بحث المرأة

مقدمة البحث:

تتراوح القراءة التخصصية الدينية بين مصدر الدين والذي يُعتبر كتاب الله العزيز أُسّاً له، وبين الفهم الديني الذي يتبارىٰ أهل العلم والمقام في التفاني لتقديم الفهم الأقرب لواقع الدين وتقديمه للمجتمع الإنساني علىٰ أساس إحرازه للحجية.

ولذلك لا تنكفئ محاولات كل من حرص علىٰ محاكاة الدين الواقعي ورغبة إصابته، لتمس القلوب والعقول معينه الصافي القادر علىٰ إحياء المسيرة البشرية في كل اتجاهاتها، وكذلك هناك من يسعىٰ علىٰ الدوام إلىٰ قراءته بنحو مغاير ليجعله حبيس البشرية والتاريخانية والهرمنيوطيقية، وعندئذٍ تتعرض كل مفرداته إلىٰ النقد والنقض، أو قبول التغيير والآراء المتناقضة فيه من منطلق قبول نسبية الفهم، أو التعددية الدينية، أو نسبية لغة الدين.

ولم تخلو قضية المرأة والإرهاصات المحيطة بها من البحث والتفتيش والإشكالات المعاصرة، فاستدعت الضرورة والأمانة العلمية إلىٰ الاهتمام في هذا المحور عبر قراءة قرآنية وبنحو محاكمته إلىٰ عناوين الثابت والمتغير، والمنهج المعرفي القرآني، ومعايير عقدية في ضبط الجدليات المعرفية، ومن ثم إظهار مفهوم المرأة بمصداقها الأسمىٰ (فاطمة الزهراء سيدة النساء (عليها السلام)) ليتضح بذلك المكنونات التي حملها الوجدان الإسلامي الأصيل تجاه الوجود الناعم، فهل هي شبيهاً للوجود الذكوري ومكافأة من حيث الوجود؟ أو هي تابعة له وأدنىٰ منه بمراتب بل هي خُلقت لأجله وله؟ أو هي تماثله وتساويه؟

مباني البحث:

1 – قراءات ثلاث للمرأة – عوائق فكرية وفقهية تخلق الأزمات -.

2 – الآيات بين إثباتين (التساوي والتفاوت).

3 – إشكالات علىٰ مفهوم المفاضلة.

4 – خطوات لابد منها للفهم المتوازن:

* الثابت والمتغير في الشريعة.

* المنهج المعرفي القرآني.

* المحاذير المتصورة علىٰ التشريع:

أ – الظلم (وهو عدم إعطاء الحق للمستحق)، أو (العبث ومصداقه تمييز الرجل علىٰ المرأة).

* فما هي الحقوق التي حصلت عليها المرأة؟

* ما هو الحق وما علاقته بالواجب؟

* الفقه الرجولي ظلم المرأة.

* النظريات في رد ذلك وأحدها (أنسنة المقدس).

5 – الرد التفصيلي علىٰ ما ورد من إشكالات.

6 – الآيات الواردة في تفضيل المرأة علىٰ الرجل وإبراز النموذج المثالي من النساء الفاضلات.

عنوان البحث (كيف كانت قراءة القرآن الكريم للمرأة)؟

قال تعالىٰ: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثىٰ وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ…﴾ (الحجرات: 13)، تعتبر المرأة جزئية أساسية ضمن المنظومة التكوينية، وبنحو لا يجوز إغفالها أو التسامح في فهمها، فهي حقيقة وجودية خلقها الباري سبحانه لتكون خليفته ومسجود الملائكة ومن خُصَّت بمعرفة الوجود اللامتناهي تبارك وتعالىٰ، ولم يكن الواقع منصفاً في تشخيص طبيعة هذا الوجود، فصارت وقيعة الإفراط والتفريط، فمن جهة بخس الأعراف والعادات والتقاليد ورؤية ذكورية سخرتها لمحض الخدمة والتبعية، ولمملكة أميرتها حبيسة، ومن أخرىٰ حرية غير منضبطة، تتجاوز حقوقها في احترام الموازين التي تحفظ إنسانيتها بدعاوىٰ غير واقعية! ومن بين ذلك انطلق الفكر العلماني إلىٰ جعلها قضية أساسية تكشف حضارة الدين وعدالته وصلاحيته في إدارة الحياة أو عدم ذلك!

فاقتضت الضرورة ضمن هذا الجدل الفكري بيان الحق من خلال استقراء التراث الديني بواسطة القرآن الكريم لنعثر بين آياته المباركات علىٰ رؤية معتدلة تُبرز هذا الكيان علىٰ خلاف المنظور التقليدي والمنظور العصري اللذان ينتقصان من قيمة المرأة علىٰ حد سواء، ولا يعكسان بأمانة الواقع المطلوب لها، وبذلك نكتشف وجودها الإنساني بأبعاده المختلفة (فهي الإنسانة والعالمة والمفكرة والأديبة والوزيرة والمديرة والموظفة والعاملة والمربية والأُم والزوجة والأخت والابنة) ليتّضح دورها الإيجابي الفاعل بنشاطاته المتنوعة في المجتمع.

المرأة بين قراءات ثلاث:

الأولىٰ: القراءة التقليدية:

التي تفسح مساحة الوجود للأنثىٰ في حدود البيت والعائلة فقط وما يستدعيه ذلك من عطاء وتضحية وخدمة حيث يلحظ عالمها بمستويين:

المستوىٰ المثالي: تمثله المرأة الصالحة العفيفة المحجوبة عن المجتمع، المترفعة عن ممارسة أي دور علمي أو إنساني أو اجتماعي أو وطني فيه.

المستوىٰ الهابط: تمثله المرأة البعيدة عن الفضيلة، المتحركة بإيعازات الهوىٰ والرغبات.

وعلىٰ أثر تلك النظرة الدونية فإن ما يحدد مركز المرأة ومكانتها هو من تقترن به (أب، أخ، زوج، ابن) حيث الانتساب إلىٰ العائلة أو القبيلة أو العشيرة.

الثانية: القراءة المعاصرة:

وهي التي تحصر مساحة المرأة في جغرافية الجسد، فتكون تمام القيمة لجمالها الجسدي وفتنتها والرفاه المادي، وما يستدعي ذلك من تتبع تقلبات الموضة ومحاكات الظاهر والتجمل في تمظهراته المختلفة.

الثالثة: القراءة الدينية:

وما بين ذين وذين رؤية سعىٰ إليها الإسلام لإنصاف المرأة والتنبيه علىٰ إمكانياتها وأدوارها المختلفة التي يمكنها ركوبها، لينتفع من وجودها المليء بالطاقات المعنوية والمادية، فهي وجود إنساني مكافئ للرجل، لا مائز بينهما سوىٰ تفاوت في بعض الوظائف والعناوين التي تقتضيها حركة التطور والتكامل الإنساني.

ولا شك أن الوقوف علىٰ حقيقة هذه الرؤية ليس باليسير، وغير متاح لكل أحد، لما يستدعي ذلك من منهجية خاصة عند محاكاة التراث الديني، وفهم تخصصي للغة الدين، ولفقدان الأسباب المقومة للفهم الديني الصحيح انطلقت دعاوىٰ الإجحاف والإهمال والإهانة للعنصر الأنثوي، لتُقرَّر ضرورة استقلالية المرأة عن أحكام الدين للتحرر من قيوداته التي تحجب المرأة عن حقوقها وفرصها في العلم والعمل ومواكبة الحركة الاجتماعية.

وينبغي الوقوف عند هذه القراءة بنحو فاسح لاستعراض الفهم المغلوط فيها، لتبرأة الشريعة والفكر الديني من ظلم المرأة والانتقاص منها، والسمة الذكورية، وكذلك لبيان بقاء الحاجة للشريعة الخالدة (التي تعالج قصور الفكر الإنساني، ومحدوديته وجموح الطبيعة البشرية عن جادة الصواب) في التقنين وتحديد الحق والواجب، ورسم خارطة الطريق للعنصر الإنساني في جميع الاتجاهات الحياتية له، وفي هذا الصدد لابد أولاً من بيانٍ نكشف به الحجب التي تخنق الانفتاح الفكري علىٰ ثراء التشريع، لتكون أزمات مترامية الأطراف معلولة إلىٰ ذلك الجمود والتحجر، مرتبطة به، متداخلة معه! مما لا يجوز التسامح أو التغافل عنه، ثم نستعرض تصنيفاً قرآنياً في إطار قراءته للمرأة لنسلّط الضوء علىٰ واقعٍ بلحاظ ما هو كائن وما يمكن أن يكون.

عوائق فكرية وفقهية تخلق الأزمات:

تمتاز طبيعة الواقع التكويني بعناصر الحركة والتطور والتكامل، ولا يصح أن يُصدر خالقه من اعتبار إلّا وهو مسانخ لتلك الطبيعة لمقتضىٰ حكمته وحسن رعايته وتدبيره لمصنوعاته، ووفق تلك المعادلة الديناميكية ينبغي قراءة فقهية متجددة للتعاطي مع منظومة التكوين والتشريع بنحوها المفترض، ومن هذا المنطلق يتعين التالي:

1 – ضرورة التجديد في الفقه وضوابطه (فالاجتهاد عملية فكرية يتواصل معها الحاضر والماضي، وتتقاطع عندها قيمومة الدين مع التطور السريع وتتزايد فيه المشكلات).

2 – لا مجال للتجديد إلّا بمراجعة نقدية لعملية الاجتهاد وتقييمها.

ويمكن تصور عوامل عرقلة التجدد بالتالي:

أ – القصور الإثباتي لقارئ الأصول:

يعتبر علم الأصول من أهم مكونات الاجتهاد، مما يلزم استجابته لرؤية فقهية أوسع من الرؤية السائدة ليخدم التوجه الفقهي، تطويراً في المنهج واستيعاباً لآليات جديدة.

ولا نعني بذلك تجديده في الأسلوب أو تجديده بنحو تجريدي ليتزاوج مع الفلسفة أو الكلام، فيتمظهر الخلل بطغيان طرق الاستنباط الخاصة بالعبادات علىٰ حساب الاجتماعيات وإدارة المجتمع، والفقه العام، فينبغي جبران الثغرات الفقهية الواقعية بعلم أصول (ممنهج، مهذب، موسّع).

ب – التعامل مع القرآن والسنة (بنحو ثبات النص والمضمون):

إن النص الشرعي لما يحتويه من ألفاظ ثابتة فكذلك هو يختزن مضموناً متحركاً لا يقف عند حد من حدود الزمان والمكان، وبالرجوع إلىٰ القرآن يمكن أن نحصل علىٰ جملة قواعد فقهية عامة وكذلك عند الرجوع إلىٰ السنة المباركة، وهذا إنما يكون عند ملاحظة كون المضمون متحرك.

ج – تأثير الثقافة القبلية علىٰ العقل الاجتهادي:

وحيث إن التراث الديني (التفسير والكلام والأخلاق والأصول) يرمي بضلاله علىٰ الفكر الاجتهادي ، مما يحجبه عن التجرد المعرفي في قراءته الفقهية.

د – توسع الفقه الفردي علىٰ حسابات أخرىٰ:

إنَّ التوسع للصالح الفردي العبادي وإطاره الشخصي الضيق علىٰ حساب الفقه الاجتماعي والاقتصادي عند بعضٍ، تعطيل للبعد التشريعي للأمة في أبعادها المختلفة كالإدارة والحقوق المدنية والدولية وقضايا البيئة والتنمية والتجارة الدولية والأرباح والطب والمؤسسة الإعلامية وإلخ.

هـ – لحاظ الفقه للبعد الأخروي وجهة المعذرية والمنجزية، فانصرف الاهتمام بالاحتياط المحرز لهما، ولم يلحظ فقه الحياة الذي لا يتقوم بهذه الجنبة.

و – المانع السياسي الذي عزل الفقه عن السلطة والمجتمع، والحيلولة من تحمل مسؤولية الشؤون العامة، وتقديم رؤىٰ ترعىٰ مفاصل الحياة بما هي منظومة عامة وليست بما هي تكاليف أفراد.

ز – عدم اعتماد حركة الفقيه علىٰ المؤسسات الاستشارية والتخصصية، ليكون عملاً فردياً بعيداً عن شؤون العمل المؤسساتي.

وبعد تلك الرؤية النقدية التي تطمح إلىٰ تطوير العملية الاجتهادية لِما لها من شأن في إبراز قدرة الإسلام في تجديد أحكامه بما يتناسب مع فكره الأصيل وحاجة الواقع، ولا يخفىٰ ما في ذلك من قطع لطريق الممتعض والمعترض عليه، نستعرض تصنيفاً قرآنياً للمرأة، يمكن تقسيمه إلىٰ ثلاثة شُعَب:

الأولىٰ: الآيات التي ساوت بين الرجل والمرأة.

الثانية: الآيات التي أبرزت تفاوتاً وبنحو قد يُفهم منها مفاضلة الرجل علىٰ المرأة.

الثالثة: الآيات التي أبرزت تفاوتاً وبنحو يُفهم منها مفاضلة المرأة علىٰ الرجل.

