سُنَّة الكدح في القرآن الكريم

سُنة الكدح في القران الكريم

حياة الإنسان علىٰ مستوىٰ البدن والروح مشوبة بالألم والعناء منذ أن ينعقد نطفة إلىٰ أن يصل إلىٰ أرذل العمر، هذه طبيعة الحياة وسُنَّة الله تعالىٰ، ومن توقع غير ذلك فهو واهم، بل أنَّ الحياة مجبولة علىٰ المكابدة والكدح والتعب والنصب ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ﴾ (البلد: 4).

يقول الراغب في مفرداته: إن الكَبَد ألم يصيب الكبد ثم أطلق علىٰ كل مشقة وصعوبة.

ويقول الشاعر:

طُبعت علىٰ كدر وأنت تريدها * * *  صفواً من الأقذاء والأكدار

ومكلف الأيام ضد طباعها * * * متطلب في الماء جذوة نار

فتبدأ حركته إلىٰ الله (عزَّ وجلَّ) ولكلِّ حركة بداية ونهاية، ومن المعلوم أن الإنسان خلق لمهمة راقية عبَّر عنها القرآن الكريم: ﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56).

وفي الحديث القدسي المشتهر علىٰ الألسن: «كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أُعرف فخلقت الخلق لكي أُعرف»، فهناك هدف عظيم وهو المعرفة وفي الآية إشارة علىٰ أنَّ الهدف هو العبادة وكلاً من المعرفة والعبادة وجهان لعملة واحدة، وختام هذه الحركة هو اللقاء القهري بالله (عزَّ وجلَّ) (ملاقيه) كما قال تعالىٰ: ﴿يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ﴾ (الانشقاق: 6).

فاللقاء أمر قهري لابد منه ولا محيص من يوم خط بالقلم، ولكن شتَّان بين لقاء كلقاء الحبيب مع حبيبه وبين لقاء المتَّهم مع القاضي الذي يريد أن يُحلل عليه غضبه ﴿فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوىٰ﴾ (طه: 81).

وسنبسط الحديث عن مفهوم الكدح وبيان أنَّه سُنَّة إلهية لكل بني البشر علىٰ اختلاف مشاربهم، وما هو الكدح المقصود الذي يحقق هدف الإنسان ومنطلق هذه الرحلة ونهايتها والجهاد الأكبر وما يتفرَّع علىٰ بعض هذه الأبحاث، ومن الله نستمد التوفيق ونوكل مهمة هذا الطريق الشائك إلىٰ دراسات وبحوث أعمق وأرجو من الله (عزَّ وجلَّ) أن لا يكون هذا المختصر فيه شيء من الزلل ومن الله السداد.

المبحث الأوَّل: مفهوم الكدح:

في اللغة: كَدَحه وكدّحه إذا خَدَشه ويكدح كدحاً فهو كادح أي كاسب(1).

وفي الاصطلاح:

الكدح هو السعي الشديد في الأمر والدأب (2)وجهد النفس في العمل حتَّىٰ يؤثر فيها(3).

من خلال ما ورد من المعنىٰ اللغوي والاصطلاحي هناك إشارة إلىٰ الكسب والكدح والدأب، وكل هذه المعاني قد تكون في الخير والشر علىٰ حدِّ سواء أمّا مفردة الكدح فقد جاءت في القرآن الكريم مرة واحدة: ﴿يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ﴾ (الانشقاق: 6).

وهذا الخطاب عام يستوعب الناس كافة (الإنسان) لأنَّ الكدح إلىٰ الرب من مقتضيات إنسانية الإنسان وهو ناشئ من حبِّ الكمال المطلق الكامن في وجود أي إنسان بمقتضىٰ الفطرة ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (الروم: 30).

المبحث الثاني: الكدح هو سُنَّة إلهية:

هناك سُنن وقوانين إلهية حاكمة علىٰ البشرية كما يقول تعالىٰ: ﴿… فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً﴾ (فاطر: 43).

