
مقدمة:
تعتبر الهجرة مفصلاً مُهِمّاً في بناء الدولة الإسلامية الأولىٰ وتأسيس مكانة المسلمين بين مجتمعات الأديان السابقة، حيث شكَّلت انعطافة حضارية في الإسلام وعلىٰ جميع الأصعدة، انتقل فيها المسلمون من موقع الاستضعاف والمطاردة والمحاصرة إلىٰ موقع القوة والعزة والكرامة، حيث تشكل المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية الأولىٰ وصار المسلمون يُحسبُ لهم ألف حساب وحساب.
ولكن هل الهجرة لها حكم واحد في الشارع المقدس أم أنَّ لها أحكاماً متعددة؟
فالهجرة قد اختلفت واختلفت أغراضها وتغيَّرت بحسب مقتضيات الحياة في عصرنا الحالي.
فإذا كان الحال هذه، فما هي حدودها الشرعية التي وضعها الشارع المقدَّس للمكلَّف؟
وسنتناول حكم الهجرة في عدَّة أمور:
الأول: الهجرة في الكتاب الكريم والسُنَّة الشريفة.
الثاني: الحدود الشرعية للهجرة.
الثالث: الهجرة بلحاظ الأحكام التكليفية.
الرابع: طريق المهاجر لحفظ نفسه وعياله.
الخامس: التنبه والحذر للمهاجر وغيره.
السادس: الخلاصة.
الأمر الأول: الهجرة في الكتاب الكريم والسُنَّة الشريفة:
عند مراجعة الدين الإسلامي نجدُ أنَّه قد أولىٰ اهتماماً واضحاً في مسألة الهجرة والمهاجرين، وقد تعرَّض لها القرآن الكريم في آيات كثيرة، لأهميتها في بدايات الإسلام الأولىٰ، فمن هذه الآيات الكريمة:
قوله تعالىٰ: ﴿وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَىٰ اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَىٰ اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾ (النساء: 100).
وقوله تعالىٰ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَـرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَـرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْـرُ إِلَّا عَلىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (الأنفال: ٧٢)، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَـرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ (الأنفال: 74).
إضافة إلىٰ الروايات التي دلَّت علىٰ ذلك أيضاً، كما جاء عن النبي الأكرم (صلَّىٰ الله عليه وآله) أنَّه قال: «مَنْ فَرَّ بِدِينِهِ مِنْ أَرْضٍ إِلَىٰ أَرْضٍ وإِنْ كَانَ شِبْراً مِنَ الْأَرْضِ اسْتَوْجَبَ الْجَنَّةَ وكَانَ رَفِيقَ إِبْرَاهِيمَ ومُحَمَّدٍ صَلَّىٰ الله عَلَيْهِمَا وآلِهِمَا»(1).
الأمر الثاني: الحدود الشرعية للهجرة:
إنَّ ما يهمنا في مسألة الهجرة هي حدودها الشرعية، فهل حثَّ عليها الشارع المقدس مطلقاً؟ أم قيَّدها بقيود خاصة؟
لو نظرنا إلىٰ الهجرة بشكل موضوعي لوجدنا أنَّها مؤطرة بأُطرٍ شرعية، ومخالفة ذلك ربما يستدعي مخالفة حكم إلزامي، من وجوب أو حرمة، كما سنتعرض لذلك لاحقاً.
الأمر الثالث: الهجرة بلحاظ الأحكام التكليفية:
نفهم مما ذكر سابقاً أنَّ الهجرة قد تكون مستحبة، كمن يهاجر للتجارة للتوسعة علىٰ العيال أو صلة القربىٰ، وقد تكون مكروهة كمن يهاجر إلىٰ بلد يخلو من معالم الإسلام وأهله كعلماء الدين مثلاً.