وأمّا الصنف الأول، فقد جاء فيه ومن جهات عدة التالي:

الأولىٰ: (تساويهما في سكن الجنة وبنحو امتثال آداب استيطانها والحذر من غواية عدو يزلهما لإخراجهما منها):

قال تعالىٰ: ﴿وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلىٰ حِينٍ﴾ (البقرة: 35-36) وكذلك يجدر الإشارة إلىٰ أن نسبة الخطيئة لم تكن لأحدهما، بل إليهما علىٰ حدٍ سواء.

الثانية: (تساويهما في الجزاء الأخروي):

قال تعالىٰ: ﴿فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثىٰ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ﴾ (آل عمران: 195).

الثالثة: (تساويهما في مبدأ الحق – حيث يشتركان في مجموعة حقوق متبادلة ويتحتم علىٰ كل منهما مراعاتها -):

قال تعالىٰ: ﴿لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً﴾ (النساء: 7)، وقال تعالىٰ: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ…﴾ (البقرة: 228).

الرابعة: (تساويهما في الخلق):

قال تعالىٰ: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَساءَلُونَ بِهِ وَالْأَرحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ (النساء: 1).

الخامسة: (تساويهما في أصل الاشتراك بالإرث):

قال تعالىٰ: ﴿لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً﴾ (النساء: 7).

السادسة: (تساويهما في أصل الاشتراك في عنوان الاستضعاف):

قال تعالىٰ: ﴿وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ﴾ (النساء: 75).

السابعة: (تساويهما في عقوبة السرقة):

قال تعالىٰ: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا…﴾ (المائدة: 38).

الثامنة: (تساويهما في نسبة الصفات – سواء السلبية أو الإيجابية -):

قال تعالىٰ: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة: 71).

وقال تعالىٰ: ﴿الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ﴾ (التوبة: 67).

التاسعة: (تساويهما في المقام المعنوي والذي يعبر عنه بالحياة الطيبة):

قال تعالىٰ: ﴿مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً﴾ (النحل: 97).

العاشرة: (تساويهما في العقوبة الجزائية):

قال تعالىٰ: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ…﴾ [النور: 2].

وأمّا الصنف الثاني، والذي يكون مادة للإشكال والاعتراض، فيمكننا استعراضه وعلىٰ أساس من التبويب بالنحو التالي:

أ – آيات في البعد العقائدي:

1 – (تفضيل الذكر في ابتداء الخلق)، قال تعالىٰ: ﴿إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ﴾ (ص: 71-72)، وبقرينة السياق ﴿فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ﴾، فإن بعد الخلق يأتي أمر سجود الملائكة لذلك المخلوق الذي كان هو آدم (عليه السلام) بدلالة الآية ﴿وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ (البقرة: 34)، فكان النبي آدم (عليه السلام) هو أول من خُلِق ثم لحقته حواء بالخلق.

2 – (تفضيل الذكر في جعله خليفة)، قال تعالىٰ: ﴿وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً…﴾ (البقرة: 30).

3 – (تفضيل الذكر في أمر الملائكة بالسجود له دون الأنثىٰ)، قال تعالىٰ: ﴿وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ…﴾ (البقرة: 34).

4 – (تفضيل الذكر في اختصاصه بالنبوة والإمامة ولم يعط هذا المقام لامرأة قط حتَّىٰ مريم العذراء (عليها السلام) والسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)).

قال تعالىٰ: ﴿وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ…﴾ (الأنبياء: 7).

قال تعالىٰ: ﴿وَإِذِ ابْتَلىٰ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً﴾ (البقرة: 124)، ومن الثوابت في عقيدة المسلمين أن الأنبياء والأئمة لا يكونوا إلّا رجالاً.

5 – (استنكاف نسبة الأنوثة إلىٰ الله سبحانه أو الإشارة إليه بصيغة الذكورة)، قوله تعالىٰ: ﴿أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً﴾ (الإسراء: 40).

وقوله تعالىٰ: ﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثىٰ * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزىٰ﴾ (النجم: 21-22).

وقوله تعالىٰ: ﴿اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ﴾ (البقرة: 255).

وقوله تعالىٰ: ﴿اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرضِ﴾ (النور: 35).

ب – آيات في البعد الفقهي:

1 – (تمييز الرجل جنسياً):

قال تعالىٰ: ﴿فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنىٰ وَثُلاثَ وَرُباعَ…﴾ (النساء: 3).

للرجل حق الزواج الدائم بأربع – في حياة زوجاته – وأمّا الزواج المؤقت (المعروف عند الإمامية بالمتعة وعند أبناء العامة الكثير مما يشبهه ولو بتسميات أخر) فهو غير محدود العدد، كما يحق للرجل الزواج ليلة وفاة زوجته.

أمّا المرأة فلا يُسمح لها شرعاً بذلك حال حياة زوجها، وقد ذكروا أن المانع المتصور من ذلك (هو اختلاط الأنساب) ولكن يمكن معالجته بفحص (DNA)، كما يمكن تنظيم شأن العلاقات الأسرية كما هو الحال في تنظيم الشرع لحال الرجل في حال التعدد.

إضافة إلىٰ منع زواج المرأة بعد وفاة زوجها إلّا بعد مضي مدة معلومة في علم فقه الشريعة.

2 – (تمييز الرجل بالعصمة الزوجية):

قال تعالىٰ: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ…﴾ (البقرة: 229-230).

قال تعالىٰ: ﴿لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ…﴾ (البقرة: 236).

وهي من المواضيع الشائكة والمشاكل الاجتماعية المتكررة، حيث رغبة المرأة بالانفصال، وقد يكون لضرورة مع ممانعة الرجل وتعنّته، فورد الإشكال علىٰ هذا النحو من التشريع حيث تُعطىٰ كل الصلاحيات بيد الرجل (النكاح – الإمساك – التسريح – الطلاق – استبدال زوج مكان زوج).

3 – (تمييز الرجل مالياً):

قال تعالىٰ: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ﴾ (النساء: 11-12).

والإشكال من البعض علىٰ أساس: أن كل آيات الإرث وما استنبط منها من أحكامه في الفقه الإسلامي تجعل حصة المرأة (زوجة أو ابنة أو أماً أو أختاً) نصف حصة الرجل وأن ما قيل من رد علىٰ ذلك (بكون الرجل هو المسؤول عن الإنفاق حتَّىٰ لو كان محدود الدخل وكانت الزوجة ثرية، فيكون واقع الحال أن التشريع الاقتصادي متحيز للمرأة دون الرجل)، فإننا نرىٰ أن هكذا تعميم ممتنع، حيث الكثير من النساء يتحمّلن مسؤولية الإنفاق وتخلف الكثير من الرجال عن مسؤولياتهم… ومن هنا نجد القوانين الوضعية المدنية في الدول المتقدمة قد عالجت هذه القضايا علىٰ أساس المساواة في المسؤوليات والحقوق! إذن تشريع الدين لا يُنصف المرأة من جهة، وأنه يعتمد علىٰ النظرية دون الواقع العملي المعالج لحاجات المجتمع من جهة أخرىٰ.

وإن قيل إن الله سبحانه غير مسؤول عن سوء تطبيق المسلمين لأحكامه، إذن لا يصح إعابة نظرية (كارل ماركس) الاشتراكية المثالية‼

4 – (تمييز الرجل في القيادة والرئاسة):

قال تعالىٰ: ﴿الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَىٰ النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ﴾ (النساء: 34).

وجاء الإشكال في ذلك:

للرجل القوامة والطاعة الواجبة علىٰ الزوجة، فإذا كان مبرر ذلك أفضلية الرجل علىٰ المرأة في وعيه الاجتماعي وفي ملكاته وقدراته أولاً، وفيما ينفق من ماله علىٰ الأسرة ثانياً، فماذا لو كانت الزوجة في موارد هي الأفضل وعياً وذكاءً وثقافة وخبرة اجتماعية وقدرات إدارية، وكانت تعمل وهي من تُنفق علىٰ الأسرة؟!

5 – (تمييز الرجل في معالجة أخلاقية):

قال تعالىٰ: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ…﴾ (النساء: 128).

وقال تعالىٰ: ﴿وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً…﴾ (النساء: 34).

والإشكال قائم علىٰ التمييز بين نحوين من علاج نشوز الرجل والمرأة، ففي حق الأول ورد الإصلاح، دون الثاني الذي جاء فيه الوعظ ثم الحرمان من الممارسة الجنسية وأخيراً الضرب.

وفي ظاهرة أخرىٰ، قال تعالىٰ: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً * وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً﴾ (النساء: 15-16).

وكذلك في هذه الآيات المباركات عند تحديد العقوبة علىٰ ممارسة الفاحشة فيه نحو من التمييز إذ إن عقوبة النساء السجن المؤيد ﴿حتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ﴾ في بيوتهن، أمّا الرجال فمجرد إيذاء لم تذكر ماهيته، ثم منحهم فرصة إصلاح النفس ومغادرة تلك الممارسة، نعم قد ذكرت الآية مخرجاً آخر للمرأة الفاحشة والذي عبّرت عنه بـ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً﴾ ولكنها لم تفصح عنه.

6 – (تمييز الرجل في نعيم الجنة):

قال تعالىٰ: ﴿وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ * ذَواتا أَفْنانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ * فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ * فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ * مُتَّكِئِينَ عَلىٰ فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَىٰ الْجَنَّتَيْنِ دانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ * فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ…﴾ (الرحمن: 46-57).

ويعترض المستشكل علىٰ أساس أن ما يبشر به (من خاف مقام ربه) هو أن فيهن قاصرات الطرف… إلخ من النعيم، فماذا عن المرأة المؤمنة التي تخاف مقام ربها؟

وإن قيل: إنما لم يذكر للأمن من خدش حياء المرأة.

قلت: نفي الحياء ينبغي أن يكون سارياً للجنسين أيضاً.

وكذلك كان التمييز واضحاً في قوله تعالىٰ: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ * عَلىٰ سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ * وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ…﴾ (الواقعة: 10-23).

(فالسابقون) و(المقربون) هم الرجال دون النساء بقرينة (وحور عين) وهي أحد النعم التي جاءت ضمن تعداد جزائهم.

وكذلك في قوله تعالىٰ: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً * حَدائِقَ وَأَعْناباً…﴾ (النبأ: 31-36) إلخ من النعم.

ج – (آيات في البعد الفكري):

1 – (تبعية المرأة للرجل):

ذكر المستشكل عدة نماذج من الآيات التي يدعي فيها أن المرأة قد ذكرت بنحو التابعة للرجل وليست كشخصية مستقلة، ولعلها تكاد تكون لم تذكر أصلاً بنحو المستقل، وهذا يدل علىٰ عدم تكافأ المرأة مع الرجل، ومن جملة ما قال:

قال تعالىٰ: ﴿وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ…﴾ (الأعراف: 19) ورغم تكرر ذكر (آدم وزوجه) في القرآن إلّا أن (حواء) لم تذكر بالاسم.

وقوله تعالىٰ: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ (الأعراف: 189).

ولكون قصة الخلق في الأديان الإبراهيمية تفترض أن خلق الإنسان الأول هو آدم (عليه السلام) (الإنسان الذكر) ومن ثم خلق منه حواء.

ولكون مصطلح (الزوج) في القرآن الكريم يعني غالباً الزوجة، فيكون المعنىٰ: أن الله تعالىٰ خلق آدم (الذكر) ثم خلق تبعاً له من نفسه أنثاه حواء، وأن قوله: ﴿فَلَمَّا تَغَشَّاها﴾ قرينة علىٰ ذلك، فيكون المعنىٰ أن الله سبحانه خلق آدم أولاً ثم خلق من آدم حواء، ثم كان سائر الناس، وهذا يؤكد أصالة الرجل.

2 – (مخاطبة المرأة من خلال الرجل):

قال تعالىٰ: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلىٰ نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ﴾ (البقرة: 187).

وقال تعالىٰ: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً﴾ (البقرة: 234).

ومن الواضح أن الآية الأولىٰ تتكلم في حكم شرعي يشترك فيه كل من الذكر والأنثىٰ علىٰ السواء، فلماذا خصت الرجل بالتصريح والمرأة بالكناية؟

وكذلك فيما يخص الآية الثانية، فرغم أن القضية تتعلق بالنساء بالدرجة الأساسية حين تترمّل فلماذا لم تخاطب هي؟ وخاصة كون أزواجهم متوفّين فلا معنىٰ لأن يخاطب الرجل الميت والمعني هو المرأة، مما يجعله الموت غير قادر علىٰ إلزامها بحكم.

وهناك آيات كثيرة في هذا المضمار.

3 – (تفضيل الرجل علىٰ المرأة):

قال تعالىٰ: ﴿وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (البقرة: 228).

وفيها يقول المستشكل: فما هي يا ترىٰ هذه الدرجة؟ وما هو مقدارها، وأين تكون الدرجة التي يعلو بها الرجل علىٰ المرأة؟ وإذا قيل للرجال تميز عن النساء في بعض الخصائص، فإن للنساء تميّز عنهم أيضاً في خصائص أخرىٰ فلماذا رُفعت درجة الذكور عن الإناث؟

وقال تعالىٰ: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرىٰ﴾ (البقرة: 282).