وقد ذكرت السنن في القرآن الكريم لغرض الاعتبار، وقد اتَّخذت بعض هذه السنن شكل القضية الشرطية كما يقول السيد الشهيد محمد باقر الصدر في مضمون بعض كتاباته أنَّ هناك علاقة موضوعية بين الشرط والجزاء وأنَّه متىٰ ما تحقق الشرط تحقق الجزاء قهراً، وهذا اللسان مثَّلته كثير من الآيات القرآنية، منها: ﴿… إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ…﴾ (الرعد: 11) أي أنَّ منطلقات التغيير داخلية ومن ثم تستوعب الميادين الخارجية الآخرة كميدان السياسة والاقتصاد والثقافة وغير ذلك.

ومنها: ﴿وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً﴾ (الإسراء: 16).

أي أنَّ هناك علاقة مطردة فإذا ما ساد الظلم وسيطر المترفون هلكت الأُمَّة ولهذا أنَّ الصلحاء والمترفين علىٰ طرفي نقيض إلىٰ آخر الخط، لأن الصالح يستهدف العدالة بخلاف المترف فهو لا يعيش إلَّا في وسط الظلم والتعدي علىٰ الآخرين.

ومنها: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (الأعراف: 96)، فالتقوىٰ سبب لنزول البركات والعكس بالعكس.

ومنها: ﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَىٰ الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً﴾ (الجن: 16).

(فهناك علاقة وثيقة وسُنن إلهية تربط بين الاستقامة وبين وفرة الخيرات وكثرة الإنتاج ولو أنَّ المجتمع طبق ذلك وأوجد الشرط وهو الاستقامة لما وقعوا في ضيق من ناحية الثروات)(4) منه قدس الله نفسه.

والإنسان مسؤول عن إيجاد الشرط والسبب فإذا ما تحقَّق تحقَّقت النتيجة قهراً، ونستطيع تشبيه ذلك بالقوانين العلمية التي لا تتخلَّف وحتَّىٰ يكون الإنسان فاعلاً مؤثراً لابد أن يكتشف هذه السنن ويتعرَّف علىٰ هذه القوانين لكي يستطيع أن يتحكَّم فيها وإلَّا تحكَّمت فيه.

وهناك عبارة لصاحب تفسير الأمثل أن: (قانون الكدح وهو مستمد من آية ﴿يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ…﴾ فالآية تشير إلىٰ أصل أساسي في الحياة البشرية، فالحياة دوماً ممزوجة بالتعب والعناء وإن كان الهدف منها الوصول إلىٰ متاع الدنيا فكيف هو الحال إذا كان الهدف منها، هو الوصول إلىٰ رضوان الله ونيل حسن معاد الآخرة فالحياة الدنيا جبلت علىٰ المشقَّة والتعب والألم ولا فرق في توجيه معنىٰ اللقاء سواء كان لقاء يوم القيامة أو الوصول إلىٰ عرصة حاكمية الله المطلقة أو بمعنىٰ لقاء جزاء الله من عقاب أو ثواب أو بمعنىٰ لقاء ذاته المقدسة عن طريق الشهود الباطني)(5).

ويمكن أن يكون المعنىٰ أنَّ الكادح سيلقىٰ جزاء أعماله ويرىٰ عمله عياناً وفق نظرية تجسد الأعمال نظير ما ورد في كتاب الله (عزَّ وجلَّ): ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامىٰ ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ في‏ بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعيراً﴾ (النساء: 10).

ونستطيع أن أقول هناك رحلة يكابد فيها الإنسان ويعاني ألوان من التعب والنصب حتَّىٰ في الدنيا، وكما يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنَّ الراحة لم تخلق في الدنيا ولا لأهل الدنيا إنَّما خلقت الراحة في الجنة ولأهل الجنة والتعب والنصب خلق في الدنيا ولأهل الدنيا وما أعطي أحد منها جفنة إلَّا أعطي من الحرص مثليها ومن أصاب من الدنيا أكثر كان فيها أشد فقراً لأنَّه يفتقر إلىٰ الناس في حفظ أمواله ويفتقر إلىٰ كل آلة من آلات الدنيا فليس في غنىٰ الدنيا راحة(6).

