
المقدمة:
إنَّ طبيعة الإنسان ميّالة نحو التغيير والتميز، ولكي يصل الىٰ التميز لابد من التوازن بين المادة والمعنىٰ.
ويمكن القول إنَّ المادّة والمعنىٰ مفردتان متقابلتان والمقصود من المادة هو الشيء الذي له حقيقة خارجية كالمال والطعام وغيرهما، أمّا المعنىٰ فهو الشيء الذي لا واقع خارجي له، بل هو أمر نفسي شعوري كطيبة القلب والخضوع والخشوع وغيرها.
إنَّ التوازن بين المادة والمعنىٰ يشكِّل أساس البناء الذاتي، حيث يسعىٰ الإنسان إلىٰ بلوغ التكامل الحقيقي.
ولا ريب في أنَّ البناء النفسي والتكامل الإنساني يوصلان الإنسان إلىٰ رضا الله تبارك وتعالىٰ والخلود في جنَّته، وهما يتحققان باتِّباع الدين والتجرُّد عن الهوىٰ، كما قال تعالىٰ: ﴿وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَىٰ النَّفْسَ عَنِ الْهَوىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوىٰ﴾ (النازعات:٤٠-٤١).
وبالنظر إلىٰ المجتمعات الدينية نجد أنَّ هناك توازناً بين المادة والمعنىٰ، وأمّا في المجتمعات الحديثة البعيدة عن التديُّن، نجد ميلاً متزايداً نحو العولمة والاستهلاك المادي، مما يعمق الصراع بين القيم المادية والمعنوية.
ويمكن القول إنَّ البناء الذاتي هو العملية التي يسعىٰ من خلالها الإنسان إلىٰ تحقيق التوازن بين تطلُّعاته المادية واحتياجاته الروحية والمعنوية، إنَّه نهج شامل لتطوير الفرد في جميع جوانب حياته، من خلال تنمية القيم، المهارات، والمعرفة.
في العصر الحديث، أصبح هذا التوازن أكثر صعوبة بسبب هيمنة القيم المادية علىٰ حياتنا اليومية.
ولأنَّ الإنسان بطبيعته كائن يبحث عن الكمال والتكامل، فإنَّ الحاجة إلىٰ الموازنة بين المادة والمعنىٰ تعد ضرورة أساسية لتحقيق حياة متَّزنة وذات مغزىٰ.
فيهدف هذا البحث إلىٰ مناقشة البناء الذاتي، وأهميته في تحقيق التوازن بين المادة والمعنىٰ، والطرق العملية لتحقيق هذا التوازن.
أولاً: مفهوم البناء الذاتي:
البناء الذاتي عملية مستمرة تهدف إلىٰ تحقيق التكامل الإنساني بما يتوافق مع القيم الإنسانية العليا.
وهو يشير إلىٰ الجهد الذي يبذله الفرد لتطوير نفسه جسدياً، عقلياً، وروحياً. يتضمن ذلك:
١ – التنمية الروحية: بناء علاقة قوية مع الله من خلال الالتزام بالقيم الدينية والأخلاقية.
٢ – التنمية العقلية: اكتساب العلم والمعرفة وتوسيع الأُفق الفكري.
٣ – التنمية الجسدية: الحفاظ علىٰ الصحة البدنية كجزء من التكامل الإنساني.
ثانياً: قيم التعايش بين المادة والمعنىٰ:
إنَّ المادة والمعنىٰ ليسا نقيضين، بل هما جانبان مكملان حياة الإنسان.
يمكن تحقيق التوازن بينهما من خلال:
١- الاعتدال في طلب المادة: الإسلام يحث علىٰ العمل وكسب الرزق، لكنه ينهىٰ عن الإفراط في التعلق بالماديات.
قال تعالىٰ: ﴿وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا﴾ (القصص: 77).
٢- التأمل الروحي: المعنىٰ يرتبط بالقيم الروحية التي تمنح الحياة هدفاً أسمىٰ.
٣- تعزيز القيم الأخلاقية: مثل الصدق، الأمانة، والإحسان، والتي تجعل من المادة وسيلة لتحقيق الخير بدلاً من أن تكون غاية بحدِّ ذاتها.
ثالثاً: تحديات البناء الذاتي في العصر الحديث:
هناك تحدِّيات كثيرة تواجه البناء الذاتي في العصر الحديث، منها:
١ – هيمنة القيم المادية: في المجتمعات المعاصرة، أصبحت المادة مقياس النجاح، مما أدَّىٰ إلىٰ ضعف القيم الروحية والأخلاقية.
٢ – الإعلام وتأثيره السلبي: يروِّج الإعلام أنماط حياة مادية، مما يدفع الأفراد نحو الاستهلاك والتنافس المظهري.
٣ – العولمة والاغتراب الثقافي: العولمة ساهمت في تراجع القيم المحلية لصالح أنماط حياة غربية لا تتماشىٰ دائماً مع قيمنا الثقافية والدينية.
رابعاً: طرق تحقيق البناء الذاتي والتوازن:
هناك عدَّة طرق مهمة لتحقيق البناء الذاتي، منها:
١ – التربية الدينية والروحية:
– الالتزام بالصلاة والدعاء، والتأمل في آيات الله.
– الاقتداء بالسيرة النبوية وسيرة أهل البيت (عليهم السلام).
٢ – تنمية العلم والمعرفة:
– طلب العلم فريضة إسلامية، فهو يوسع مدارك الإنسان ويساعده علىٰ فهم الحياة بعمق.