يقول المستشكل في نقد الآية الكريمة:

إن الشهادة تتطلب:

1 – ذاكرة قوية (وبالتالي ضرورة السلامة من مرض عقلي، والاتصاف بدرجة ذكاء مقبولة).

2 – حسن نية وإرادة إحقاق الحق.

وأن ضلال المرأة الذي تذكره الآية – والذي معناه النسيان بقرينة ﴿فَتُذَكِّرَ﴾ -، بنحو علة شهادتها المنقوصة، قد يدفع إلىٰ الاستنكار من جهتين:

أ – الدليل العلمي علىٰ كفاءة المرأة العقلية، فقد توصل العلماء إلىٰ أن النساء يستخدمن فُصَّي المخ بكفاءة في حين أن الرجال لا يستخدمون سوىٰ الفص الأيسر فيما يخص الذاكرة، وكذلك فإن ذاكرة النساء تحفظ بشكل تفصيلي بمعنىٰ الاهتمام بحفظ التفاصيل الدقيقة وبخلاف ذلك الرجال، وقد نُشِرَت دراسة علمية (نتاج بحث علماء المخ والأعصاب في جامعة بنسلفانيا الأمريكية باستخدام أجهزة تشخيصية والعديد من التجارب علىٰ (949 شخص) ومنهم (521 امرأة) و(428 رجل))، خَلُصَت إلىٰ أن المرأة تمتلك ذاكرة أقوىٰ بكثير من تلك التي عند الرجل فيما يخص الكلمات والوجوه وكذلك في الذكاء الاجتماعي، في حين يتفوّق الرجل علىٰ المرأة في سرعة معالجة المعلومات، وبذلك لو وَقع حادث ما، فإن الرجل أسرع من المرأة في رد فعل المعالجة، ولكن المرأة أقدر علىٰ وصف الأحداث وتغطية رواية التفاصيل.

ب – الوضع الاجتماعي العام: فمع وجود نساء عالمات ومتعلمات وتخلف الكثير من الرجال وسذاجتهم يُرَجّح القول وبلا تردد بأفضلية المرأة علىٰ استذكار الواقعة ووصفها وتقييمها.

4 – (ذكر أسماء للرجال دون النساء في القرآن الكريم دلالة علىٰ احتقار المرأة):

لقد ذكر في القرآن الكريم ما يقارب (40 رجلاً) بأسمائهم، وأمّا النساء فلم تذكر باسمها إلّا واحدة فقط لا غير وهي مريم العذراء (عليها السلام)!

5 – (الرجال هم المعنيون بمصطلح الناس والقوم…):

قال تعالىٰ: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ…﴾ (الحجرات: 11).

إن مصطلح القوم لو كان شاملاً للرجال والنساء، لَما ذُكرت النساء بعد ذكر القوم! ولو قيل إنه من ذكر الخاص بعد العام، فيمكن أن يقال: يفترض وضوح كلام الخالق، ورفعاً للبس الذي يمكن أن يكون مادة لإشكال المستشكل، ومن لوازم الحكمة دفع الريبة والغيبة.

وقال تعالىٰ: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ…﴾ (آل عمران: 14).

ولو كان مصطلح الناس شاملاً للرجال والنساء لما ذُكرت النساء بعد ذكر الناس.

وقال تعالىٰ: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارىٰ حتَّىٰ تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حتَّىٰ تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ…﴾ (النساء: 43)، لو كان مفهوم ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يشمل كلاً من الرجال والنساء لقيل مثلاً: (أو لامس الرجال منكم النساء أو النساء الرجال).

وقوله: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ…﴾ (الأحزاب: 49)، وهذا نص آخر يؤكد أن المقصود من مصطلح ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الرجال وليس أعم منه.

ما ذكرناه من آياتٍ إنما كان علىٰ لسان المستشكل الذي توهَّم منها واقع المفاضلة والمحاباة للذكر علىٰ حساب الأنثىٰ، ولكننا لا نرتضي هذا الفهم المغلوط لجهاتٍ عدة نجمعها في عنوانين للرد، وتفنيد ما ذُكِر [الرد العام والخاص] وإليك الأول:

أولاً: تفهّم الثابت والمتغير في الشريعة الإسلامية:

تعتمد القراءة الصحيحة للنص الديني علىٰ أسس معرفية ومنهجية قبلية لصيانة الفكرة من الوهم والخطأ، لتقويمها بالأسس العلمية العامة، ويعتبر مبدأ الثابت والمتغير – وبنحوه المعتدل – من ذلك.

وبداية قد يتّجه السؤال إلىٰ ضرورة بحثه، وعلاقته في حالات وحاجات المرأة وما نحن بصدده، فيعتمد توجيه ذلك علىٰ فهم الطبيعة للدين الإسلامي، إذ إنه يمتاز بسمات أربعة مهمة:

1 – الدين الكامل ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ (المائدة: 3).

2 – الدين الخاتم ﴿كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ (الأحزاب: 40).

3 – الدين العام للبشرية ﴿وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ﴾ (سبأ: 28).

4 – الدين الغير قابل للنسخ بغيره ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ﴾ (آل عمران: 19).

وهذا النحو من الكينونة يفرضه نحو دين ينسجم مع كل زمان ومكان، متّسعاً لمتغيراتهما جاهزاً لاستقبال التكامل والتطورات العارضة علىٰ الفرد الإنساني، ومع البون الشاسع بين المرأة في عصر النزول ومرأة قطعت البشرية إليها أشواطاً من العلم والمعرفة والتطور والتغيير في الفكر والثقافة والحياة بأبعادها المختلفة، تبقىٰ الدعوىٰ علىٰ التناسب والموائمة بينها وبين الدين لنقف علىٰ وسط بين طرفين، فالفكر الحداثوي لا يؤمن بالثبات مطلقاً، والفكر الإسلامي التقليدي لا يرتضي التغيير مطلقاً، وبينهما تقع الرؤية التجديدية المعتدلة.

الدين ثابت ومتغير:

إن ملاك التقسيم إلىٰ ثابت ومتغير هو الخضوع للزمكان أو امتناع ذلك، وينقسم الدين إليهما فمنه ما هو عنصر ثابت كالعقيدة والقيم، من قبيل الأصول الوحدانية والعدل والنبوة والإمامة فهي حقائق معنوية غير خاضعة للزمان والمكان، وكذلك القيم فهي الأخلاق التي يتفق العقلاء علىٰ حسنها الذاتي أو قبحها الذاتي كحسن العدل والأمانة والصدق، وقبح الظلم والخيانة والكذب وهي قيم أقرها الإسلام وهذّبها ورسّخها فطبيعتها من الثوابت وبخلاف ذلك القوانين والأحكام الفقهية فهي أمور يقبل واقعها التغيير ولذلك قُدِّمت أطروحة تقسيمها إلىٰ ما هو ثابت وما هو متغير بالبيان التالي:

1 – يمرُّ الدين الإلهي بمرحلتين:

أ – عالم الثبوت.

ب – عالم الإثبات.

وفي عالم الثبوت إنما يكون التشريع من خلال قناتين:

الأولىٰ: من خلال الباري سبحانه حيث شرَّع دينه وفق المواصفات التي ذكرناها آنفاً (الكامل – الخاتم – العام – غير قابل للنسخ بغيره) مما استدعىٰ ذلك تشريعه علىٰ أساس الثبات الذي أحد مفرداته التغيير في مساحة منه ليكون مناسباً للزمان والمكان المختلفين.

الثانية: من خلال تنصيب خلفاءه وولاته (محمد وآل محمد (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم)) الذين بهم كان إكمال الدين ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ…﴾ حيث يمتد بهم التشريع ليكون التراث الروائي عِدلاً للقرآن الكريم ولا يتم الوقوف علىٰ أمر الله سبحانه إلّا بهما معاً.

أمّا عالم الإثبات فهي القناة التي تتحقق فيها الحركة العلمية التخصصية للفقيه، ومن الواضح لا يكون فضاء تلك الحركة إلّا في غير الأحكام الدينية الضرورية والبديهية، وفي هذا الموطن انطلقت مجموعة من النظريات من قبيل نظرية (منطقة الفراغ) ونظرية (ولاية الفقيه) ونظرية العلامة الطباطبائي لتشترك في وجود مساحة مرنة من التشريع تمكّن الفقيه من خلال رؤيته الاجتهادية وذهنه الوقّاد ولمساته الفنية إلىٰ قراءة مساحة من التشريع لم تبرز بنحو القطع بل يبقىٰ الظهور فيها فاعلاً يستنبط منه الفقيه حكماً منسجماً مع ظرف الزمكان أو شرطه أو قيده، أو يُجري في دائرته المباحة – بالمعنىٰ الأعم – ولايته، مراعاة للظروف والمصالح التي تستدعي ذلك الحكم، وتلك القناة ظرفاً للمتغير والثابت.

معايير الحكم المتغير:

يمكن فرض أربعة أنواع من المعايير التي تمثل الضابطة لتغير الحكم الشرعي، وهي بالنحو التالي:

الأول: التغير المفهومي:

بمعنىٰ تغير المفهوم في الذهنية الفقهية، إذ إن عملية الاستنباط قِوامها الدليل، وقد يطرأ أثناء الحركة العلمية الاستنباطية دليل جديد أو ترتفع حجية الدليل السابق، مما يؤدي إلىٰ تغير الحكم لتغير حجيته.

ولذلك يختلف الفقهاء في فهم النص، من قبيل ما ورد في تفسير قوله تعالىٰ: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ﴾ (التوبة: 28)، فهل معنىٰ لفظ ﴿نَجَسٌ﴾ هي الشرك فتكون النجاسة معنوية وجدانية قلبية؟ أو بمعنىٰ النجاسة الخبثية؟

إذن تغير الحكم ناشئ من تغير الفهم الذي منشأه الأدوات العلمية الباحثة في الدليل.

الثاني: التغير الموضوعي:

وهو تغير الحكم لتغير خصوصيات موضوعه، كما في الصلاة واجبة، إجازة الأب شرط في صحة زواج الباكر، فقاهة الحاكم شرط في مشروعية سلطته، فهذه الموضوعات لها خصوصياتها مما تستدعي أحياناً ثبات الحكم أو تغيره، وقد قيل في توجيه ذلك:

أ – إن الملاك فيها كائن علىٰ أساس خاصية الشأن الإنساني، فمنه ثابت ومنه متغير، والأول يرجع إلىٰ فطرته التوحيدية وروحه المجردة من المادة وهذا البعد لا يتأثر بالظروف المختلفة ليخضع لها الحكم بالتغيير، والثاني فهو ما يرتبط ببدنه وطبيعته الزمكانية وفي هذا القسم تبرز الشؤون الإنسانية المتغيرة والسنن المختلفة بين الناس، وهي نظرية الثبات الإنساني والتحول البشري.

ب – إن تعيين الموضوع المتوجه إليه الحكم يعجز عن تشخيصه غير أولي الأمر من الفقهاء وبتمييزه الاجتهادي الخاص يتغير الموضوع من زمان إلىٰ آخر فتنشأ ظاهرة تغيّر الحكم تبعاً لذلك.

كما في حكم وجوب الحج فإنه حكم ثابت، ولكن قد يقع تطبيقه في زمان معين مفسدة الضرر بالمذهب الحق أو الإسلام، عندئذٍ لا يكون من الفقيه إلّا الحكم بحرمة الحج في عامه، نظراً للأصول الشرعية التي تقضي بضرورة حماية بيضة الإسلام والمذهب الأصيل، وهي نظرية التحول الموضوعي وإطلاق ولاية الفقيه.

الثالث: التغير المصداقي:

بمعنىٰ تغير الحكم لتغير مصداق موضوعه، كما في نفقة الزوجة التي يخضع تحديدها للعرف المتأثر بتبدلات الزمكان، حيث تكون مصاديق الحاجة المعاشية والزينة التجملية، والمسكن وإلخ تختلف من حين إلىٰ آخر.

الرابع: تغير الحكم بذاته:

ما بيناه سابقاً كان يرتكز علىٰ كون الثبات والتغير هو غير الحكم وأنه تابعاً لها في التغير، أمّا في هذا المعيار فيرتكزان علىٰ الحكم نفسه، وبعبارة أخرىٰ أن سبب اتصاف الحكم بالدوام أو عدمه أموراً أخرىٰ كثبات الملاك وتغيره، أو التغير والظرفية الموجودة في الحكم ذاته، ويمكن تصوير ذلك في موارد – بعضها ممتنع – وهي بالنحو التالي:

المورد الأول (تغير الحكم الأولي): وهو ما يذهب إليه أبناء العامة حيث يعتبرون أن بعض الأحكام الإلهية متغيرة لذاتها خلافاً للشيعة، وذلك بسبب المصادر المعتمدة في إنتاج الحكم الشرعي كما في المصلحة المرسلة أو تغير العرف أو الاستحسان.

المورد الثاني (تغير الحكم الثانوي)(1): من قبيل قواعد الضرر والحرج التي ترفع ثبوت الحكم الأولي في ظرف مؤقت لوجود مزاحم له، كقوله تعالىٰ: ﴿إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ…﴾ (البقرة: 173).