المبحث الثالث: الكدح المقصود:

حين نستنطق آيات الله (عزَّ وجلَّ) نرىٰ الكل يسير إلىٰ هدفه المنشود، ولكن شتَّان بين هدف يشعر فيه الإنسان أنَّه في مملكة المليك المقتدر فحركاته وسكناته داخل في إطار هذه المملكة ويستشعر أنَّه مسؤول ومؤتمن وخليفة هذه عبائر مستلة من مجموعة آيات:

﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ…﴾ (الأحزاب: 72).

﴿إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً…﴾ (البقرة: 30)، هذا الخليفة لابد وأن يكون حاكياً عن المستخِلف فيضبط علاقته الثلاثية مع الله ومع أخيه الإنسان، ومع الطبيعة فتكون حركته حركة مقصودة وكدحه هادف وهو يعيش العبادة بالمعنىٰ العام بخلاف ما لو كان ذلك الإنسان يعيش لأهدافه وأغراضه وشخصنته وشهواته ونزواته، فهو يسير إلىٰ هدف ولكنه هدف ضحل هدف يمرغ أنف ذلك الإنسان بالوحل لأنَّه هدف دنيوي ودان، والذي يعيش الهدف الداني لا حظَّ له من الدنيا والآخرة، فهذا الهدف وهذا الكدح غير مقصود وغير مرضي ولا ينبغي أن يسير وأن يكدح تجاهه الإنسان.

النتائج تتبع طبيعة الكدح:

يقول السيد صاحب تفسير من وحي القرآن:

(ليست الحياة فرصة للاسترخاء والنوم والراحة اللاهية المطلقة وليست مجالاً للعبث واللعب واللهو، بل هي فرصتك للكدح الذي يمثل الجهد العملي لتكون طبيعة النتائج منسجمة مع طبيعة الكدح)(7).

لأنهم قالوا النتيجة تتبع المقدمة، بل النتيجة تتبع أخس المقدمات.

فتارة يكون الكدح ذا قيمة ومن أجل قيمة والهدف سامي فالنتيجة كذلك وأخرىٰ يكون الكدح متسافلاً وفي أفق النزوات ليس إلَّا، فالنتائج غرائزية ضحلة ولهذه ما نراه في بعض محطات الدنيا أنَّها راحة هي شبح راحة وهي ليست حقيقية، بل مشوبة بأنواع المنغصات، ولهذا قيل إن الإبداع ينبثق من رحم المعاناة وهو صحيح بنسبة عالية.

المبحث الرابع: المنطلق والنهاية:

في كلمة للشيخ الآصفي تبدأ مسيرة الكدح (بالأنا) بما تكتنف الأنا من الشهوات والأهواء والغرائز وتنتهي إلىٰ الله (إلىٰ ربِّك) وهذا القوس الصعودي من الأنا إلىٰ الله هو مسار حركة الإنسان ونموه وتكامله، ولابد أن تتم هذه الحركة بصورة اختيارية وطوعية، وقيمة هذه الحركة أنَّها تتم بصورة اختيارية وطوعية وبإرادة الإنسان لأنَّ الكمال كل الكمال حينما يسعىٰ لانتزاع نفسه من التعلُّق بالحياة الدنيا ومتاعها ولذاتها بصورة اختيارية وبشكل تدريجي حتَّىٰ يتحرَّر من حب الدنيا والتعلُّق بها من الأنا والهوىٰ بشكل كامل وهذه الرحلة الاختيارية بقدر ما تحقق للإنسان الكمال والتسامي ونيل لقاء الله الذي هو أشرف ما يناله الإنسان في الدنيا والآخرة يتطلَّب منه الجهد والعناء والكدح والمكابدة، وهذه الضريبة الحتمية في الطريق إلىٰ الله(8) هي التي تشير إليها الآية الكريمة ﴿كادِحٌ إِلىٰ رَبِّكَ﴾ (الانشقاق: 6).

