التوفيق بين النصوص الشرعية

Quran

الحمد الله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام علىٰ خير خلقه أجمعين أبي القاسم مُحمَّد وعلىٰ آله الطَّيبين الطَّاهرين الَّذين أذهبَ الله عنهم الرِّجس وطهَّرهم تطهيراً.

المقدمة:

القرآن دستور العالم وسبيل هداية البشر ﴿هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىٰ وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (آل عمران: 138).

وقوله تعالىٰ:

﴿لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ (فصِّلت: ٤٢).

دليل قرآني علىٰ أنَّ ما في القرآن كلّه حق لا باطل فيه، فلا يمكن تصوُّر التناقض والاختلاف المخل في آياته، فهو كلام الله والقرآن يؤكد أنَّ ما فيه من عند الله ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً﴾ (النساء: ٨٢).

وربما يتصوَّر التعارض بين بعض الآيات أو في السُنَّة من كلام النبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) والأئمة (عليهم السلام) والواقع أنَّ لا اختلاف ولا تعارض إنَّما كل آية وكل حديث قد سيق لهدف مختص به ولمعنىٰ متعلق مراد بعينه.

ومن هنا اشتغل علماء الإسلام سعياً منهم لبيان ما تعارض من النصوص الشرعية بغية الجمع بينها أو ترجيح أحدها علىٰ الآخر، وسوف نورد ضوابط التوفيق والجمع وبعض من الأمثلة.

التعريف بمفردات البحث:

التوفيق لغة: (والتوافق: الاتفاق والتظاهر، يقال: وافَقَه موافَقَة ووِفاقاً، واتَفق معه وتَوافقاً…، واتَّفقا: تقاربا) واجتمعا علىٰ أمر واحدٍ… والوفق: التوفيق… ووفق بين الأشياء المختلفة: إذا ضمها بالمناسبة)(1).

والجمع لغة: (جمَعَ يَجْمَع، جَمْعاً، فهو جَامِع، والمفعول مجموع (للمتعدِّي)، جمَع بين الأمرين: مزَج بينهما؛ جمَع المُتفرِّقَ: حشده، ضمّ بعضه إلىٰ بعض وألَّفه كقوله تعالىٰ ﴿إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾ (القيامة: ١٧): جَمْع القرآن في صدرك بحيث لا يذهب، جمَعَ الشملَ: ألَّف بين القوم وجمع المتفرِّقين منهم)(2).

وذكر العسكري في فروقه اللغوية أنَّ: (الفرق بين قولك تابعت زيداً وقولك وافقته: أنَّ قولك تابعته يفيد أنَّه قد تقدَّم منه شيء افتديت به فيه، ووافقته يفيد أنَّكما اتَّفقتما معاً في شيء من الأشياء، ومنه سُمِّي التوفيق توفيقاً، ويقول أبو علي (رحمة الله عليه)، ومن تابعه يريد به أصحابه ومنه سُمِّي التابعون التابعين، وقال أبو علي (رحمه الله): ومن وافقه يريد من قال بقوله وإن لم يكن من أصحابه، وأيضاً فإن النظير لا يقال إنه تابع لنظيره لأن التابع دون المتبوع ويجوز أن يوافق النظير النظير)(3).

تمهيد:

ولابد من التمهيد بمقدمتين:

الأولىٰ: أن أصل التشريع هو في كتاب الله تعالىٰ وسنة المعصومين (عليهم الصلاة والسلام).

﴿وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىٰ وَرَحْمَةً وَبُشْـرىٰ لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل: ٨٩).

والسُنَّة المعصومية هي شارحة ومفرعة لأصول القرآن الكريم، ولهذا فقد ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: «قال رسول الله (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) في خطبة بمنىٰ أو بمكة: يا أيها الناس ما جاءكم عنِّي يوافق القرآن فأنا قلته، وما جاءكم عنِّي لا يوافق القرآن فلم أقله»(4).

ولهذا دلالة علىٰ أنَّ كل ما يخالف كتاب الله فهو ليس من المعصوم ولا ينسب إليه.