المورد الثالث (التغير في الأحكام الولائية): وهي القوانين الصادرة من الحاكم الشرعي لإدارة المجتمع حيث يسنّها لمقررات إجرائية تطبيقية جزئية، كما لو حكم علىٰ مباحٍ بالوجوب لاقتضاء المصلحة الاجتماعية ذلك.

المورد الرابع (نظرية منطقة الفراغ التشريعي)(2): وهي نظرية الشهيد الصدر ݞ ومفادها: أن الشارع المقدس ترك مساحة من شريعته متحررة من الإلزامات ويكون ملئها بيد العقل البشري الفقهي، ليكون تحديدها علىٰ أساس تشخيص المصالح والضرورات، وفي ذلك إبراز العنصر المتحرك للشريعة المواكبة لعلاقات الإنسان مع الطبيعة المتغيرة.

المورد الخامس (تغير الحكم وفق التزاحم الامتثالي): ويعتمد ذلك علىٰ الحكم الأهم النافذ في الأحكام الإلزامية في حال تنافي تكليفين إلزاميين في مقام العمل، ومنشأ التنافي هو عجز المكلف عن امتثالهما، فيُرجح حينئذٍ أحدهما – بحسب تفصيل مذكور في محله – كالتزاحم بين أداء الصلاة وإنقاذ الفريق، فإن إنقاذ النفس المحترمة يتقدم.

المورد السادس (ويمكن عنونته بالروية الشخصية لملاك الحكم): وهو تغير الحكم لا لشيء من الخصوصيات السابقة، كما في فرض تغير حكم شهادة المرأة وجعلها شهادة مماثلة لشهادة الرجل علىٰ خلاف قوله تعالىٰ: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ…﴾ (البقرة: 282)، وذلك لاختلاف أحوال المرأة ونشاطها الذهني والإدراكي والمعرفي، ولكن يمتنع قبول هذا المورد، لعدم الوقوف علىٰ مقاصد الشريعة في أغلب الموارد، فما هو الملاك في حكم شهادة المرأة؟ وبعد تعذر الوقوف علىٰ ذلك لم يمكن تحديد الحكم المناسب له إلّا وفق ما هو وارد من النص، لجريانه وفق ملاكات المصلحة والمفسدة المحفوظة في عالم الجعل.

وهناك موارد أخرىٰ لا يسمح إيجاز البحث من الإشارة إليها.

مدارك في أن الأصل الأولي هو ثبات الحكم الشرعي:

أشرنا كون المختار هو الوسطية بين فكرين متقابلين (التغيير أو الثبات المطلق)، وذلك يقتضي بيان المدّعىٰ وإن كان بنحو موجز لضيق المقام، ولذلك نشرع أولاً بإيراد دلائل ثبات الحكم، وبداية نقسم ما يصدر عن المعصوم (عليه السلام) وهو مصدر الوحي، والثقل الأصغر إلىٰ:

1 – ما يصدر عنه (عليه السلام) بما هو مبلّغ وواسطة في بيان الحكم الشرعي.

2 – ما يصدر عنه (عليه السلام) بما هو الحاكم أو ولي الأمر.

3 – ما يصدر عنه (عليه السلام) بما هو قاض يحكم لرفع الخصومة والمنازعة.

4 – ما يصدر عنه (عليه السلام) بما هو مرشد إلىٰ أمور واقعية تكوينية.

وبما أن للمعصوم (عليه السلام) شؤوناً مختلفة عند البيان، فإن ما يدعو إلىٰ تحديد الحكم بقيد الثابت هو ذلك الحكم الصادر من النحو الأول دون البواقي، عندئذٍ نقول:

قد التُزِمَ أن الأصل في فعل المعصوم وقوله صدوره عن شأن الرسالة والتبليغ، وكلّما انعدمت القرينة علىٰ غير ذلك فإنه يُحكم بحسب هذا الأصل بثبات هذا الحكم، وأيضاً وفق قاعدة (الاشتراك) التي تدل علىٰ أن أحكام الإسلام مشتركة بين كافة أفراد المخاطبين للمعصوم (عليه السلام)، وشاملة لجميع الأزمنة والأمكنة، ولقد قام الدليل علىٰ ذلك بالنحو التالي:

أولاً: الروايات التي دلت علىٰ استمرار أحكام الإسلام وخلودها:

الرواية الأولىٰ: عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحلال والحرام فقال:

«حلال محمد حلال أبداً إلىٰ يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلىٰ يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجيء غيره»، وهي رواية صحيحة السند.

وجه الاستدلال: ثبوت أحكام الإسلام من حلاله وحرامه بنحو لا يقبل التغيير، بقرينة الإطلاق أو العموم وعدم قبولهما التخصيص أو التقييد، وبالأخص عند ملاحظة ذيل الرواية «لا يكون غيره ولا يجيء غيره».

الرواية الثانية: ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن بيان من يؤذن له بالجهاد:

«لأن حكم الله (عزَّ وجلَّ) في الأولين والآخرين وفرائضه عليهم سواء، إلّا من علة أو حادث يكون والأولون والآخرون أيضاً في منع الحوادث شركاء، والفرائض عليهم واحدة، يُسأل الآخرون من أداء الفرائض عما يُسأل عن الأولون، ويحاسبون عما به يُحاسبون…».

وجه الاستدلال: وفق قاعدة الاشتراك، فإن حكم الله سبحانه ثابت وشامل للجميع، وعلىٰ كافة الأزمنة والأمكنة.

الرواية الثالثة: قول النبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم): «حكمي علىٰ الواحد حكمي علىٰ الجماعة».

وجه الاستدلال: إطلاق لفظ «حكمي» دلالته علىٰ الحكم الإسلامي، وشموله للأفراد والزمان والمكان.

ثانياً: الإطلاق المقامي دليل علىٰ الاستمرار، وبيان ذلك بتقريرين:

أولاً: عند بيان المعصوم لحكم فإن المقام الذي يتصدىٰ فيه إلىٰ ذلك يكون مقام تشريع إضافة إلىٰ عدم ذكره الغاية، فيتعاضد الأمران علىٰ لزوم القول باستمرار الحكم عند العقلاء.

ثانياً: أن هذين الأمرين يلزمان بحجية اللفظ علىٰ الناس كافة وفي كافة الأزمنة عند العقلاء.

ثالثاً: الارتكاز:

يستقر في وجدان عموم المسلمين أن حكمه تعالىٰ في موضوع معين إنما هو حكم لجميع البشر، فإذا تمت الاستفادة من رواية حكماً قد ثبت لمخاطبين عصر المعصوم (عليه السلام)، كان ذلك ثابتاً لنا أيضاً، وينبغي أن يكون لهذا الارتكاز منشأ، وليس هو إلّا الوحي والتشريع.

رابعاً: القضية الحقيقية هو منحىٰ للتشريع:

لا يكون جعل الحكم الشرعي إلّا بنحو القضية الحقيقية، فقوله تعالىٰ: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ…﴾ (المائدة: 1)، يدل بنفسه علىٰ أن كل من وُجِد في الخارج وكان مؤمناً وجب عليه الوفاء بكل عقدٍ صدر منه فهو مخاطب به في ظرف وجوده في عمود الزمان.

خامساً: الاستصحاب:

إن كل ما ثبت في زمن المعصوم (عليه السلام) ثم شككنا في تغيره في زماننا، فمقتضىٰ الاستصحاب بقاء ثباته (لتحقق أركان الاستصحاب اليقين السابق والشك اللاحق ووحدة الموضوع).

الدليل علىٰ خضوع بعض الأحكام الشرعية للتغيير:

ذكرنا أن الأصل الأولي في الحكم هو الثبات، إلّا إذا قامت قرينة علىٰ عدمه وخصوصية في الدليل، وهناك من القرائن ما دلت علىٰ ذلك.

وقد اعتمد البعض علىٰ قرائن تؤدي بهم إلىٰ دعوىٰ التغير بنحو مطلق وهي القرائن العامة ولكن ذلك مما لم يقم عليه دليل بمعايير علمية صحيحة، ورغم عدم قبولنا بها إلّا أننا نذكرها لاطّلاع أوسع، نعم هناك من القرائن الخاصة تثبت تغيير الحكم بنحو الموجبة الجزئية، وهي ملاحظة علمية صحيحة ويمكن قبولها، وسنأتي علىٰ بيانها لاحقاً.

إذن تنقسم القرائن إلىٰ:

أولاً: قرائن عامة.

ثانياً: قرائن خاصة.

1 – القرينة العامة:

أ – (تغير الموضوع):

فلا حكم ثابت في دائرة الموضوع المتغير، سواء حكم في موضوع متغير في زمان خاص بنحو حكم متغير، أو بنحو الحكم الكلي في الشروط المتغيرة للزمان، فهو حكم ثابت (أي حكم متعلق بموضوع متغير).

وهو صحيح فيما لو أحرزنا بقرائن إثباتية علىٰ حكم متغير أو ثابت لموضوع متغير، فقرينة (تغير الموضوع) العامة لا تكشف عن تغير الحكم دائماً وإنما يتحقق الكشف من تغير الموضوع مع قرائن أخرىٰ لتثبت التغيير أو عدمه للحكم.

ب – (عرضية الموضوع):

إن الأحكام المتعلقة بالأمور العرضية في الدين ليست ثابتة ولا أبدية، بل هي أحكام ظرفية ومتغيرة وترتبط بالأوضاع والظروف الخاصة لعصر صدور الحكم.

وقد قيل:

إن الأمور الجوهرية والذاتية أحكام كان النبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) ملزماً ببيانها في كل مكان وفي كل بيئة وزمان بخلاف أمور الدين العرضية (هي تلك التي تكون مقتضيات الثقافة والبيئة والاجتماعية والتاريخية).

وفيه: كيف لنا إثبات معرفة عرضية الدين وكيف لنا أن نفرّق الحكم المتغير عن الحكم الثابت للموضوع المتغير.

ج – (فرعية الموضوع):

كون الموضوع رئيساً أو فرعاً إنما هو باعتبار أهداف الدين.

فالمدار علىٰ الأهداف، وأن تأمين السعادة الأخروية هو الهدف الرئيسي للدين، وأن إدارة الشؤون الدنيوية للمجتمع هو الهدف الفرعي للدين.

والخلاصة فيه: أن الشارع المقدس لم يَعزم إرادة التحدث عن الأمر الفلاني بشكل مستقل ولكنه أُجبِرَ أو رأىٰ الصلاح في التحدث عنه من أجل الوصول إلىٰ الهدف الرئيس، وكل حكم يرتبط بموضوع في دائرة فرعية الموضوع يصير حكماً متغيراً.

وفيه: كيف يمكن إثبات الصغرىٰ والكبرىٰ؟

د – كون الموضوع من المدركات البشرية:

الموضوع الديني يتمتع بخصوصيتين:

أ – ارتباطه بسعادة الإنسان.

ب – لا يكون الاطلاع علىٰ هذه الموضوعات بالطرق العادية وعليه فالموضوع (كالصحة والطب) هو بمقدور العلوم البشرية فيكون الحكم فيه متغيراً.

وعلىٰ الإنسان أن يأخذ هذه القيم من القوانين الأخرىٰ وينظمها بما يتناسب مع محيطه الطبيعي والاجتماعي ويجعلها تتواءم مع الظروف والشروط المتغيرة في كل زمان ومكان.

وفيه نظير ما تقدم.

هـ – عرفية الموضوع: أي إذا كان موضوع أحد الأحكام موضوعاً عرفياً، والعرف في حالة تغير وتبدل دائم فالحكم كذلك.

وفي مقام الرد: فهذا المسمىٰ عندنا بمناسبات الحكم والموضوع وهو تام فيما لو استكشفنا الصغرىٰ.

2 – القرائن الخاصة: وهي كل قرينة تحدد طبيعة حكم رواية معينة، ولا يُعنىٰ بها الجزئية بل هي كل ما لا ترتبط قرينته بموضوع النص بل ترتبط بحكمه، فلا فرق في القرينة الخاصة بين أن يكون دورها مختصاً برواية واحدة، أو أنها تبين طبيعة حكم روايات متعددة ذات مواضع مختلفة، كما في (صدور الحكم تقية) فهي لا تختص برواية واحدة بل تشمل مواضيع مختلفة، إلّا أنها تعتبر قرينة خاصة لتعلّقها ببيان طبيعة حكم النص.

وهي تنقسم إلىٰ:

1 – القرائن الخاصة اللفظية.

2 – القرائن الخاصة غير اللفظية.

أمّا القسم الأول: فهي الألفاظ التي استفيد منها تغير الحكم، وهي تنقسم إلىٰ:

أ – قرينة خاصة لفظية (صريحة):

وهي النصوص التي تحدثت عن الشؤون الشخصية للنبي الأعظم (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) كما في أكله ونومه وسفره إلخ، فهي لا ترتبط به بما هو مُرسل، أو إشارته (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) إلىٰ قضية خارجية، كما في سؤال بعض الأصحاب أبا الحسن (عليه السلام) عن الطاعون يقع في بلدة وأنا فيها، أتحول عنها؟ قال: «نعم، قال: ففي القرية وأنا فيها أتحول عنها؟ قال: نعم، قال: ففي الدار وأنا فيها أتحول عنها؟ قال: نعم، قلت: فإنا نتحدث أن رسول الله (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) قال: الفرار من الطاعون كالفرار من الزحف، قال: إن رسول الله (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) إنما قال هذا في قوم كانوا يكونون في الثغور في نحو العدو، فيقع الطاعون فيخلون أماكنهم ويفرّون منها، فقال رسول الله (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) ذلك فيهم»(3)، حيث فهم الإمام (عليه السلام) أن حكم الرسول (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) لقضية خارجية لا حقيقية.