تحليل هذه العبارة:

تكتنف الأنا مجموعة تجاذبات ومخاضات عسيرة، هذه المخاضات تريد أن تمرغ أنف الإنسان وتجره وتجذبه للتراب ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَىٰ الْأَرضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ (التوبة: 38)، والتثاقل باتِّجاه الأرض كناية عن الميول إلىٰ قبضة التراب التي خلق منها الإنسان والتي فيها مجمع الشهوات وبعبارة أخرىٰ أن:

 العامل الأوَّل:

(الشهوات والغرائز والأهواء والميول النفسية) وهي ميولات داخلية يصطلح عليه بالهوىٰ وأن:

العامل الثاني:

﴿… النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ (آل عمران: 14).

الذي يصطلح عليها بالفتنة وهي فتن خارجية.

والعامل الثالث:

(الشيطان) وظيفة هذا المخلوق المارد أنَّه يعمل علىٰ تقريب الهوىٰ للفتنة أي يعمل علىٰ تحريك العامل الأوَّل للثاني ويعمل علىٰ التصالح بينهما حتَّىٰ يوقع الهوىٰ في أحضان الفتنة نستجير بالله، وفي عبارة الشيخ الآصفي: (أنَّ هذه العوامل الثلاثة التي تضغط علىٰ الإنسان وتحدِّد حركته وتقيِّده عن الانطلاق والصعود)(9)، وكأنَّه هناك في داخل مملكة الإنسان شيء يريد أن يتسامىٰ به حيث نفخت فيه من روحي وشيء يريد أن يتسافل به إلىٰ الأرض حيث قبضة التراب لأن طبيعة الإنسان عبارة عن القبضة والنفخة.

دور الهوىٰ حين يتبع الإنسان الهوىٰ:

حينما يقول تعالىٰ: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ * وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَىٰ الْأَرضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الأعراف: 175-176).

أشنع وصفٍ وصفت هذه الآية لمن اتَّبع هواه ولا ينجو من اتِّباع الهوىٰ إلَّا الأوحدي لأنَّ الآية أشارت إلىٰ رجل آتيناه آياتنا قد يحمل الاسم الأعظم ولكنَّه انسلخ منها وسُلب التوفيق وبالمباشر ركبه الشيطان وأبعده عن ساحة الرحمن فأركسه في ضلال وغواية واتَّكل علىٰ نفسه الأمارة بالسوء فأخذته الشهوات يميناً وشمالاً وانظر إلىٰ حاله كما يقول تعالىٰ:

﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾ (الأعراف: 176) فلا يروي ظمأهم من حطام الحياه الدنيا وزخرفها شيء ومهما أكثر منها ازدادوا إليها جشعاً كما يصيب الكلاب داء الكَلَب فلا يرويها ماء فهي تلهث علىٰ كل حال، كذلك هؤلاء الذين اتَّبعوا أهواءهم فاخلدوا إلىٰ الأرض فلا يزيدهم السعي إلىٰ الدنيا إلَّا لهثاً وظمأً(10).

الفتنة:

وهذا هو الضلع الثاني من مثلَّث الابتلاء والفتنة، والفتن هي المغريات والمثيرات التي تغري الإنسان وتثير النفس وهي تقع خارج النفس بعكس الهوىٰ الذي يكون داخل النفس والدنيا فتنة وحطامها فتنة وما فيها من الذهب والفضة والأموال والأولاد والأزواج فتنة وهذه الفتن تؤثِّر علىٰ الإنسان وتسلبه إرادته وتستذله يقول تعالىٰ: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ﴾ (الحديد: 20).

ويقول تعالىٰ: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ (آل عمران: 14).

وهذه النقاط في الآية الشريفة من أهم المسائل التي تستثير غرائز الإنسان وتهيجها وتشد الإنسان إلىٰ هذه المغريات التي يحصي القرآن طرفاً منها في هذه الآية(11).

الشيطان:

(وأمّا إبليس وهو الضلع الثالث من مثلث الابتلاء يقرب البعيد للإنسان ويبعد القريب يوسوس في النفس يزين الإنسان القبيح ويقبح له الجميل ويعرض عليه الفتن عرضاً ليزيد في إثارتها وإغرائها ويحرك أهواء الإنسان وشهواته ويفتنه)(12).

انظر إلىٰ خطورة الشيطان ﴿يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ (الأعراف: 27).