الثانية: العباد ملزمين بالعمل بالقرآن والسُنَّة، فبعد أن صرَّح القرآن بأنَّ ما فيه كلام الله وأنَّ ما يخالف الكتاب من السُنَّة المزعومة منفية عن المعصومين، فإنَّ الاتِّباع بهذا المضمون يبعد عن السبل المتفرِّقة ﴿وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (الأنعام: ١٥٣).

ومن البديهي لا يمكن التعبُّد بنصين تشريعيين ظاهرهما التعارض أو التنافي -بحسب الإدراك البشري- وعندئذٍ فلابد من العلاج، وسيأتي في هذا المختصر صور الحالات الأربعة في التعارض.

تصنيف العلماء بمسألة التعارض:

وقد صنَّف العلماء من الفريقين في الجمع بين الأخبار كتباً كثيرة، منها مستقل في الجمع بين النصوص الشرعية وإزالة التعارض التصوري، ومنها مضمَّن في كتبهم وأقوالهم:

1 – أقوال علماء الشيعة:

ألَّف علماء الشيعة بعض المصنَّفات، منها ما ألَّفه:

– الشيخ الطوسي وأسماه كتاب (الاستبصار فيما اختلف من الأخبار، وهو أحد الكتب الأربعة والمجاميع الحديثية التي عليها مدار الاستنباط الأحكام الشرعية عند الفقهاء الاثني عشرية… أنَّه مقصود علىٰ ذكر ما اختلف فيه من الأخبار وطريق الجمع بينهما) (5).

– وخصَّص المحدِّث الحر العاملي في كتابه (وسائل الشيعة إلىٰ تحصيل مسائل الشريعة) باباً سمّاه (وجه الجمع بين الأحاديث المختلفة، وكيفية العمل بها).

ومن أمثلة التوفيق بين الروايات، رواية (محمد بن يحيىٰ، عن أحمد بن محمد بن عيسىٰ، عن محمد بن سنان عن نصر الخثعمي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «من عرف إنّا لا نقول إلَّا حقّاً فليكتف بما يعلم منّا، فإنْ سمع منّا خلاف ما يعلم فليعلم أنَّ ذلك دفاع منّا عنه»، وعن عدَّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عثمان ابن عيسىٰ عن أبي أيوب الخزاز، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) لا يتهمون بالكذب فيجئ منكم خلافه؟ قال: «إنَّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن»، أقول: هذا مخصوص بحديث الرسول (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم)، فيكون حديث الأئمة (عليهم السلام) كاشفاً عن الناسخ)(6).

2 – أقوال علماء المذاهب الأخرىٰ:

ولعل أوَّل من صنَّف كتاباً مستقلاً بهذا النوع من الفنون:

– الشافعي والذي سمّاه (اختلاف الحديث).

– ابن قتيبة في كتابه الشهير: (تأويل مختلف الحديث).

– أحمد بن حنبل كتابه (الرد علىٰ الجهمية والزنادقة).

– الشنقيطي كتاباً يعدّ الأوَّل في مجال التفسير للجمع بين الآيات المتعارضة سمّاه (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب).

– وقد جعل ابن الصلاح في مقدمته النوع السادس والثلاثون في (معرفة مختلف الحديث) وقسمه لقسمين:

الأول: أن يمكن الجمع بين الحديثين ولا يتعذر وجه ينفي تنافيهما فيتعين حينئذ المصير إلىٰ ذلك والقول بهما معاً.

والثاني: أن يتضادَّا بحيث لا يمكن الجمع بينهما.

التعارض بمصطلح الأصوليين:

هو تنافي الدليلين اللفظيين التامين من حيث الحجية(7).

وأهم طريق متَّفق عليه في كيفية الجمع هو الجمع الدلالي، وهو (الجمع العرفي) (بين الدليلين بطرح ظهور كل منهما بنص الآخر) بقول صاحب مصباح الفقاهة، وسمّاه الشيخ الأنصاري بـ(الجمع المقبول)(8) إذ (يجري فيما كانت لكل منهما قرينة لرفع اليد عن ظهور الآخر).

واشتهر بين علماء الأصول قاعدة (الجمع بين المتعارضين أولىٰ من الطرح) ففي عوالي الآلي(9) بحسب نقل الشيخ المظفر(10) دعوىٰ الإجماع علىٰ هذه القاعدة، والظاهر يراد بها الجمع في الدلالة(11).