ب – قرينة خاصة لفظية (غير صريحة):

هي القرينة التي تحتوي لفظاً لا يخبر عن تغير الحكم بنحو صريح، إلّا أنه يكون ظاهراً فيه.

وهي الألفاظ الواردة في نص بمدلول (حكم) أو (قضىٰ) أو (أمر) فهي ظاهرة في شأن القضاء والرئاسة وليس في شأن التبليغ الرسالي عن الله سبحانه، باعتبار أن تلك الألفاظ لها ظهور في الأمر المولوي وحملها علىٰ الأخبار عن الحكم الإلهي خلاف للظاهر.

من قبيل ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «قضىٰ رسول الله (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) في سيل وادي مهزور أن يحبس الأعلىٰ علىٰ الأسفل للنخل إلىٰ الكعبين وللزرع إلىٰ الشراكين…»(4).

والقسم الثاني (القرينة الخاصة غير اللفظية):

وهو كل ما كان موجوداً في رواية يمكنه أن يثبت الظرفية لحكم النص، ويمكن ذكر بعض الأقسام لهذا المورد:

أ – الرواية تخالف المسلمات الفقهية:

عندئذٍ لا يمكن اعتبار حكمها هو حكم الإسلام الثابت، نعم يُعتبر حكماً مؤقتاً متعلقه زمن خاص، كما لو منع النبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) عن الإمساك في بذل الماء والكلأ، ويُفترض أن يحمل معنىٰ النهي (الحرمة)، ولكن أجمع الفقهاء علىٰ أن منع الإنسان غيره من فضل ما يملكه من العشب والماء عمل غير محرم في الشرع، فيؤدي هذا الجمع إلىٰ استنتاج ممارسة النبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) لولايته في ظرف خاص لتوجيه المنع المحرم(5).

ب – الرواية تحاكم قضية خارجية:

حيث إن حكم الدين صادر علىٰ نحو القضايا الحقيقية، فإن صدور نص حاكم بنحو القضية الخارجية يكشف عن تقيد الحكم بظرفه، وبالتالي فهو حكم متغير.

ومثاله ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «ليس الحكرة إلّا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن» حيث كانت هذه المواد في عصر صدورها هي عمدة ما يحتاجه الناس.

ج – صدور الحكم تقية:

قد صدرت في عهد المعصوم (عليه السلام) مجموعة من الأحكام بنحو التقية، وهي لا تكشف عن حكم شرعي ثابت لأنها لم تصدر عن إرادة جدية منه وإنما بنحو ألفاظ غايتها الأمن ضرر السلطان الحاكم آنذاك، فيكون ذلك قرينة علىٰ الحكم الظرفي المتغير(6).

د – قصور الحكم عن تطبيقه في حكومة الإسلام:

لا يمكن اعتبار الحكم الشرعي ثابتاً إلّا إذا أمكن سرايته التطبيقية في عهد الحكومات، سواء كانت مدينة صغيرة، أو حكومة ما بعد انتشار الإسلام، أو حكومة إسلامية عالمية كما في عهد المعصوم القائم (عجَّل الله فرجه)، لأن الحكم العاجز عن التطبيق ليس فيه قابلية تحقق وبذلك لا يمكن فرض وجوده العالمي، إذ الثبات تعني عالمية الأحكام(7).

ثانياً: المنهج المعرفي القرآني:

يتأثر فهم المفسر للنص الديني بطريقته التي يعمل عليها في محاكاة النص، وبالخلفيات المعرفية التي تتّكئ عليها مداركه ومعارفه السابقة لقراءة النص، ولأهمية هذه العوامل يتعين تسليط الضوء علىٰ المناهج والاتجاهات الفاعلة التي يتولد من رَحِمها فهم ديني يُنعت بالسلامة لركونه إلىٰ أسباب علمية صحيحة ورصينة.

الفرق بين المنهج والاتجاه (التفسيري):

تتميز طبيعة المنهج بالخطة الموضوعة لاتّباعها عند تحديد غاية معينة يُترقّب بلوغها، وبذلك يكون طريقاً للمفسر إلىٰ كشف معنىٰ الآية المباركة، والذي يتقوم بالمصادر المعتمدة للتفسير فقد يكون (قرآنياً أو عقلياً أو تكاملياً…).

أمّا الاتجاه فهو عبارة عن الخلفية التي يحملها المفسر كالثقافة والعقيدة والمعارف التي تشبّع بها ذهنه وقناعته المعرفية، وبدورها تكون مؤثرة في الفهم لمعاني القرآن ومقاصده.

ومن أهم المناهج الرصينة في تفسير القرآن الكريم:

1 – منهج تفسير القرآن بالقرآن:

وهو الطريق الذي يعتمده المفسر عند التفسير من خلال مقابلة آية مع آيات أخرىٰ من القرآن الكريم، ليكون بعضها شاهداً علىٰ بعض.

وأن الدليل علىٰ حجية هذه المنهجية التالي:

أ – القرآن الكريم، قال تعالىٰ: ﴿وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ…﴾ (النحل: 89)، وكيف يكون كتاب الله العزيز تبياناً لكل شيء ولا يكون تبياناً لنفسه!

ب – الروايات المباركات، فقد ورد عن النبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم): «إن القرآن ليصدّق بعضه بعضاً فلا تكذّبوا بعضه ببعض».

ج – السيرة العقلائية: جرت السيرة في مقام التفهيم والتفاهم علىٰ مراعاة قرائن اللفظ عند أي كلام، فإنهم يستعينون علىٰ فهمه بالنظر إليه بنحو كلي ليضمّ ما قيل بنحو عام ومطلق، وما قيل بنحو آخر خاص ومقيد، وبما أن القرآن الكريم قد نزل في بيئة العرب وعمل علىٰ محاكاتهم ومخاطبتهم فهو لن يُستثنىٰ من تلك القاعدة التي جرت سيرتهم عليها عند التفاهم، ولو اخترع الشارع المقدس طريقة أخرىٰ للتفاهم لنبّه إليها. إذن السيرة العقلائية عينها جارية في مجال فهم وتفهيم القرآن الكريم.

تطبيقات للمنهجية:

قال تعالىٰ: ﴿الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَىٰ النِّساءِ…﴾ (النساء: 34)، ولا يمكن فهم الآية المباركة في محاولة توقير الرجل وتبجيله ومفاضلته علىٰ المرأة لأنه رجل، بل لابد من فهم آخر ينسجم مع قوله تعالىٰ: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ…) (النساء: 1)، وقوله تعالىٰ: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثىٰ وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ﴾ (الحجرات: 13).

ومن خلال هكذا قراءة متكاملة للنص، وليس بنحو القراءة المستقطعة التي لا تحظىٰ بالمشهد متكاملاً، فإن الفهم المنصف يذهب إلىٰ عدم المفارقة بينهما، بل هما نفس واحدة ولا يكون منشأ التكريم والتوقير والتفضيل إلّا بالتقوىٰ.

وبذلك يخرج المفسر بفهم مختلف للآية الكريمة الأولىٰ.

مثال آخر:

ورد في قوله تعالىٰ: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ…﴾ (النساء: 128).

وقد يُتصور أن معالجة نشوز الرجل للمرأة علىٰ خلاف علاج نشوزها له، إذ فيها يكون بالموعظة وإلّا ففي هجر المضاجع وإلّا ففي الضرب وهو إجحاف لها وتفضيل له عليها.

ولكن عند قراءة آيات آخر من القرآن الكريم بجانب هذه الآية المباركة كقوله تعالىٰ: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ (البقرة: 228) يمكن الخروج بفهم مختلف تماماً، كما فسّره البعض حيث قالوا: إن للمرأة أن تهجر زوجها في المضجع أو تضربه في حال نشوزه، لدلالة الآية ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ…﴾، فهي تدل علىٰ التساوي بينهما في الحقوق والواجبات، إلّا ما خرج بدليل ولا يوجد دليل من نص أو إجماع يدل علىٰ عدم جواز أن تهجر المرأة زوجها أو تضربه وخصوصاً عند دخول ذلك في عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

2 – منهج تفسير القرآن بالسنة الشريفة:

يعمد المفسّر في طريقه هذا إلىٰ سُنَّة النبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) وأهل بيته (عليهم السلام) للوصول إلىٰ فهم دلالات القرآن الكريم وغاياته، واختلف الأعلام حول مكانة التراث الروائي في التفسير، فمنهم من أكد عدم الحاجة إليه وكفاية القرآن بذاته لعربيته، ولقدرة العقل علىٰ استكشافه، ولكنه قول مردود بالأدلة التالية:

1 – القرآن الكريم، قال تعالىٰ: ﴿وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ (النحل: 44).

2 – الرواية، فقد ورد عن النبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم): «إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي، كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتَّىٰ يردا عليَّ الحوض».

3 – العقل، فإن النبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) وأهل بيته (عليهم السلام) الأعرف بالمقاصد العليا للقرآن، فهو نازل في بيوتهم وملئت معارفهم قلوبهم الواعية الطاهرة، وأُمروا بتعليمه وتبليغه، فلن يكون غيرهم أعرف به منهم، وبذلك علىٰ من يطلب علمه أن يستعين بهم عليه.

تطبيقات:

ورد في قوله تعالىٰ: ﴿وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (البقرة: 228).

وقد يُفهم من الآية المباركة تفضيل جنس الرجال علىٰ النساء، ورفع درجتهم عليهن!

في حين اختلاف المشهد عند ضميمة بعض الروايات إلىٰ هذه الآية الكريمة، كقول النبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم): «لو كان الحُسن شخصاً لكان فاطمة، بل هي أعظم، إن فاطمة ابنتي خير أهل الأرض عنصراً وشرفاً وكرماً»، ولا شك كون الرجال ضمن أهل الأرض، فلو كانت الآية تقصد المفاضلة بين الجنسين لكانت مُعارضة بهذه الرواية.

مثال آخر:

قوله تعالىٰ: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً﴾ (النساء: 15)، وأن فهمها يتقوّم بما رواه أبو بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال: سألته عن هذه الآية ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ…﴾، قال (عليه السلام): «هذه منسوخة»، قال: قلت: كيف كانت؟ قال: «كانت المرأة إذا فجرت فقام عليها أربعة شهود أدخلت بيتاً ولم تحدث ولم تكلم ولم تجالس وأوتيت بطعامها وشرابها حتَّىٰ تموت»، قلت: قوله: ﴿أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً﴾ قال: «جعل السبيل الجلد والرجم…»(8)، يقصد (عليه السلام) قوله تعالىٰ: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ…﴾ (النور: 2).

3 – المنهج العقلي في التفسير:

وهو ما يستعان بالعقل البرهاني أو القرائن القطعية في التفسير وكشف معاني القرآن، وقد استدل علىٰ حجيته بالتالي:

أ – القرآن الكريم، وقد ورد لفيف من الآيات المباركات في الحث علىٰ التفكر والتدبر:

قال تعالىٰ: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلىٰ قُلُوبٍ أَقْفالُها﴾ (محمد (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم): 24)، وقوله تعالىٰ: ﴿إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (يوسف: 2)، وأن التدبر في فهم النص القرآني ليس بمنأىٰ عن هذا الأصل القرآني.

ب – الرواية الشريفة: عن الإمام الكاظم (عليه السلام): «يا هشام، إن لله علىٰ الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة (عليهم السلام) وأمّا الباطنة فالعقول»، وإذا كان كذلك – حجة – فإن ما يدركه من فهم قاطع للقرآن الكريم فهو حجة.

ج – السيرة العلمية: ما جرت عليه سيرة الأئمة المعصومين (عليهم السلام) في تفسير القرآن وتبعهم علىٰ ذلك المتشرعة من الصحابة والتابعين وكبار المفسرين.

وهناك أدلة أخرىٰ أحجمنا عنها طلباً للاختصار.

تطبيقات:

قال تعالىٰ: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ…﴾ (النساء: 11).

وقد حكم العقل القطعي تنزّه الساحة الإلهية عن الظلم، فلا يمكن صدور تشريعه سبحانه بنحو إجحاف المرأة، وهضم حق لها، لأن صدور الظلم لا يكون إلّا من ضعف أو خوف الفوت أو الحق الباعث علىٰ الانتقام، وقد ثبت لدىٰ العقل بالدليل أن واجب الوجود لا يمكن أن يتصف بأي من تلك النقائص.

وكذلك لا يمكن عقلاً صدور التشريع بنحو العبث ومجرد التمييز بين الجنسين دون حكمة تدعو إلىٰ ضرورة ذلك ضمن الحفاظ علىٰ النظام الاجتماعي.

