلًّا علىٰ الآخرين، قال تعالىٰ: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ (الملك: 15).
ثالثاً: «وساعة لمعاشرة الإخوان»:
وهي ساعة فيها فوائد مهمة وعظيمة، إذ إنَّ معاشرة الأصدقاء تزيل الهم وتريح النفس وهي من الطاعات، ولابد من اختيار الصديق وفق الموازين الشرعية، فعن الإمام علي (عليه السلام) قال: «لا يكون الصديق صديقاً حتَّىٰ يحفظ أخاه في ثلاث: في نكبته، وغيبته، ووفاته»(11).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «لا تكون الصداقة إلَّا بحدودها، فمن كانت فيه هذه الحدود أو شيء منه، وإلَّا فلا تنسبه إلىٰ شيء من الصداقة:
فأوَّلها: أن تكون سريرته وعلانيته لك واحدة.
والثانية: أن يرىٰ زينك زينه، وشينك شينه.
والثالثة: أن لا تغيِّره عليك ولاية ولا مال.
والرابعة: لا يمنعك شيئاً تناله مقدرته.
والخامسة – وهي تجمع هذه الخصال -: أن لا يسلمك عند النكبات»(12).
رابعاً: «وساعة تخلون فيها للذّاتكم في غير محرِّم»:
وهذا له موارد عديدة تختلف باختلاف طبيعة الإنسان وهواياته المحلَّلة، فهناك إنسان يحب المطالعة وآخر يحبُّ السفر لوحده أو مع عائلته، وآخر يحب الاشتراك بأعمال الخير وهكذا، والسبب في التركيز علىٰ هذه الساعة هو أنَّ قلب الإنسان عادة يملُّ من كثرة العمل أو الاقتصار علىٰ نهج واحد في الحياة، فلابدَّ من شيء يخفف عن الإنسان، كما قال الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): «إنَّ هذه القلوب تملُّ كما تملّ الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكم»(13).
والحمد لله ربِّ العالمين.
(1) العين (الخليل الفراهيدي): 5/ 199.
(2) عيون الحكم والمواعظ (الليثي الواسطي): 142.
(3) مكارم الأخلاق (الطبرسي): ٢ / ٣٦٤.
(4) بحار الأنوار (المجلسي): 100/ 26.
(5) عيون الحكم والمواعظ (الليثي الواسطي): 295.
(6) عيون الحكم والمواعظ (الليثي الواسطي): 19.
(7) عيون الحكم والمواعظ (الليثي الواسطي): 149.
(8) عيون الحكم والمواعظ (الليثي الواسطي): 159.
(9) عيون الحكم والمواعظ (الليثي الواسطي): 76.
(10) بحار الأنوار (المجلسي): 75/ 321.
(11) ميزان الحكمة – محمد الريشهري:ج2، 1589.
(12) ميزان الحكمة – محمد الريشهري: ج2، 1589.
(13) موسوعة الإمام علي بن أبي طالب – محمد ريشهري: ج10، 210-211.