ولو تحدَّثنا عن آيات الشيطان في القرآن لوجدنا العجب العجاب من هذا المخلوق الذي تحدَّىٰ الله سبحانه وتعالىٰ أن يسقط البشرية في الهاوية وفي الانحراف وفي التسافل، وقد قال تعالىٰ علىٰ لسانه: ﴿قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلىٰ يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً * قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً﴾ (الإسراء: 62-64).

النهاية:

عندما ينتقل الإنسان إلىٰ هذا المحور يضع نفسه بشكل كامل تحت تصرُّف حكم الله وإرادته وسلطانه وأمره ونهيه وقضائه وقدره وينقاد لسلطان الله انقياداً كاملاً في كل أمر يرتبط بحياته فيما يتعلَّق بجوارحه وأعضائه وما يتعلَّق بجوانحه وحبّه وبغضه، ويخرج بشكل كامل من سلطان الهوىٰ والأنا وينزع نفسه انتزاعاً كاملاً من سلطان هذا المحور ويدخل في دائرة سلطان ولاية الله بشكل مطلق كما قال تعالىٰ: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلهِ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ (الأنعام: 162).

ومن أهم مقوِّمات هذا الارتباط الطاعة والتسليم والذكر والرجاء والرهبة والحب كما قال تعالىٰ: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (آل عمران: 31).

وكما ورد في الحديث القدسي ما يتقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه وأنَّه ليتقرَّب إليَّ بالنوافل حتَّىٰ أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها وإن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته(13).

إنَّ التأمُّل في هذا الحديث نجد أن الإنسان عندما يتحوَّل بشكل كامل إلىٰ محور الولاية الإلهية يتحوَّل إلىٰ أداة طيِّعة لتنفيذ مشيئة الله في الأخذ والعطاء معاً وما نريد أن نخلص إليه أن مهمة الإنسان هو التحرُّر من هذه القيود والتعلُّقات والنزوات والشهوات، والشطر الثاني هو الصعود والتحرُّك إلىٰ الله والدخول في دائرة ولاية الله ومن دون أن يتحرَّر الإنسان من المحور الأوَّل (الأنا) لا يستطيع أن يرتبط بالمحور الثاني (إلىٰ ربِّك) ومن دون أن ينتزع نفسه من سلطان الأنا والهوىٰ لا يستطيع أن يدخله في دائرة سلطان ولاية الله، فهذا هو المنهج العلمي في الإسلام لحركة الإنسان من محور الأنا إلىٰ الله، ويتم هذا المنهج ضمن مرحلتين المرحلة الأولىٰ في الإقلاع عن محور الذات والهوىٰ وأداة هذه المرحلة هي التقوىٰ والمرحلة الثانية في الارتباط بالمحور الإلهي والدخول في دائرة ولاية الله وأداة هذه المرحلة هو الذكر(14) ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ﴾ (الحديد: 16).

المبحث الخامس: الجهاد الأكبر:

رجع النبي (صلَّىٰ الله عليه وآله) من أحد غزواته فقال لأصحابه: «رجعتم من الجهاد الأصغر وبقي عليكم الجهاد الأكبر»، فقيل: يا رسول الله، وما الجهاد الأكبر؟ قال: «جهاد النفس»(15) ولا شك أنَّ هؤلاء الأصحاب قد اندهشوا من كلام النبي (صلّىٰ الله عليه وآله) بعد مجاهدتهم الأعداء وتحملهم آلام الرماح والسيوف وانتصارهم علىٰ المئات والألوف، ومع ذلك فإنَّ النبي يسمّي ذلك الجهاد بالجهاد الأصغر ويكون شيئاً آخر أكبر منه وأهم وهو الجهاد الأكبر، فماذا هو الأهم من الحرب الطاحنة والآلام المدمِّرة؟

ومن هنا قالوا بدهشة وذهول وما هو الجهاد الأكبر يا رسول الله؟ قال: «جهاد النفس».

