الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام علىٰ أشرف الخلق محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.
هناك الكثير من المشاكل التي نواجهها في المجتمع، منها السياسية، والاقتصادية، أو في حياتنا اليومية البسيطة، ولا أُبالغ لو قلت بأنَّ سبب الكثير من هذه المشاكل الكذب، وهو من آفات اللسان الخطيرة، فهو شعبةٌ من شُعب النفاق، وأقصر طريق للوصول إلىٰ النار، وهو علامةٌ علىٰ ذهاب الإيمان من قلب العبد.
وهو من الأمراض النفسية الخطيرة، ويكون مصاحباً لاضطرابات نفسية عديدة، منها: اضطرابات الشخصية، واضطرابات الهَوَس.
ولأجل ذلك سأكتب مقالاً ميسَّراً عن الكذب أتناول فيه تعريفه وأنواعه وأسبابه ونتائجه وعلاجه، فأقول:
أولاً: تعريف الكذب
الكذب لغة: نقيض الصدق، يُقال: كَذِب يكْذِب كَذِباً(1).
واصطلاحاً فقد وقع خلاف في تعريف الكذب الاصطلاحي وسأذكر تعريفين:
١ – عدم مطابقة مضمون الخبر للواقع، قال الجرجانيّ: (كذب الخبر: عدم مطابقته للواقع).
٢ – وقيل: هو إخبارٌ لا علىٰ ما عليه المخبر عنه(2).
ثانياً: أنواع الكذب
هناك أنواع للكذب، منها:
الكذب بالأفعال، نحو ما وقع في قصّة النبيّ يوسف (عليه السلام)، حيث جاء إخوته بقميصه مُلطّخاً بالدم، زاعمين بأنَّ أخاهم قد أكله الذئب، قال تعالىٰ: ﴿قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ * وَجاؤُ عَلىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلىٰ ما تَصِفُونَ﴾ (يوسف: ١٧-١٨).
ومن صور الكذب بالأفعال دلالة حركات الجسم المختلفة، سواء اليدين أو القدمين علىٰ الكثير من العلامات والتي يمكن أن يستنبط من خلالها علىٰ كذب الشخص المقابل، ومن هذه الحركات:
قد يقول الشخص الكاذب أمراً ويبدي بحركاته الأمر المعاكس تماماً، فيبدو الأمر غير متناسقاً، مثل أن يقول: نعم، وفي الوقت ذاته يهزّ برأس نافياً الأمر.
ومنها: هزّ الأرجل أو تحريك القدمين كرغبة للابتعاد.
ومنها: وضع الشخص حواجز بينه وبين الطرف المقابل، حيث يمكن أن يجعل يديه حاجزاً أو يمسك بفنجان قهوة أو الوقوف بزاوية بشكل بعيد, بسبب التوتر الذي يشعر به الشخص أثناء كذبه، فإنَّ هرمون الكورتيزون يرتفع لديه، مما يتسبب باندفاع الدم نحو الأطراف، فيبدأ بالتململ والتحرك أثناء كذبه.
ومنها: رفع اليدين والنظر إلىٰ الأظافر.
ومنها: القيام بالحكة.
ومنها: محاولة الشخص أثناء كذبه تغطية الأجزاء الأكثر ضعفاً في جسمه، مثل الرأس أو الرقبة أو الصدر أو البطن.
ومنها: أنَّه في بعض الأحيان عند توجيه سؤال للشخص الكاذب، فإنَّه سيقوم بتحريك رأسه، سواء كانت هذه الحركة للأمام أو الخلف أو إمالة الرأس، فإنَّها دلالات علىٰ كذب متوقع.
علىٰ الرغم من أنَّ بعض الأشخاص قد يتململون أثناء حديثهم أو كذبهم، فإنَّ البعض الآخر قد يقف ثابتاً دون أن يقوم بأي حركة تذكر, وكثيراً ما يستخدم الشخص أثناء كذبه كلتا يديه وتحريكهما في إيماءات تشير علىٰ كلامه، كما أنَّه غالباً ما تتم هذه الحركات بعد الانتهاء من الكلام.
ومنها: الوقوف والقدمان متقاطعتين أو يتم ثني اليدين إلىٰ الصدر.
الكذب بالأقوال وينقسم إلىٰ عدّة أقسام، منها:
أ – أن يكون اختراعاً لقصّة لا أساس لها من الصحّة والوجود في الواقع، فيُقال له افتراء.
ب – أن يكون زيادةً، أو نقصاً في القصّة يستدعي تغيير معناها، ويقال له مين.
ج – أن يكون الكذب في حضرة المقول فيه الكذب، ويكون اختراعاً ويُسمّىٰ بُهتاناً.
د – ومن أشدِّ أنواع الكذب وأخطرها ما نواجهه اليوم من الكذب علىٰ الله تعالىٰ ورسوله (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) والأئمّة (عليهم السلام)؛ لأنَّ الضرر هاهنا لا يعود علىٰ شخص بعينه، وإنّما هو ضرر عام يعود علىٰ المجتمع، قال تعالىٰ: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرىٰ عَلَىٰ اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (الأنعام: ١٤٤)، وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه قال: «لئن يخطفني الطير أحبّ إليَّ من أن أقول علىٰ رسول الله (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) ما لم يقل»(3).