الجمع بين النصوص المتعارضة:

أوضح السيد محمد باقر الصدر في دروس في علم الأصول بأنَّها: تدخل في علاج كثير من ألوان التعارض بين الأدلة اللفظية المستدل بها علىٰ حجية أمارة أو أصل من الأصول(12).

ويقع التعارض بين النصوص الشرعية (13): (أمّا تعارض الآيتين من الكتاب العزيز، والواجب هنا:

الفحص والتفتيش من الأخبار في نسخ إحداهما للأخرىٰ وعدمه، فإن علم فذاك، وإلَّا فإنَّ علم التأريخ فالمتأخر ناسخ للسابق، وإلَّا فإن اشتملت إحداهما علىٰ إطلاق أو عموم بحيث يمكن التقييد أو التخصيص حكم به أيضاً، وإلَّا فالواجب التوقُّف والاحتياط إن أمكن، وإلَّا فاختيار إحداهما من باب التسليم، أو تعارض الآية والرواية إن كانت إحداهما مطلقة أو عامة، وجب تقييدها بالأخرىٰ، وإلَّا فالاحتياط إن لم يمكن الجمع بينهما بحيث يحصل الظن القوي بالمراد ولو بحسب القرائن الخارجة.

وصور التعارض لا تخلو من أربع حالات(14):

(إمَّا أن يكونا مقطوعي الدلالة مظنوني السند، أو بالعكس – أي يكونان مظنوني الدلالة مقطوعي السند – أو يكون أحدهما مقطوع الدلالة مظنون السند والآخر بالعكس، أو يكونان مظنوني الدلالة والسند معاً، أمّا فرض أحدهما أو كل منهما مقطوع الدلالة والسند معاً، فإنَّ ذلك يخرجهما عن كونهما متعارضين، بل الفرض الثاني مستحيل.

وعليه، فللمتعارضين أربع حالات ممكنة لا غيرها:

فإن كانت الأولىٰ: فلا مجال فيها للجمع في الدلالة مطلقاً، للقطع بدلالة كل منهما، فهو خارج عن مورد القاعدة رأساً، بل هما في هذه الحالة: إمّا أن يرجع فيهما إلىٰ الترجيحات السندية، أو يتساقطان حيث لا مرجح، أو يتخير بينهما.

وإن كانت الثانية: فإنَّه مع القطع بسندهما كالمتواترين أو الآيتين القرآنيتين لا يعقل طرحهما أو طرح أحدهما من ناحية السند، فلم يبق إلَّا التصرُّف فيهما من ناحية الدلالة، ولا يعقل جريان أصالة الظهور فيهما معاً، لتكاذبهما في الظهور، وحينئذٍ فإن كان هناك جمع عرفي بينهما بأن يكون أحدهما المعيَّن قرينة علىٰ الآخر أو كل منهما قرينة علىٰ التصرُّف في الآخر – علىٰ نحو ما يأتي من بيان وجوه الجمع الدلالتي – فإنَّ هذا الجمع في الحقيقة يكون هو الظاهر منهما، فيدخلان بحسبه في باب الظواهر، ويتعيَّن الأخذ بهذا الظهور، وإن لم يكن هنا جمع عرفي فإن الجمع التبرعي لا يجعل لهما ظهوراً فيه ليدخل في باب الظواهر ويكون موضعاً لبناء العقلاء ولا دليل في المقام غير بناء العقلاء علىٰ الأخذ بالظواهر، فما الذي يصحح الأخذ بهذا التأويل التبرُّعي ويكون دليلاً علىٰ حجيته؟

وغاية ما يقتضي تعارضهما عدم إرادة ظهور كل منهما، ولا يقتضي أن يكون المراد غير ظاهرهما من الجمع التبرُّعي، فإنَّ هذا يحتاج إلىٰ دليل يعينه ويدل علىٰ حجيتهما فيه، ولا دليل حسب الفرض.