إذن يدعو العقل إلىٰ فهم حكم الميراث بنحو من التعقل الذي ينسجم مع مواصفات العدل والحكمة للباري سبحانه، عندئذٍ لا داعي إلىٰ الحزازة، أو شعور بالحيف.

ونأتي إلىٰ بيان تأثير ذوق المفسر لخلفياته الثقافية المختلفة التي ترمي بظلالها علىٰ عملية التفسير للنص الديني، وهو ما يصطلح عليه بتوجّهات المفسر والاتجاه المتأثر به عند قراءاته، وتنقسم إلىٰ:

1 – الاتجاه الكلامي: الذي يتبلور بشخصية المفسر في اهتمامه بتفسير آيات العقائد والآيات المتشابهة، والسعي إلىٰ إثبات عقدياته ونفي غيرها.

ومن النماذج علىٰ ما ذكرنا، قوله تعالىٰ: ﴿وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ…﴾ (البقرة: 34)، وقد يتبادر إلىٰ الذهن عن علة السجود لآدم (عليه السلام) رغم وجود شريكته بالخلق الأول (حواء)، فهل من موجب للتفريق بينهما في التكريم؟ ولكن التدبر بمجموع الآيات التي وردت فيها واقعة السجود يهدي إلىٰ كون الخطاب الإلهي إنما هو موجّه للنوع الإنساني والجنس البشري، ولم يكن آدم (عليه السلام) مقصوداً به كفرد وإنما ممثلاً له لكونه المخلوق الأول للنوع، فيكون السجود لآدم (عليه السلام) سجوداً لحواء ولسائر النوع الإنساني الرباني، وإلىٰ ذلك يشير قوله تعالىٰ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ [أي النوع الإنساني] ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ…﴾ (الأعراف: 11).

وننبّه إلىٰ تعدد الاتجاهات (الكلامية أو غيرها مما سنذكر) ولكننا نقصد أحدها عند البيان وهم الإمامية.

2 – الاتجاه الفقهي: وهو تأثير ذوق المفسر بخلفياته الفقهية في عملية التفسير لكتاب الله العزيز، وتعتبر آيات الأحكام هي أكثر اهتمامات هذا الاتجاه، حيث تتضمن أحكاماً فقهية تكشف عن التكليف الذي يُعنىٰ به الفرد في حياته، ولا يغفل المفسر هنا الاستعانة بالقرائن العقلية والنقلية عند التفسير والاستفادة من المناهج المختلفة، كتفسير القرآن بالقرآن وتفسير القرآن بالسنة وهي أعم من سنة النبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) وأهل بيته (عليهم السلام)، فهم حجة الله بحسب عقيدة الإمامية.

ومن النماذج علىٰ ذلك:

قوله تعالىٰ: ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ (النساء: 24)، وهي من الآيات الدالة علىٰ جواز زواج المتعة، وكذلك دلت عليه السنة المباركة فقد أخرج البخاري ومسلم، وأحمد، وغيرهم عن عبد الله بن مسعود قال: كنا نغزو مع رسول الله (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) ليس لنا نساء، فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلىٰ أجل، ثم قرأ عبد الله: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [المائدة: 87].

وليس إباحة استمتاع الرجل بعدد غير محدود من النساء نوع من استنقاص المرأة بجعلها مادة لاستفراغ رغباته الجنسية اللامحدودة، بل إن حصر ما يسد حاجة الإنسان بصنف واحد من الزواج الشرعي فيه مفسدة وقصور عن تحصين المجتمع من الوقوع في الرذيلة والمشاكل الكبرىٰ، ثم إن فرض توفير أسباب سهلة (تتغلب علىٰ الصعوبات المجتمعية) من الاستمتاع الذي يتم به إشباع حاجة بشرية، لا يقتصر علىٰ الرجل بل يعم المرأة غاية الأمر أنها تنضبط بقوانين تحفظ العفة، وبها يكون التميّز عن الزنا والفجور.

3 – الاتجاه الفلسفي: وهو تأثير خلفيات المفسر في عملية تفسيره، وتكون جل اهتماماته الآيات المتعلقة بوجود الله سبحانه وصفاته وأفعاله، وتأويل ظواهر القرآن بما ينسجم مع الآراء الفلسفية، والاهتمام بالآيات الفاعلة في تأييد الرأي الفلسفي.

ولا تخلو معطياته التفسيرية من الاستفادة المنهجية المختلفة، كالمنهج العقلي وتفسير القرآن بالقرآن أو بالسنة.

وكمثال علىٰ ذلك الآيات القرآنية التي تقدمت في صدر البحث، والتي قد يُفهم منها تبعية المرأة للرجل أو مخاطبتها من خلاله لفقدانها الأهلية، أو كون الرجال هم المعنيون في مصطلح الناس والقوم وإلخ، ولكن المتخصص بالتفسير الذي يناط به الفهم الصحيح، وباتجاه فلسفي، تكون قراءته علىٰ أساس:

إن الوجود خير بمختلف تمظهراته والمرأة من حيث انتسابها الحرفي للباري سبحانه فلا فرق بين وجودها الحرفي وبين الوجود الحرفي الذكوري فكلاهما وجود حرفي، وبلحاظ آخر فهي وجود اسمي كما هو الذكر فلا فرق بينهما من هذه الجهة أيضاً إلّا بالعوارض المشخصة، ولا يعتبر العرضي بمثابة الفصل، نظير قولنا زيد وعمر بينهما اختلاف في عوارضهما المشخصة ويشتركان في الحقيقة الوجودية، وكذلك الرجل والمرأة فهما يشتركان في الحقيقة الوجودية التي هي منشأ الكمال وهي الخير وأمّا الفوارق التي لا دخالة لها في الخيرة فلا تُعَد من موجبات المنقصة أو الزيادة، ولذلك نجد القرآن الكريم أشار إلىٰ هذه الحقيقة الوجودية ضمن النسيج الاجتماعي ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثىٰ وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ﴾ (الحجرات: 13)… وكذلك: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ (الأعراف: 189) وكثرت الآيات التي عبرت عن المرأة علىٰ أساس أنها وجود مستقل وليست التبعية أو الفرعية كما في (الآية 12 ممتحنة)، (توبة 71)، (35 الأحزاب)(9).

ثالثاً: قراءة في معالجات الفقه الإسلامي لمشاكل المرأة:

بعد البيان المتقدم يجدر استعراض مشكلات للمرأة كنموذج توضيحي يبلور التفاعل الديني الإيجابي والمنصف معها، ومن خلال خطوات افتراضية:

1 – للبنت علىٰ والدها حقوق اختيار الوالدة الصالحة مسبقاً لتأمين حضانة مثالية تُجيد رعاية وجودها الإنساني من حين انعقاد النطفة ومروراً بالحمل والرضاعة وحق المراحل التربوية المتعددة.

2 – للبنت علىٰ والدها تحسين اسمها، والإنفاق علىٰ مختلف حاجاتها الجسدية والمعنوية من التربية والتعليم، وحماية أموالها الخاصة فهو أمين عليها إلىٰ أن يدفعها إليها عند بلوغها الرشد.

3 – للبنت علىٰ والدها عدم تفويت مصلحتها في الزواج من الكفء لها، ولذلك يطلب الإسلام إذنه عند عقد الزواج لإحراز سلامة اختيار الزوج الصالح لها.

4 – لا ولاية للأب علىٰ ابنته إلّا في مقدار إذنه في تزويجها مادامت باكر، وإذنه في إمضاء معاملاتها الاقتصادية مادامت قاصراً غير راشدة، لتأمين السلامة لها.

5 – للزوجة علىٰ زوجها حين عقد الزواج اشتراط ما ترغبه من الشروط بما يناسب المقتضي، كشرط السكن بنوع خاص، أو التعليم، أو العمل خارج المنزل، أو غير ذلك.

6 – للزوجة علىٰ زوجها توفير كافة احتياجاتها المعاشية المختلفة من السكن والمأكل والمشرب والعلاج وكافة الضرورات بما يناسب شأنها والعرف.

7 – ليس للزوج إجبار زوجته علىٰ الأعمال البيتية علىٰ خلاف العرف.

8 – ليس للزوج إجبار زوجته علىٰ الحمل والولادة، نعم في حال عدم رغبتها يتعين عليها اتخاذ تدابير منع الحمل.

9 – للزوجة علىٰ زوجها احترامها وتكريمها والمبيت عندها لا أقل مرة كل أربعة أيام ومقاربتها الجنسية بما يحفظ عفتها وحاجتها إلىٰ ذلك.

10 – لو تخلف الزوج عن حقوق الزوجة من الإنفاق أو الاحترام أو المقاربة، فللزوجة مطالبته بالمفارقة في حال كون العصمة بيده، إلّا إذا كانت بيدها بحسب ما اشترطته هي عليه أثناء العقد.

11 – لو تخلف الزوج عن الحقوق الآنفة الذكر، فللزوجة شكواه إلىٰ الحاكم الشرعي ليجبره علىٰ الامتثال لحقوقها عليه، وفي حال تخلفه كان للحاكم سجنه أو تطليقها منه إن رغبت.

12 – ليس للزوج الافتقار بترك ما يؤمّن له النفقة، ولو فعل ذلك، كان للزوجة أخذ نفقتها من بيت المال فهي غير مجبورة علىٰ العمل لتأمين حاجتها.

13 – في حالات خاصة للحاكم الشرعي – كما ذكرنا – النظر في الظروف الخاصة للمرأة وبنحوها الخاص ليحكم لها وفق مقتضيات عناوين تناسب تلك الظروف، كما لو كان حكمها في التوريث أو الإشهاد أو الدية أو غير ذلك كما هو الحال للرجل.

رابعاً: مناقشة المحاذير المتصورة علىٰ التشريع:

إن ما يخالط الفهم الديني (عند قراءة النصوص التي تتناول عنواناً للمرأة) من استنكار أو استهجان أو استقباح – وكما بينّا نماذج لذلك – إنما يُتصور من التالي:

1 – محذور مقولة الظلم.

2 – محذور مقولة العبث.

وهما واقعان للدعوة إلىٰ ضرورة إنسانية، ومفردة قيمية، لا يستقر النوع الإنساني إلّا بها وهي مقولة العدل المقابل للظلم، وهو منشأ المشاكسة والاعتراض والتذمر.

وبالتالي: هل تناول القرآن الكريم المرأة علىٰ أساس الظلم والإجحاف؟ أو تناولها بنحو عادل؟

وبداية لابد من توضيح المبدأ التصوري لمعنىٰ العدل، والذي قُرِّر بمعنىٰ: إعطاء كل ذي حق حقه أو كما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «العدل يضع الأمور مواضعها» وهو معنىٰ الحكمة الذي قد يأتي كأحد معاني العدل.

فإذا كان العدل هو إعطاء للحق، فما هي مقولة الحق؟ وما هو الملازم له؟

إن البحث التحليلي في هذا المعنىٰ يأخذ بأيدينا للوقوف علىٰ حق المرأة واستيعاب القرآن الكريم لحقها ليكون عاملاً بمبدأ العدل، وإلّا فهو انشطار عن هذا المبدأ الإنساني.

ومن هنا نشير إلىٰ المطالب التالية:

أ – الحق والواجب والعلاقة بينهما:

عُرف الحق لغة: بأنه الثبات.

أمّا اصطلاحاً فنستعرض فيه:

أولاً: الاصطلاح القانوني الذي جاءت فيه نظريات متعددة:

1 – نظرية الإرادة (الشخصية): حيث عرَّفها (سافيني) علىٰ أن الحق هو السلطة الإرادية وهي تنشأ في ظل القانون الوضعي، فهو يضع حدوداً ومساحات لحركة الفرد لتسود فيها إرادته وبنحو مستقل عن الإرادات الأخرىٰ، وبذلك تكون إرادة الشخص نافذة في استعمالها ضمن المنحة القانونية.

2 – النظرية الموضوعية: وهي نظرية الألماني (أهوينج) الذي فسر الحق بالمصلحة التي يحميها القانون، فالغاية العملية من أي حق هي الفائدة والمنفعة التي تعود علىٰ صاحبها.

3 – النظرية المختلطة (الحديثة): بعد انتقاد النظريات السابقة في تعريف الحق سعىٰ الفقه الحديث إلىٰ بيان ما يميّزه ويكشف عن جوهره، وأن أهم ما ورد في ذلك:

أولاً (نظرية دابان): وهي ترتكز علىٰ الاستئثار والتسلط، حيث عرف الحق علىٰ أنه العلاقة الناشئة بين الشخص (صاحب الحق) والشيء (محل الملكية)، أي أنه الاختصاص بالأشياء، فيشمل الماديات والقيم اللصيقة بالشخص كحياة الشخص وحريته وسلامة بدنه… ويترتب علىٰ ذلك: التسلط علىٰ التصرف الحر في الشيء، فله رخصة التصرف في محل الحق بصفته سيداً عليه.

ثانياً (نظرية رويبيه): حيث تجمع هذه النظرية كل المراكز القانونية التي يوجد فيها الشخص، والتي تنشأ عن تطبيق قواعد القانون الجنائي، وكذلك عن بعض الحالات في القانون المدني كحالة الأشخاص أو نظام الأسرة.