وقد تكون واجبة، فمثلاً الآيات الكريمة تتحدَّث عن الهجرة في سبيل الله تعالىٰ وإعلاء كلمة الله (عزَّ وجلَّ) ونصرة النبي الأكرم (صلَّىٰ الله عليه وآله) بمنظار نوعي، ومثل ذلك لا تُتصور الهجرة معه إلَّا واجبة، أو الهجرة للجهاد في سبيل الله تعالىٰ أو ترك الانصياع للدول المحتلة التي تفرض قوانينها الظالمة والمنحرفة علىٰ المسلمين، فكل ذلك يدخل في دائرة الوجوب، ومخالفته تستلزم الحرمة والإثم، انطلاقاً مما جاء في حفظ بيضة الإسلام من كل ما يمس مبادئه وركائزه الثابتة التي تعتبر من ضروريات الدين أو المذهب، كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة أو غير ذلك…
وقد تكون الهجرة محرَّمة، وهذا هو مقصودنا في المقام، كمن يسافر إلىٰ بلد لا يأمن علىٰ نفسه أو عياله من الوقوع في معصية الله تعالىٰ، أو الانحراف عن جادة الشريعة المقدسة.
وهذا ما يعبّر عنه في الرسائل العملية – التعرب بعد الهجرة – والمقصود منه: هجرة المكلف من بلد يستطيع فيه أن يتعلَّم ويمارس واجباته وشعائره الدينية، إلىٰ بلد لا يتمكَّن فيه من ذلك، أو يتمكن ولكن لا يأمن علىٰ نفسه أو عياله من الوقوع في الحرام. فإنَّه يحرم عليه الهجرة عن بلده إلىٰ ذلك البلد، كما ورد في أحد الاستفتاءات التي ذُكرت في كتاب فقه المغتربين لسماحة المرجع الأعلىٰ آية الله العظمىٰ السيد السيستاني (دام ظله) وهذا نص الاستفتاء:
(لو خاف المكلَّف علىٰ نقصان دينه فما العمل؟
سؤال: لو خاف المهاجر من نقصان دين أولاده، فهل يحرم عليه البقاء في بلدان كهذه؟
جواب: نعم كما هو الحال بالنسبة إلىٰ نفسه)(2).
والأمثلة علىٰ ذلك كثيرة وقد تعرض الكثير من المؤمنين إلىٰ هذا الابتلاء، وصاروا يشكون حال أبناءهم، فقد انحرف الكثير منهم بسبب هجرتهم إلىٰ مثل تلك البلاد التي يكثر فيها الفساد بداعي الحرية المطلقة، التي صورها بعض المنحرفين في أذهان المجتمع، وصوروها لهم بأنَّها التحرُّر من كل القيود حتَّىٰ الدينية منها والالتزامات الشرعية الربانية تجاه المكلفين.
وما هي في الحقيقة إلَّا التحلُّل والانغماس في وَحْل الشهوات الحيوانية، والسيطرة علىٰ عقول الناس، لجعلهم كالدواب يتحكَّم المنحرفون في أذهانهم كيفما شاءوا.
الأمر الرابع: طريق المهاجر لحفظ نفسه ومتعلقيه:
إنَّ معظم المهاجرين أو الذين يرومون المهاجرة هم من فئة الشباب، وعندما نسألهم عن سبب ذلك يكون جوابهم هو بناء المستقبل فلا مستقبل في أوطاننا، أو يبحثون عن خدمات أفضل مما في بلدانهم، أو غير ذلك.
وهذا لا بأس فيه، فمن منا لا يريد مستقبلاً زاهراً وخدمات جيدة، وعيشة هنيّة.
ولكن علىٰ حساب أي شيء نريد ذلك؟
فهل أقدم المستقبل والمعيشة الجيدة علىٰ حساب الدين أو المذهب؟
أو هل أقدم ملذات الدنيا علىٰ حساب الآخرة؟
وهل يعقل أن أقدم الراحة الجسدية علىٰ الراحة الروحية المعنوية؟
وهل يعقل أن أقدم رضا النفس وهواها علىٰ رضا خالقها وبارئها؟
كل هذه الأسئلة لابد أن تطرح علىٰ كل من يريد المهاجرة إلىٰ أي بلد لا يأمن علىٰ نفسه من الوقوع في معصية الله سبحانه.