وإن كانت الثالثة: فإنَّه يدور الأمر فيها بين التصرُّف في سند مظنون السند وبين التصرُّف في ظهور مظنون الدلالة أو طرحهما معاً، فإن كان مقطوع الدلالة صالحاً للتصرف بحسب عرف أهل المحاورة في ظهور الآخر تعيّن ذلك، إذ يكون قرينة علىٰ المراد من الآخر، فيدخل بحسبه في الظواهر التي هي حجة، وأمّا إذا لم يكن لمقطوع الدلالة هذه الصلاحية فإنَّ تأويل الظاهر تبرُّعاً لا يدخل في الظاهر حينئذٍ ليكون حجة ببناء العقلاء، ولا دليل آخر عليه – كما تقدَّم في الصورة الثانية – ويتعيَّن في هذا الفرض طرح هذين الدليلين: طرح مقطوع الدلالة من ناحية السند، وطرح مقطوع السند من ناحية الدلالة، فلا يكون الجمع أولىٰ، إذ ليس إجراء دليل أصالة السند بأولىٰ من دليل أصالة الظهور، وكذلك العكس، ولا معنىٰ في هذه الحالة للرجوع إلىٰ المرجحات في السند مع القطع بسند أحدهما، كما هو واضح.

وإن كانت الرابعة: فإنَّ الأمر يدور فيها بين التصرُّف في أصالة السند في أحدهما والتصرُّف في أصالة الظهور في الآخر، لا أنَّ الأمر يدور بين السندين ولا بين الظهورين، والسر في هذا الدوران: أنَّ دليل حجية السند يشملهما معاً علىٰ حدٍّ سواء بلا ترجيح لأحدهما علىٰ الآخر حسب الفرض، وكذلك دليل حجية الظهور، ولما كان يمتنع اجتماع ظهورهما لفرض تعارضهما، فإذا أردنا أن نأخذ بسندهما معاً لابد أن نحكم بكذب ظهور أحدهما، فيصادم حجية سند أحدهما حجية ظهور الآخر، وكذلك إذا أردنا أن نأخذ بظهورهما معاً لابد أن نحكم بكذب سند أحدهما، فيصادم حجية ظهور أحدهما حجية سند الآخر، فيرجع الأمر في هذه الحالة إلىٰ الدوران بين حجية سند أحدهما وحجية ظهور الآخر.

وإذا كان الأمر كذلك فليس أحدهما أولىٰ من الآخر، كما تقدَّم – نعم، لو كان هناك جمع عرفي بين ظهوريهما فإنَّه حينئذٍ لا تجري أصالة الظهور فيهما علىٰ حدٍّ سواء، بل المتَّبع في بناء العقلاء ما يقتضيه الجمع العرفي الذي يقتضي الملاءمة بينهما، فلا يصلح كل منهما لمعارضة الآخر.

ومن هنا نقول: إنَّ الجمع العرفي أولىٰ من الطرح، بل بالجمع العرفي يخرجان عن كونهما متعارضين فلا مقتضي لطرح أحدهما أو طرحهما معاً، أمّا إذا لم يكن بينهما جمع عرفي، فإنَّ الجمع التبرُّعي لا يصلح للملائمة بين ظهوريهما، فتبقىٰ أصالة الظهور حجة في كل منهما، فيبقيان علىٰ ما هما عليه من التعارض، فإمّا أن يقدم أحدهما علىٰ الآخر لمزية أو يتخيَّر بينهما أو يتساقطان، فتحصل من ذلك كله: أنَّه لا مجال للقول بأولوية الجمع التبرُّعي من الطرح في كل صورة مفروضة للمتعارضين).

توهُّم التعارض في القرآن:

وهو تقابل الآيتين أو الأكثر في المدلول فيمنع أحدهما الآخر، مثل أن تكون إحداهما مثبتة لشيء والأخرىٰ نافية فيه.

ولا يمكن أن يقع التعارض بين آيتين مدلولهما خبري، لأنَّه يلزم كون إحداهما كذباً، وهو مستحيل في أخبار الله تعالىٰ، قال الله تعالىٰ: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً﴾ (النساء: ٨٧) وقوله تعالىٰ: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً﴾ (النساء: ١٢٢)، ولا يمكن أن يقع التعارض بين آيتين مدلولهما حكمي؛ لأنَّ الأخيرة منهما ناسخة للأولىٰ قال الله تعالىٰ: ﴿ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها﴾ (البقرة: ١٠٦) وإذا ثبت النسخ كان حكم الأولىٰ غير قائم ولا معارض للأخيرة.