4 – نظرية إنكار وجود الحق: وهي نظرية القانوني (ليون دوحي): وهو يرىٰ أن فكرة الحق فلسفية ولا وجود لها، بل لا فائدة منها، حيث إن الإرادات متساوية ووجود الحق يقتضي سمو إرادة علىٰ إرادة أخرىٰ مما يمس ذلك بمبدأ تساوي الإرادات.

وقد قدمت مجموعة نقود علىٰ كل نظرية مما مر بيانه – أحجمنا عن ذكرها تناسباً مع إجمالية البحث ويمكن مراجعة المفصلات في ذلك – وإذا كان لتحديد معنىٰ الحق خلاف بين المتخصصين القانونيين، فكيف يؤكد للمرأة بنحو مطلق وتُذَمُ شريعة علىٰ أنها لم تف به؟!

إن اختلاف القانونيين في تحديد مفهوم الحق ناشئ من اختلاف الأنساق الفلسفية والتاريخية حتَّىٰ أنه صار يهتم به في عصر الأنوار علىٰ أنه قيمة إنسانية تحدد كرامة الإنسان، ثم تنوَّع تداوله بعد ذلك في مناحي الحياة، فاهتمت به الفلسفة والسياسة والاقتصاد، إلخ، وارتبط بمفاهيم العدالة والحرية والواجب… وبقية القيم التي تحقق إنسانية الإنسان، وكل ذلك يكشف عن التحول في معاني مفهوم الحق فلسفياً، مما ينجم عنه التأثير علىٰ المفهوم القانوني وبحسب متغيرات الزمان والمكان.

ثانياً: الاصطلاح الفقهي(10):

يعتبر المفهوم الفقهي للحق أخص من المفهوم اللغوي، وهو ما يبتني عليه الأحكام الشرعية.

ولا يمكن في تحديده الاعتماد علىٰ النص الشرعي كحال غيره من المفاهيم لعدم وجود نص صريح يحدد مفهوم الحق، نعم يمكن معرفته بالرجوع إلىٰ تقريرات الأعلام من الفقهاء لكون كلماتهم مستمدة من مجموع النصوص الخاصة والعامة.

قد ذكر الأعلام عناوين عدة تُشخص الحق وبالنحو التالي: (السلطنة، الملك، الأولوية الاشتراك اللفظي بين مجموعة عناوين، الاعتبار الخاص الخارج عن الملك والسلطنة)، فقد وردت ضمن صياغاتهم: (الحق سلطنة ضعيفة علىٰ المال، والسلطنة علىٰ المنفعة أقوىٰ منها، والأقوىٰ منهما علىٰ العين) وأيضاً (إن مثل هذا الحق… سلطنة فعلية) وكذلك (فهو (الحق) مرتبة ضعيفة من الملك، بل نوع منه) وأيضاً (الحق عبارة عن اعتبار خاص الذي أثره السلطنة الضعيفة علىٰ شيء ومرتبة ضعيفة من الملك).

وليس ما ذُكر من التهافت بل إن له جمع ضمن المؤدىٰ التالي: أن الحق سلطنة، وهي نوع من الملك، وبالتالي حين يعرف الحق بالملك وبأنه مرتبة ضعيفة منه فإنما يراد بذلك السلطنة لأنها في حقيقتها نوع من الملك.

ويمكن القول إن اختلاف التعريف ناشئ من اختلاف الموارد، وأشار إلىٰ ذلك المحقق الأصفهاني بقوله: (الحق مصداقاً في كل مورد اعتبار مخصوص له آثار خاصة، فحق الولاية ليس إلّا اعتبار ولاية الحاكم والأب والحد، ومن أحكام نفس هذا الاعتبار جواز تصرفه في مال المولّىٰ عليه تكليفاً ووضعاً، ولا حاجة إلىٰ اعتبار آخر، فإضافة الحق إلىٰ الولاية بيانية، وكذلك حق التولية وحق النظارة، بل كذلك حق الرهانة، فإنه ليس إلّا اعتبار كون العين وثيقة شرعاً وأثره جواز الاستيفاء ببيعه عند الامتناع عن الوفاء… وأثر الأولوية والاختصاص عدم جواز مزاحمة الغير له… وحق الاختصاص… وأثر الأولوية عدم مزاحمة الغير له.

نعم، لا بأس بما ساعد عليه الدليل من اعتبار السلطنة فيه كحق القصاص… حق الشفعة… حق الخيار هو السلطنة علىٰ الاختيار…).

وعند تتبع مصاديق الحق والنظر إلىٰ تطابقها مع التعريفات الفقهية  الواردة، تعرّضت تلك الأقوال للنقض أو التفسير، ولكن يمكن أن يتحمل مفهوم الحق تلك المعاني بلحاظ موارده المختلفة، وبلحاظ اختلاف الزمان والمكان، ونوعية الأعراف والقوانين المستجدة، إذ بالنسبة لبعض الحقوق فقد تُعطي الأعراف مساحة خاصة لممارسة الحق ليست من جنس السلطة ولا الملك ولا الأولوية ورغم ذلك تعتبر تلك المساحة حقاً.

ويمكن أن نستنتج من البيان المتقدم بأن الحق فقهياً وقانونياً هو عبارة عن امتياز خاص يمنحه القانون سواء كان شرعياً أو إنسانياً، وسواء قلنا إنه اعتبار خاص مغاير للملكية والسلطنة وأنهما آثار له، أو أنه عينهما في موارد معينة.

وبعد هذا البيان لنا بالتساؤل عن الرابطة بين الحق والواجب، فإن ثبوت الحق لفرد إنما هو أمر يفرض الشارع أو القانون احترامه علىٰ باقي الأفراد بنحو وجوبه عليهم، وبذلك تنشأ علاقة تلازمية بين الحق والواجب(11).

إن علاقة الإنسان مع محيطه يجعل علاقته علاقة تفاعلية بين طرفين، تستدعي أنَّ مَن له حق، فعليه بإزائه واجب تقرره وتحدده القوانين الشرعية أو الوضعية.

ولكي تحافظ الحقوق علىٰ مقبوليتها واحترامها ينبغي عدم إهمال ما يقابلها من الالتزام بالواجبات.

ويجدر التنبيه إلىٰ أن العلاقة التبادلية بين الحق والواجب علىٰ مستوىٰ الأفراد والمجتمعات إنما هو في دائرة الحقوق الجعلية لا الفطرية، كالحقوق الأخلاقية والقانونية، وأمّا الحقوق الفطرية فهي لا تستدعي المقابلة والمعاوضة، وهي لا تعقد علىٰ قوانين أو أعراف لإثباتها.

فهي وجدانية، نعم نحتاج الشرع والقانون لضبطها ضمن ضوابط تحفظ الحقوق الاجتماعية.

ب – مبدأ الترتب بين الحق والواجب:

1 – أنصار مذهب الحق الطبيعي يرون أن الحق أسبق من القوانين الوضعية التي تحتم الواجبات بمعنىٰ ضرورة اكتساب الإنسان حقوقه كمعطيات طبيعية، ثم يلتزم بعدها بأداء واجباته.

2 – أنصار الفلسفة المثالية – كما في فلسفة كانت – فيعتقدون أن الأولوية للواجب علىٰ حساب الحق، لأن الأخلاق تقوم علىٰ فكرة الواجب لذاته، إذ إن الواجب يستدعي القيام بالعمل لذات الواجب وليس لما يترتب عليه من حقوق، فإن أولوية الواجب مقتضىٰ عقلي.

ويمكن القول إن مرجع القولين هو العدل، فالرؤية الأولىٰ تخشىٰ من ضياع الحقوق إذا وقع التقصير بالواجب، والرؤية الثانية تخشىٰ من التقصير بالواجب ووقوع الظلم بالآخرين لحصول الفرد علىٰ حقه مسبقاً، وبذلك يكون القول الثالث (وهي الرؤية المختارة): لا مجال لفرض أولوية فرض تقدم الحق أو بالعكس وإنما الميزان هو العدل ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: 25)، فإن كان العدل يستدعي تقوم الحق لقلنا بذلك، والعكس صحيح، إذن لا شرافة للحق بما هو هو ولا شرافة للواجب بما هو هو وإنما الشرافة كل الشرافة للعدل(12).

ج – حقوق الإنسان في الإسلام:

وعند التأمل في مفردة الحق الإنساني في المنظومة الإسلامية فإننا سنكتشف كينونتها بالنحو التالي:

1 – حقوق ربانية: فإذا كانت حقوق الإنسان في المذهب الفردي مستمدة من حماية الفرد وحريته، وفي المذهب الاجتماعي من الجماعة ورغباتها، فإنها في الإسلام ذات مصدر رباني، ولذلك بما أنها من الرب الموصوف بالكمال المطلق فليست هي منحة من إنسان إلىٰ إنسان، وليست هي نتيجة لغرائز اجتماعية لإنسان، وليست هي نتيجة للمذهب الفردي والقانون الطبيعي، وإنما هي فيض من آثار صفات الكمال الإلهي اللامتناهي ومن أسمائه الحسنىٰ (رحمة وعدل وعلم وحكمة وقدرة ولطف وإحاطة بالأشياء…).

عندئذٍ ندرك الفارق العظيم بين مصدرين لحقوق الإنسان، المصدر الإلهي المطلق والمصدر الإنساني وفق محدودية العقل البشري (كما في المذاهب الإنسانية المختلفة فردية – اجتماعية – غيرها) والمتصف بالجهل والنسيان والخطأ والظلم والحاباة وغيرها من صفات النقص الذاتية.

2 – حقوق إلهية: أي أن القصد عند أدائها وإيصالها إلىٰ مستحقيها رضوان الله تعالىٰ، فأدائها طاعة من العبد يحض المسلم عليها انسجاماً مع الغاية الكبرىٰ للوجود بعيداً عن النفعية المادية والأنانية.

3 – حقوق إنسانية: نزيهة من الازدواجية، فليست حقوقاً لشعب دون شعب، ولأمة دون أمة، أو لعرف دون عرف، أو لدين دون دين، وإنما هي شاملة لمجموع الجنس البشري، فهي حقوق توافق بين مصلحة الفرد والجماعة، والمرأة والرجل، والكبير والصغير، والفقير والغني، ترفض كل أنواع الابتزاز سواء (السياسي أو الاقتصادي) ليكون ميزانها العدل فقط وفقط.

4 – حقوق شاملة: وهي من قبيل حق الذمي، وحق الوالدين، وحق الأولاد، وحق الجيران، وحق المسافر والحاضر، وحق المقاتلين والأسرىٰ، وحق النساء والرجال وحق الصغار والكبار…

5 – حقوق دائمة (ثابتة): أي ليست بنسبية، بل غير قابلة للتغيير ومرجعيتها الوحي الإلهي.

6 – حقوق عملية وواقعية: تواكب المادية والروحانية، فهي واضحة في معالمها والسبل الموصلة إليها، والضمانات التي تحول دون تعطيلها، فهي خلت من المعطلات والمعوّقات الموجودة في القوانين الوضعية.

7 – حقوق مكفولة: بمعنىٰ أنها مضمونة التحقيق علىٰ أنها الواقع، وذلك لدخولها في إطار الشريعة وارتباطها بالعقيدة ولكفالة السلطان في تفصيلها وإلزام الجميع بها، فقد جمعت بين الطاعة الاختيارية للأفراد وبين إلزام السلطان لمن لا يريد ذلك.

8 – حقوق أخلاقية فطرية: إذ لا يحق التصرف بماله ووقته وجسده كيفما شاء وإن لم يلحق الضرر بالآخرين.

9 – حقوق كونية: بمعنىٰ أنها منسجمة مع المخلوقات الأخرىٰ، وما في البيئة من مظاهر حياتية، فلا ظلم ولا إفساد ولا تخريب في الأرض.

10 – حقوق متميزة: فهي متميزة (لربانيتها) عن كل ما سواها، ولذلك نُهينا عن التشبه بغيرنا.

د – المرأة والحق المتعدد:

ويمكن تصنيف الحقوق المتصورة في متعلقها (المرأة) إلىٰ:

أ – الحقوق الفطرية للمرأة.

2 – الحقوق الجعلية للمرأة في التشريع الإسلامي من جهة:

أ – العبادات.

ب – المعاملات بمنافعها الاقتصادية والتجارية.

ج – الأحكام الجزائية.

د – العلاقات الاجتماعية والأحوال الشخصية.

هـ – أحكام التدبير والسياسة.

1 – الحقوق الفطرية للمرأة:

تمتاز الفطرة في الذات الإنسانية بالثبات والاستمرار، والعمومية وعدم الحاجة إلىٰ جعل مستقل، وهي من مقولة الإدراك المتصفة بسمة المقدس، ويشترك الوجود الأنثوي مع الذكوري فيها لتماثلهما في الخلق فإنه سبحانه قد خلق إنساناً بنحو الذكر والأنثىٰ، وبذلك تتمتّع المرأة بالحق الطبيعي الفطري كما هو حال الرجل كحق الحياة وحق التملّك وحق التعبير وحق الأمن وحق التعليم والتفكير، وحق التدين… إلخ من الحقوق الفطرية.