والسيد الشهيد الثاني يذكر حيثية هذه الجهاد واختلافها عن جهاد العدو فيقول:

(إنَّ العدو قد اتَّخذ رأيه بروية وتفكير وتعقل في حين أنَّ النفس تصر علىٰ بعض الأمور لمجرد الهوىٰ والشهوة، ومن هنا قيل: إنَّ الشهوات لا عقل لها، بل تريد إشباع نفسها فهي تريد متطلَّباتها مهما ترتب علىٰ ذلك من أضرار في الدنيا أو في الآخرة)(16).

ومن هنا ورد في الدعاء في وصفه أثر النفس أنَّها «تسلك بي مسالك المهالك وتجعلني عندك أهون هالك»(17).

هذا كله يحتاج إلىٰ مجاهدة وتعب وتزكية وتربية كما أقسم الله سبحانه وتعالىٰ في سورة الشمس بأحد عشر قسماً حتَّىٰ يصل إلىٰ الهدف المنشود والمرجو من هذه الأقسام لكي يصل إلىٰ ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها * وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها﴾ (الشمس: 9-10) ولن يحصل إلَّا بتوفيق من الله (عزَّ وجلَّ) كما يقول الأمير (عليه السلام): «إلهي إن لم تبتدأني الرحمة منك بحسن التوفيق فمن السالك بي إليك في واضح الطريق؟ وإن أسلمتني أناتك لقائد الأمل والمنىٰ، فمن المقيل عثراتي من كبوات الهوىٰ؟ وإن خذلني نصرك عند محاربة النفس والشيطان، فقد وكلني خذلانك إلىٰ حيث النصب والحرمان»(18).

الخاتمة:

تعرَّضنا في بحث سُنَّة الكدح وبينَّا أنَّها من إحدىٰ السُنن القرآنية التي تمر علىٰ بني البشر قاطبة وأن حتمية اللقاء محسومة وقطعية بما لا تقبل الشك وفرَّقنا بين نوعين من اللقاء، فهناك لقاء قهري ولقاء اختياري والذي يريده الله سبحانه وتعالىٰ والمعصومون (عليهم السلام) هو اللقاء الاختياري والذي فيه يصير الإنسان إنساناً ويصبح ذلك الإنسان الخليفة والمؤتمن علىٰ البلاد والعباد بهذا المعنىٰ أنَّ اللقاء الاختياري يستبطن الجهاد الأكبر وهو لا يكون إلَّا عن طريق تزكية النفس وتحليتها وتخليتها وتجليتها، وهذا غاية الفلاح كما قال تعالىٰ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها * وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها﴾ (الشمس: 9-10) إذن فعملية الكدح لابد أن تمر عبر تزكية الباطن حتَّىٰ تصل إلىٰ لقاء الله هذا الذي عبَّر عنه في الحديث المشهور: «موتوا قبل أن تموتوا».

اللَّهم اجعلنا من المرحومين ولا تجعلنا من المحرومين، بمحمد وآله الطاهرين.

 

 

 

الهوامش:


(1) معجم مقاييس اللغة – ابن فارس 167:5.

(2) تفسير التبيان – الشيخ الطوسي 309:10.

(3) تفسير الميزان – السيد الطباطبائي 242:20.

(4) المدرسة القرآنية – محمد باقر الصدر: تحت عنوان السنن التاريخية مع تصرف وتعليق.

(5) التفسير الأمثل – مكارم الشيرازي: ج20، ص62.

(6) بحار الأنوار للمجلسي: ج70، ص92.

(7) من وحي القرآن – تفسير سورة الانشقاق من موقع بينات.

(8) في رحاب عاشوراء – الآصفي: ج1، ص334، وما بعدها.

(9) نفس المصدر.

(10) نفس المصدر.

(11) نفس المصدر.

(12) نفس المصدر.

(13) بحار الأنوار – المجلسي: ج67، ص24.

(14) في رحاب عاشوراء – الآصفي.

(15) الكافي – الكليني: ج2، ص18.

(16) فقه الأخلاق – محمد محمد صادق الصدر: ج2، ص602.

(17) مناجاة الشاكين للإمام زين العابدين (عليه السلام).

(18) دعاء الصباح للإمام علي (عليه السلام).

Edit Template
Scroll to Top