– القراءة المستمرة والاطِّلاع علىٰ مصادر تثري الجانب الروحي والفكري.
٣ – إدارة الوقت:
– التوازن بين العمل والترفيه والعبادة.
– تخصيص أوقات للتفكر والتأمل.
٤ – العمل علىٰ تطوير الذات عملياً:
– وضع أهداف واضحة لحياة الفرد.
– اكتساب مهارات جديدة تساعد علىٰ تحسين الأداء المهني والاجتماعي.
٥ – إحياء القيم الإنسانية:
– تعزيز التكافل الاجتماعي والعمل الخيري.
– احترام الآخرين وتقديرهم بغض النظر عن انتماءاتهم.
خامساً: البناء الذاتي في القرآن والسُنَّة:
لا شك أنَّ أوَّل خطوة في تحقيق التوازن الذاتي في الإنسان تبدأ من الإنسان نفسه، كما ذكر المولىٰ تبارك وتعالىٰ في قرآنه: ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: ١١).
وقد اهتمَّ القرآن الكريم والسُنَّة الشريفة بالبناء الذاتي اهتماماً كبيراً لأنَّه يمثل حالة الاستقرار والاطمئنان عند الإنسان، وبه يصل الإنسان إلىٰ رضا الله تبارك وتعالىٰ وتعدَّدت الآيات المباركة التي اهتمَّت بهذا المجال، وهنا نذكر بعضها:
أولاً: الآيات التي اهتمَّت برعاية الجانب المعنوي، ومنها:
١ – العناية بالنفس وتزكيتها كقوله تعالىٰ: ﴿وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها * وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها﴾ (الشمس: 7-10).
٢ – التفكُّر في آيات الله كقوله تعالىٰ: ﴿إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّىٰ إِذا أَخَذَتِ الْأَرضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (يونس: ٢٤).
٣ – الاهتمام بالعبادة والخضوع لله تبارك وتعالىٰ، كقوله تعالىٰ: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ * كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ (الذاريات: ١٥-١٨).
وكقوله تعالىٰ: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (البقرة: ١١٠).
ثانياً: الآيات التي حذَّرت من التعلُّق بعالم المادة، ومنها:
١ – الآيات التي جعلت الدنيا متاع، كقوله تعالىٰ: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ (آل عمران: ١٤).
وقوله تعالىٰ: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ﴾ (آل عمران: ١٨٥).
٢ – الآيات الناهية عن اتِّباع الهوىٰ، كقوله تعالىٰ: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلهِ وَلَوْ عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلىٰ بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوىٰ أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ (النساء: ١٣٥).
وهناك آيات أخرىٰ كثيرة اهتمَّت بهذا الجانب.
وأمَّا ما ورد في السُنَّة، فيمكن بيان ذلك ببعض ما ورد بهذا الخصوص إذ إنَّها توفِّر إطاراً للمسلمين للعمل علىٰ تحسين أنفسهم وتطوير قدراتهم الروحية، العقلية، والأخلاقية، ومنها:
١ – عن الإمام الباقر (عليه السلام): «ما ذئبان ضاريان في غنم ليس لها راعٍ، هذا في أوّلها وهذا في آخرها بأسرع فيها من حبِّ المال والشرف في دين المؤمن»(1).
٢ – حديث النبي محمد (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم): «خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه» – يحث هذا الحديث المسلمين علىٰ تعلُّم القرآن وتعليمه للآخرين، مما يعزِّز النمو الروحي والفكري.
٣ – حديث النبي محمد (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم): «إنَّما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق» – يشير هذا الحديث إلىٰ أنَّ من مهام النبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) تكميل وتحسين الأخلاق، مما يشجع المسلمين علىٰ تحسين أخلاقهم وتطوير سلوكهم.
٤ – حديث النبي محمد (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم): «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلىٰ الجنة» – يعزِّز هذا الحديث قيمة السعي وراء العلم كوسيلة لتحسين الذات والتقرُّب من الله.
٥ – رواية عن الإمام علي (عليه السلام): «الناس أعداء ما جهلوا» – تشير هذه الرواية إلىٰ أهمية العلم والتعلُّم في التغلُّب علىٰ الجهل وتحسين فهم العالم والآخرين.
٦ – حديث النبي محمد (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم): «القوي ليس بالصرعة إنَّما القوي الذي يملك نفسه عند الغضب» – يحثُّ هذا الحديث علىٰ ضبط النفس وإدارة الغضب، وهو جزء مهم من النمو الشخصي والأخلاقي.
الخاتمة:
البناء الذاتي ليس خياراً، بل ضرورة لتحقيق حياة متَّزنة وذات معنىٰ، علىٰ الإنسان أن يدرك أنَّ التوازن بين المادة والمعنىٰ هو مفتاح السعادة والنجاح الحقيقي.
لا يمكن تحقيق هذا التوازن إلَّا من خلال الالتزام بالقيم الدينية، طلب العلم، وتنمية الذات بصورة شاملة.
لذا، علينا أن نستفيد من نعمة العقل والإرادة التي منحها الله لنا لتحقيق هذا الهدف السامي، مؤكِّدين أنَّ الإنسان هو جوهر العالم، وكلما ارتقىٰ بنفسه، ارتقىٰ بمجتمعه وعالمه.
(1) الكافي للشيخ الكليني: ج٢، ص٣١٥.