صحيح في كل الأقسام المتقدمة يمكن أن يعود الضرر علىٰ المجتمع لكن ليس مثل القسم الرابع ربما يكذب من أجل مصلحه شخصية ولا يتبع أحد كذبته فيكون ضرر كذبه عليه فقط بخلاف نقل حديث عن رسول الله (صلّىٰ الله عليه وآله وسلم) أو أحد المعصومين (عليهم السلام).
ثالثاً: أسباب الكذب
للكذب دوافع كثيرة يصعب حصرها، منها:
١ – أن يكون الكاذب قد اتَّخذ الكذب مهنةً له، ويقتات عليه، وهذا النوع كثيراً ما نواجهه في المجتمع، فتجد هذه الحالة في كافّة طبقات المجتمع، يمارسها السياسي والعامل البسيط بلا فرق، فكلّهم يتعهّد بأمرٍ ولا يفي به.
٢ – الدوافع النفسية وحبّ الشهرة والظهور، وهذه الحالة صرنا نراها مستشرية في المجتمع، فالكثير صار باحثاً عنها وبأساليب مختلفة، فأصبح (الترند) غايةً ومطلباً لهؤلاء، وللأسف نرىٰ هذه الحالة قد سرت إلىٰ المنبر المقدّس، فبعض من يرتقيه صار يضع الحديث، أو لا يتثبّت بالنقل، طلباً لاستثارة العاطفة، والبكاء، والتلاعب بمشاعر الجمهور، أو التعرض للمهانة، فالشخص الذي يتعرّض للإهانة أو التقريع يستخدم الكذب وسيلةً للتخلّص منها، فنرىٰ المرؤوس يكذب علىٰ رئيسه، والطفل علىٰ أبويه، فيتّخذ الكذب وسيلةً للدفاع.
٣ – سوء التربية، بعدم ردع المربّي الطفل عن الكذب، وزجره، فيُصبح الكذب عادةً عنده، أو يكون المربّي بنفسه يستعمل الكذب، فيكون قدوة سوء لابنه، وبالتالي ينتج طفلاً مطبوعاً علىٰ الكذب.
رابعاً: نتائج الكذب
للكذب نتائج تعود علىٰ شخص الكاذب، وعلىٰ المجتمع، فالكاذب يكون ذا مكانة مهزوزة في المجتمع، ولا يلقىٰ حبّ الناس واحترامهم؛ لأنَّه غير موثوق به، فلا يكون مؤتمناً حتّىٰ في أفعاله، وأنَّ من أسباب الفقر هو الكذب، روي عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنَّه قال: «اعتياد الكذب يورث الفقر»(4).
كما يعود بالضرر البليغ علىٰ المجتمع، وذلك بانعدام الثقة فيما بين الناس، روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: «ينبغي للرجل المسلم أن يجتنب مؤاخاة الكذّاب، فإنَّه يكذب حتّىٰ يجيء بالصدق فلا يُصدّق»(5).
خامساً: علاج الكذب
ينبغي للشخص المبتلىٰ بهذه الآفة أن يُدرك في قرارة نفسه بأنَّه يواجه مرضاً، وهذا المرض يحتاج إلىٰ علاج، حتّىٰ يبدأ بالسعي إلىٰ التخلّص منه، ويبحث عمّا ينفعه في ذلك، والسبل التي تُساعد في التخلص منه هي أمور عديدة، منها:
١ – التقرب إلىٰ الله سبحانه وتعالىٰ والعمل بطاعته، فإنَّ العبادة تُشَكل عند العابد مناعةً تعصمه – بقدر – عمّا يُبعده عن الله، ويكون ساعياً للالتزام بما يُحبّه الله ويرضاه.
٢ – أن يكون الإنسان صادقاً مع ذاته، فيفيض منه الصدق مع الآخرين، سواء كان من حوله صادقاً أو كاذباً.
٣ – أن يكون متحلِّياً بالصبر والعزيمة، وأن يُدرك بأنَّه مُدمنٌ، فلا يتصوَّر بأنَّ يتعافىٰ من الإدمان من أوَّل محاولة، بل لابدّ له من الإصرار والعزم، وأن لا يدع التعثّر موهناً له، بل عليه بالاستمرار في صراعه حتىٰ يظفر بالتغلّب علىٰ هذه العادة.
٤ – الابتعاد عن العوامل التي دفعته إلىٰ هذه الحالة، والتخلّص منها، ومن أبرزها رفاق السوء الذين يُساهمون في تنمية هذه الآفة عنده.
٥ – أن يطلب العون والاستشارة ممّن يثق به ليساعده في التخلّص من هذه العادة، أو يُراجع طبيباً نفسياً في هذا الشأن.
(1) يُلاحظ: المحكم والمحيط الأعظم: ٦/ ٧٩٠.
(2) التعريفات للجرجاني: ١٨٣.
(3) وسائل الشيعة: ١٥/ ١٣٣.
(4) بحار الأنوار:٦٩/ ٢٦١.
(5) الكافي: ٢/ ٣٤١.