قد ذكر العلماء (رحمهم الله) أمثلة كثيرة لما يوهم التعارض، بيَّنوا الجمع في ذلك، وكتاب (دفع إيهام الاضطراب عن أي الكتاب) للشيخ محمد الأمين الشنقيطي من الكتب الرائعة في هذا المجال.

فمن أمثلة ذلك قوله تعالىٰ في القرآن: ﴿ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىٰ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة: ٢) وقوله فيه: ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىٰ لِلنَّاسِ﴾ (البقرة: ١٨٥) فجعل هداية القرآن في الآية الأولىٰ خاصة بالمتَّقين، وفي الثانية عامة للناس، والجمع بينهما أنَّ الهداية في الأولىٰ هداية التوفيق والانتفاع، والهداية في الثانية هداية التبيان والإرشاد.

ونظير هاتين الآيتين، قوله تعالىٰ في الرسول (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم): ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (القصص: ٥٦)، ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلىٰ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (الشورىٰ: ٥٢) فالأولىٰ هداية التوفيق والثانية هداية التبيين.

وللمفسِّرين أقوالهم بحسب منهجياتهم لجمع آراء العلماء في تفسير الآية، ففي تفسير الأمثل ذكر المفسِّرون مفهومين لمعنىٰ التعبير ب‍ـ(صدّوا عن سبيل الله) الأول: الإعراض عن طريق الله، والآخر: منع الآخرين عن سلوك هذا الطريق، وقد لا يتعذَّر الجمع بين المعنيين في إطار الآية بأن يكون قد أعرض وقام بالصدّ عن سبيل الله (غير أنَّ لجؤهم إلىٰ الحلف بالله كذباً يجعل المعنىٰ الثاني أكثر مناسبة، لأنَّ الهدف من القسم هو صد الآخرين وتضليلهم)(15).

وأشهر التطبيقات للجمع بين الآيات القرآنية:

الجمع بين قوله تعالىٰ ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْـراً﴾ (البقرة: ٢٣٤)، وبين قوله تعالىٰ: ﴿وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ (الطلاق: ٤).

فقد ذهب الإمامية -وعليه إجماعهم بما نقله السيد اليزدي في العروة الوثقىٰ: (ولو كانت حاملاً فعدَّتها أبعد الأجلين من الوضع والعدد المذكور بالإجماع والأخبار المستفيضة) – اعتماداً لقضاء أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد روي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قضىٰ أمير المؤمنين (عليه السلام) في امرأة توفي زوجها وهي حبلىٰ فولدت قبل أن تنقضي أربعة أشهر وعشر فتزوَّجت فقضىٰ أن يخلي عنها ثم لا يخطبها حتَّىٰ ينقضي آخر الأجلين فإن شاء أولياء المرأة أنكحوها وإن شاءوا أمسكوها، فإن أمسكوها ردّوا عليه ماله»(16)، خلافاً لباقي المذاهب الإسلامية التي تفرَّقت بين القول بأنَّ عدَّتها أربعة أشهر وعشرة أيام بدليل الآية الأولىٰ وبين القول بوضع الحمل لدليل الآية الثانية.

التعارض بين الأحاديث:

فالمختلفان في اصطلاح الدراية هما المتعارضان في اصطلاح الأصوليين، والمتوافقان خلافه، وقد صرَّح أهل الدراية بأنَّ حكم الحديث المختلف، الجمع بينهما إن أمكن، ولو بوجه بعيد يوجب تخصيص العام منهما، أو تقييد مطلقه، أو حمله علىٰ خلاف ظاهره، وإن لم يمكن الجمع، فإنَّ علمنا أنَّ أحدهما ناسخ، قدَّمناه، وإلَّا رجّح أحدهما علىٰ الآخر بمرجحه المقرّر في الأصول.

ثم إنَّ الجمع بين المتعارضين من أهم فنون علم الحديث وأصعبها، أمّا الأهمية فلأنَّه يضطر إليه جميع طوائف العلماء سيما الفقهاء ولا يملك القيام به إلَّا المحقِّقون من أهل البصائر، الجامعون بين الحديث والفقه والأصول، الغواصون علىٰ المعاني والبيان، يعد مشكل تفسير النص من أبرز المشاكل المعرفية والمنهجية التي أثارتها كثير من الثقافات والحضارات الإنسانية.