جواب ما تقدَّم:
وهذا لا يعني أن أُسلم للأمر الواقع وأتحمل الذل والإهانة والظلم في الوطن.
بل المقصود هو أن يتسلح الإنسان بالعلم والمعرفة، والوعي لمجابهة كل معضلة تواجهه في الحياة.
ولا سلاح في الحقيقة يعزِّز الثقة بالنفس وحمايتها من البلاء والفتن والمحافظة علىٰ قوة الارتباط بالله تعالىٰ، إلَّا سلاح العقيدة والتفقُّه في الدين، فالعقيدة الرصينة التي تنبع من دراسة حقيقية وبحث دقيق، تدفع كل شبهة عن النفس وتقوي إيمانها بالله تعالىٰ وبمن أمرنا اتِّباعه من نبيٍ أو إمام.
والتفقُّه في الدين الذي يعتبر الدستور الأكمل للتعامل مع الناس، سواء في الحضر أو السفر، كما ورد عن إمامنا جعفر الصادق (عليه السلام) قال: «الكمال كل الكمال التفقُّه في الدين، والصبر علىٰ النائبة وتقدير المعيشة»(3).
وقال أيضاً (سلام الله عليه): «لوددتُ أنَّ أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتَّىٰ يتفقَّهوا»(4).
الأمر الخامس: التنبُّه والحذر للمهاجر وغيره:
إنَّ مما ينبغي الالتفات إليه والالتزام بفعله هو الابتعاد عن مجالس المنكر وأصحاب السوء، فلا عجب أن نرىٰ من يقرب نفسه من ذلك فيفقد ارتباطه بالله تعالىٰ وأوامره ونواهيه، ولقد حذرنا أئمتنا من هذه الآفة الخطيرة التي تفتك بالشباب في بلاد الإسلام والمسلمين، فضلاً عن المهاجرين إلىٰ بلاد أخرىٰ، كما جاء في كتاب مرآة الرشاد:
(وإياك ومجالسة فاسدي العقيدة، والعصاة، والسفلة، والأراذل والأذناب، وذوي العادات الردية، والأخلاق الدنية. فإنَّ المرء مكتسب من كل مصحوب، والمجالسة مؤثرة، ولقد تضمن الديوان المنسوب إلىٰ أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله:
ولا تصحب أخا الجهل * * * وإياك وإياه
فكم من جاهل أردىٰ * * * حكيماً حين آخاه
يقاس المرء بالمرء * * * إذا ما هو شاه
وللشيء من الشيء * * * مقاييس وأشباه
وروي أنَّ لقمان قال لابنه: يا بني اختر المجالس علىٰ عينك، فإن رأيت قوماً يذكرون الله (عزَّ وجلَّ) فاجلس معهم، فإن تكن عالماً ينفعك علمك، وإن تكن جاهلاً علَّموك، ولعل الله تعالىٰ أن يظلهم برحمته فتعمك معهم)(5).
الأمر السادس: خلاصة ما تقدَّم:
الحذر كل الحذر لكل مؤمن مهاجراً كان أو حاضراً إذا أراد الحفاظ علىٰ نفسه أو عياله من الانحراف والوقوع في معصية الله تعالىٰ، فلا سبيل لذلك إلَّا التسلُّح بالعلم والعمل به، في أي زمان كان أو مكان، وليكن رضا الله هو المقصود الأول، مهما كان الحال، فقيراً كنتَ أو غنياً، غائباً ومهاجراً أو حاضراً.
الهوامش:
(1) بحار الأنوار: ج١٩، ص٣١.
(2) فقه المغتربين الفصل الأول: ص69، م17.
(3) الكافي: ج١، ح٣، باب صفة العلم وفضله.
(4) المصدر السابق ح٨ باب فرض العلم ووجوبه.
(5) مرآة الرشاد الفصل الخامس ص ٢٤٨.