وما يهمّنا هنا البحث في العبارات المشتركة: التي منها المختلف وضدّه الموافق (والمراد هنا اختلاف المتنين وتوافقهما، وذلك غير المؤتلف والمختلف سنداً وقد عرف المختلف في كتاب (البداية) وغيرها، بأنَّه يوجد حديثان متضادان في المعنىٰ ظاهراً، سواء تضادا واقعاً أيضاً كأن يمكن التوفيق بينهما بوجه، أو ظاهراً فقط كأن يمكن الجمع بينهما)(17).

ومن أمثلة المختلف عند أهل الدراية:

أحاديث الأحكام: حديث «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً»(18)، وحديث «خلق الله الماء طهوراً، لا ينجسه شيء إلَّا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه»، فإنَّ الأول ظاهر في طهارة القلتين، تغيَّر أم لا، والثاني ظاهر في طهارة غير المتغيّر سواء كان قلتين أو أقل.

أحاديث غير الأحكام: حديث «لا يورد ممرض علىٰ مصح» وحديث(19) «فر من المجذوم فرارك من الأسد» مع حديث «لا عدوىٰ» والمعنىٰ أنَّه لا يورد صاحب الإبل المراض إبله علىٰ الإبل الصحاح، أي فوقها من جانب الماء الجاري، حيث يجري سؤر المراض، فتشربه الصحاح، فتتمرَّض. ووجه مخالفة الخبرين الأولين للثالث، دلالتهما علىٰ إثبات سراية المرض من المريض إلىٰ غيره، ونفي الثالث السراية، وقد جمعت العامة بين الخبرين بوجوه:

أوَّلها: من أنَّ هذه الأمراض لا تعدي بطبعها، لكن الله تعالىٰ جعل مخالطة المريض بها للصحيح سبباً لإعدائه مرضه.

ثانيها: من أنَّ نفي العدوي باقٍ علىٰ عمومه والأمر بالفرار إنَّما هو من باب سد الذرائع.

ثالثها: من أنَّ إثبات التعدّي في الجذام ونحوه، مخصوص من عموم نفي العدوي، فيكون معنىٰ قوله (عليه السلام): «لا عدوىٰ» أي إلَّا من الجذام ونحوه.

رابعها: أنَّ الأمر بالفرار إنَّما هو لرعاية حال المجذوم، إلىٰ غير ذلك من وجوه الجمع.

وقد أمكن التوفيق في روايات نزول الفاتحة(20) بالقول: وأمّا الروايات التي وردت بصدد تحديد مكان أو زمان نزول هذه السورة، فعلىٰ قسمين، نزولها في مكة، والآخر نزولها في المدينة. ففي مجمع البيان: (إنَّ فاتحة الكتاب مكية عن ابن عباس وقتادة، ومدنية عن مجاهد). وفي تفسير السيوطي: أخرج الواحدي في أسباب النزول والثعلبي في تفسيره عن الإمام علي (عليه السلام) قال: «نزلت فاتحة الكتاب بمكة».

ومن الناحية الواقعية فإنَّ الفاتحة جزء من الصلاة تم فرضها منذ بداية تشريعها، وبذلك أنَّ الفاتحة مكية لتشريع الصلاة في أوائل البعثة النبوية، ولم يطرأ عليها تغيير إلَّا في عدد الركعات.

وعليه لا يشكل من افتراض نزولها مرة أخرىٰ بعد الهجرة بناء علىٰ المذهب المعروف والصحيح من إمكان تعدُّد نزول الآية أو السورة بسبب تعدُّد الأسباب والظروف التي قد تؤدِّي إلىٰ نزول الآية لمعالجة السبب أو الظرف، وبهذا اللحاظ أيضاً يمكن الجمع بين الروايات التي تحدَّثت عن نزولها قبل وبعد الهجرة.

طرق حل التعارض:

طرق حل التعارض وبيان ذلك كالتالي:

1 – إنَّ القرآن والسُنَّة المعصومية -الصحيحة السند- هما المصدران التشريعيان في الإسلام وفيهما أصل سائر الأدلة، وعن طريقهما تثبت لها الحجية.

2 – عدم إمكان وقوع التعارض لا بنفسهما ولا بينهما؛ فإنَّهما من الله مباشرةً أو بواسطة؛ وغايتهما واحدة، فهما وحيان من الله تعالىٰ.

3 – الأخذ بهما واجب، غير أنَّ أحدهما مجمل والآخر مفصَّل، وأحدهما أصل والآخر تفريع. والأصح عند تعارض ظاهرين أحدهما من الكتاب والآخر من السُنَّة أنَّه لا يقدم أحدهما علىٰ الآخر، لأنَّ مصدرهما واحد وهو الوحي الإلهي لرسول الله، إمّا لفظاً ومعنىً كما هو القرآن، وإمّا معنىً فقط كما في السُنَّة، وعليه فلا فصل بينهما أبداً.

4 – استقلالية السُنَّة بالتشريع، فإنَّه يجوز أن تأتي السُنَّة بأحكام لم ترد في القرآن، وأنَّ ما جاءت به من هذا القبيل واجب الاتِّباع، وذلك عملاً بعموم الآيات الدَّالة علىٰ اتِّباع السُّنَّة وعلىٰ التمسُّك بها والعمل بمقتضاها.

5 – إنَّ السُّنَّة تأتي موافقة وشاهدة بنفس ما شهد به الكتاب الكريم، وحينئذٍ يكون توارد القرآن والسُنَّة علىٰ الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وليس تضافرها، وأنَّ تعضيد السُّنَّة للكتاب لا يسلبها حجيتها، ولا يفقدها استقلالها في إثبات الأحكام، بل يزيدها قوة ورسوخاً، لأنَّ التأييد فرع الصلاحية للتأسيس.

 

 

 

الهوامش:


(1) الزبيدي، محمد بن محمد بن مرتضىٰ، تاج العروس: ج2، باب القاف، مادة (وف ق)، ص477-481.

(2) ينظر (بتصرف): أحمد مختار عمار – معجم اللغة العربية المعاصرة: في باب (ج م ع).

(3) العسكري لأبي هلال: الفروق اللغوية، ص١١٠.

(4) المجلسي، العلامة محمد باقر – بحار الأنوار: ج2، ص244.

(5) ينظر: الطهراني، آغا بزرك، المقدمة للأغا بزرگ الطهراني، لكتاب التبيان في تفسير القرآن: ص١٧.

(6) العاملي، محمد بن الحسن الحر، وسائل الشيعة إلىٰ تحصيل مسائل الشريعة، تحقيق: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث: ج27، ص380.

(7) آل بحر العلوم، السيد محمد بحر، بلغة الفقيه: ج3، هامش ص59.

(8) الأنصاري، الشيخ مرتضىٰ، فرائد الأصول: ج2، ص779.

(9) الاحسائي، عوالي اللئالي – ابن ابي جمهور: ج4، ص136.

(10) أصول الفقه، الشيخ محمد رضا المظفر: ج2، ص224.

(11) ينظر(بتصرف) المظفر، أصول الفقه – الشيخ محمد رضا: ج3، ص234.

(12) ينظر (بتصرف) الصدر، دروس في علم الأصول – الشهيد السيد محمد باقر: ج1، ص130-441.

(13) ينظر (بتصرف) البحراني، لشيخ يوسف بن أحمد آل عصفور: مقدمة الحدائق الناظرة، ج1.

(14) المظفر، الشيخ محمد رضا، اصول الفقه: ج3، ص231.

(15) الشيرازي، الشيخ ناصر مكارم، تفسير الأمثل: ج١٨، ص٣٥٥.

(16) العاملي، محمد بن الحسن الحر، وسائل الشيعة إلىٰ تحصيل مسائل الشريعة، تحقيق مؤسسة آل البيت، ج22، باب: أنَّ عدَّة الحامل من الوفاة أبعد الأجلين من الوضع وأربعة أشهر وعشر: ص240.

(17) ينظر (بتصرُّف): غفاري، علي أكبر، دراسات في علم الدراية: ص47-49.

(18) الحنبلي، علاء الدين المرداوي – التحبير شرح التحرير: ج6، ص2665، ح7.

(19) النيسابوري، أبي الحسن مسلم الحجاج – صحيح مسلم: ص5707.

(20) ينظر (بتصرُّف): الحكيم، السيد محمد باقر – تفسير سورة الحمد: ص1-134.

Scroll to Top