2 – الحقوق الجعلية للمرأة في التشريع الإسلامي (بملاحظة التلازمية بين الحق والواجب):

لا شك بضرورة التفاوت التشريعي بين الجنسين للتفاوت التكويني الذي يقتضيه نظام الخلقة الأحسن ولعل قوله تعالىٰ: ﴿… بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ…﴾ (النساء: 34)، إشارة إلىٰ ذلك، ولا يُعنىٰ من الفضل اختصاصه بالرجل، إذ لو كان كذلك لقالت الآية المباركة بما فضّل به الرجال علىٰ النساء، ولكنها نسبت التفاضل للطرفين، فالرجل يتميّز (بشدة البأس والقوة والطاقة علىٰ الشدائد من الأعمال ونحوها… والمرأة تتميز بحياة إحساسية عاطفية مبنية علىٰ الرقة واللطافة)(13).

فكانت البنية التكوينية للمرأة ملاحظة عند الشارع المقدس ضمن الجعل التشريعي، وبذلك ينقسم تقنين الدين للمرأة إلىٰ ما به التوافق التام بينها وبين الرجل، وما به الاختلاف والتغيير، ونشير إلىٰ جملة من تلك الأحكام في الموارد المتصورة للتصنيف التشريعي التالي:

أولاً: العبادات:

1 – تميزها ببعض أحكام الصلاة، وهي:

أ – صلاة المرأة أثناء فترة الحيض والنقاش: حيث تسقط عنها الصلاة اليومية من غير حاجة إلىٰ قضاء.

ب – موقف المرأة تجاه صلاة الجمعة والعيدين: وحيث إنهما لا تجبان علىٰ المكلف إلّا ضمن شروط مذكورة في محلها، فإن وجبَتا لذلك لم يلزم المرأة الامتثال، نعم لو حضرت أجزأت.

ج – الأذان والإقامة للمرأة: وحكمهما الاستحباب للمكلف، وقد ذهب بعض الفقهاء إلىٰ وجوب الإخفات بالنسبة للمرأة لتحجب صوتها عن سماع الأجانب.

د – هيئة المرأة في الصلاة: حيث وجب عليها أن تستر جميع البدن باستثناء الوجه والكفين والقدمين.

2 – تميزها في بعض أحكام الصيام:

أ – صيام المرأة أثناء الحيض والنفاس: يسقط الصيام عنها في أيام الحيض والنفاس، ويجب عليها قضاءه لاحقاً.

ب – الصيام التطوعي للمرأة المتزوجة: المشهور بين الفقهاء توقف صحة الصوم التطوعي علىٰ إذن الزوج بتفصيل مذكور في محله.

ج – الاعتكاف التطوعي للزوجة: وهو يتوقف علىٰ إذن الزوج أيضاً.

هـ – جلوس المرأة الصائمة في الماء: حيث يُكره لها ذلك.

3 – تميزها في بعض أحكام الحج:

لا تختلف عبادة الحج بين الرجل والمرأة إلّا في بعض الجزئيات البسيطة، مراعاة لإمكانياتها البدنية كما عند الميت في مزدلفة حيث يجوز لها الوقوف بمقدار مسمىٰ الوقوف ثم الإفاضة منها إلىٰ منىٰ ولا يتعين الوقوف تمام الوقت، كذلك يجوز لها تقديم الطواف علىٰ الوقوفين إذا كانت تخاف الحيض المانع من إدراك العمل كما ينبغي، وأيضاً هناك بعض التخصيص في رمي الجمار.

4 – واقع المرأة في أحكام الجهاد:

أ – لا يتعين الجهاد الابتدائي علىٰ المرأة، وهذا ما عليه الإجماع، نعم الجهاد الدفاعي، والذي عن بلاد المسلمين فهو واجب علىٰ كل من يتمكن منه.

ب – لا يجوز قتل النساء من الكفار حال الجهاد، إلّا عند الاضطرار.

ج – تملك المرأة من الكافرين بالأسر أو السبي حتَّىٰ مع قيام الحرب، وبخلافه الذكور فإنهم لا يؤسرون إلّا بعد انقضاء الحرب.

د – تسقط الجزية عن النساء من أهل الذمة.

هـ – لا تُعطىٰ من حضرت الحرب من النساء – لطبخ أو مداواة أو غير ذلك – من الغنيمة بنحو السهم، بل لها منها مقداراً يحدده الإمام المعصوم.

إضاءة:

وقد يقال: إن حرمان المرأة من بعض المناسك العبادية لأسباب لا دخالة لها فيها، يعتبر إجحاف من جهة، ومنقصة لها حيث إبعادها عن عرصات العبادة ومنعها من الوصل الربوبي – وكأنه طُرد واستهانة – من جهة أخرىٰ.

ولكن الحق في ذلك:

1 – إن مقايسة الجعل الديني بالقوانين الوضعية البشرية أمر خاطئ لعدم المسانخة والفوارق الكبيرة بينهما، فإن العصمة والعلم المطلق والحكمة والقداسة ومقام الألوهية مانع من الامتعاض أو الاعتراض وإن عجز العقل البشري عن إدراك حكمة التشريع وأسراره، فليس للعبد إلّا التسليم والخضوع.

2 – ما ورد في لسان الروايات أن المرأة ناقصة دين، ليس إشارة إلىٰ حرمانها المعنوي الذي لا يتأتىٰ ملئه إلّا بخصوص هذه المناسك المحضورة، بل يمكن الاستعاضة عنها بالمستحبات التي ذكرت في مواردها كما في استحباب استقبال الحائض القبلة والتطهر والتسبيح أو التهليل مثلاً بمقدار ما تستغرقه صلاتها.

3 – إن الباري سبحانه وتعالىٰ جعل المرأة مخاطبة بتكليفه، ولو كان مستحقراً إياها لما جعلها محل عنايته وخطابه منذ البدء.

ثانياً: المعاملات بمنافعها الاقتصادية والتجارية:

ويقصد من هذا المصطلح (المعاملات) الأحكام الشرعية التي تتعلق بسائر نشاطات الفرد من بيع وشراء وإجارة وزراعة وغيرها من الأفعال التي لا يشترط بها قصد القرعة.

فتنقسم إلىٰ: عقود (تحتاج إلىٰ طرفين) كالبيع بأقسامه من السلف والسلم، والإجارة، والمزارعة والمساقاة والشركة والضمان والكفالة والحوالة والصلح والتعرض والمضاربة والهبة والرهن والسبق والرماية والربا والدين والصدقة.

وإيقاعات (يحتاج إلىٰ طرف واحد فقط) كاليمين والنذر والعهد والإقرار والجعالة والشفعة، وهناك معاملات أخرىٰ كالكفارات والأطعمة والأشربة والصيد والذباحة.

ولا تختلف أحكام المرأة عن الرجل في هذه الموارد.

ثالثاً: الأحكام الجزائية:

وضعت الشريعة الإسلامية عقوبات تشمل التعدي والجريمة لوقاية الفرد والمجتمع من الفساد والآثار السيئة علىٰ العقيدة والحقوق المختلفة وحفظ النظام الاجتماعي.

ويمكن تقسيم الجريمة إلىٰ:

1 – الحدود وتتعلق بـ: الزنا، القذف، الشرب، السرقة، الردة، البغي.

2 – القصاص والدية وتتعلق بـ: القتل العمد، القتل شبه العمد، القتل الخطأ، الجناية علىٰ ما دون النفس عمداً أو خطأ كالجرح والضرب.

3 – التعزير ويتعلق بـ: الزنا واللواط، في حال الإقرار به أو شهادة شاهدين(14).

لم يفرق الإسلام بين الذكر والأنثىٰ في الجزاء الأخروي من جهة الثواب أو العقاب، وكذلك الحال في عالم الدنيا من جهة تقدير العقوبات المناسبة للتعدي والتجاوز بما يحفظ المجتمع، ولإثبات الجناية في حق الجاني وتحديد العقوبة المناسبة في حقه شروط ومواصفات مذكورة في محلها، وما نريد الإشارة إليه هو عدم اختلاف عقوبة الجانية عن الجاني، نعم في جريمة القتل فإن الرجل يُقتل بالمرأة والمرأة تُقتل بالرجل علىٰ أن يلتزم أولياءها بقدر ما تزيد به ديته علىٰ ديتها، فإن لم يلتزموا أخذوا ديتها.

رابعاً: العلاقات الاجتماعية والأحوال الشخصية:

وها هنا مجموعة من الأحكام كالوصية، والوقف، والرضاع، والعقيقة وغيرها، والتي يقع فيها الاختلاف والتفاوت بين الرجل والمرأة فيمكن تصنيفها بالتالي:

النكاح، النفقة، الطلاق بأقسامه، الشهادات، الحجاب، الميراث.

خامساً: أحكام السياسة والتدبير:

ويمكن تصوره في مناصب الحكم والنفوذ والسلطة التي تحكم البلاد والعباد، والذي أحد مصاديقه المرجعية الدينية والقضاء.

ويعتبر المرجع منصب ديني مهم حيث يتصدىٰ العالم المجتهد لرئاسة عامة يتولىٰ فيها رعاية المؤمنين ومصالحهم الدينية والدنيوية، فإن هذا المقام هو منصب الخبير في الشريعة ليكون له حق الإفتاء والأمور الحسبية والقضاء، وفي هذا المقدار اتفاق الفقهاء الإمامية ليضيف بعضهم حق القيادة السياسية أو ولاية الفقيه.

ومن شروط تولي منصب المرجعية أو التقليد، أو القضاء الرجولة ولذلك يعتبر هذا هو أحد موارد الاختلاف بين الرجل والمرأة.

إذن تُعتبر أحكام القضايا التالية: (النكاح، الطلاق، الشهادة، الدية، الحجاب، الميراث، الاجتهاد، المرجعية، القضاء) من الملفات الساخنة بالنسبة للمرأة حيث أثيرت نحوها انتقادات لاذعة، وبلحاظات مختلفة، ومن أهمها قضية الفقه الذكوري!

ولتحرير محل النزاع في المسألة نقول:

يُعتبر عنوان ذكورية الفقه الإسلامي شاملاً لاستيعاب الاستنكار والاستهجان الذي اتجه إلىٰ التشريع بألسنٍ مختلفة.

ويمكن ضبط تصنيفه بالتالي لتحديد محل الخلاف:

أولاً: لسان الفكر الإلحادي الرافض للأديان:

حيث اعتبر التشريع تحيز للرجل وإجحاف بالمرأة وليس ذلك إلّا لعدم عصمة المشرّع ونكران المقدس، لعدم التصديق بالإله وما يلازم ذلك.

ثانياً: لسان الفكر التنويري:

الذي آمن بالإله وعصمته من خطأ التشريع، ولكنهم انقسموا في تشخيص المشكلة إلىٰ أنحاءٍ ثلاثة:

أ – صدور التشريع من المقدس المعصوم، ولكن النبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) الأمين قد صاغ المعارف القرآنية بما بلغه من العلم، وأدركه نقاء وعيه (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم)، وبذلك يقع تفاوتاً بين الأصل والفرع وعندئذٍ ليس بالضرورة التعبد والجمود علىٰ ما جاء به القرآن الكريم لبشريته وتاريخانيته.

ب – لا يكون المشرع إلّا إلهاً معصوماً، ولكن النبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) بما استقبل من المعارف الإلهية قدّمها لقومه بلسان ينسجم مع أوعيتهم، ومن منطلق «كلّموا الناس علىٰ قدر عقولهم» فكان القرآن الكريم بشرياً تاريخانياً يوائم ظروف وذهنية المخاطب، فلا معنىٰ للجمود عليه.

وفي رد ما تقدم من الاتجاهات، أصول موضوعية محققة في محلها التخصصية من علم الكلام، من حيثيات مختلفة كإثبات واجب الوجود وصفاته من العدل والحكمة المطلقة، وعصمة القرآن الكريم وسماويته وعالميته وخلوده، وحقيقة الوحي ووساطته بين السماء ونبي الإسلام الخاتم (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم)، وأمانة  التبليغ النبوي وعصمته المطلقة…

وأمّا اللسان الثالث في تشخيص المشكل (وهو محل النزاع الذي سيتجه البحث إليه) فكان علىٰ أساس ضرورة التمييز بين الدين المعصوم المقدس والذي يتمثل بالشارع المقدس وأمين وحيه (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) وبين الفهم البشري للدين والذي يتمثل بفقهاء الدين الذين شخّصوا الأحكام باجتهادهم القاصر.

ومما قيل في هذا المضمار:

– لا شك أن النفوس الذكورية والأعراف والتقاليد، لعبت دوراً في تفسير النص لصالح الذكر ضد الأنثىٰ، وهي تفسيرات وليدة عاداتها وتقاليدها وفهمها، وليست بحجة علينا.

فالقياس هو القرآن وليس قول المفسر أو الفقيه، ومتىٰ ما انتابنا الشك في أقوالهم نعود للقرآن نستنطقه كي نتعرف علىٰ الحقيقة.

– هناك قراءات خاطئة، قدّمت رؤية مبتسرة عن الدين، في ضوء تفسيرها للقرآن الكريم، قراءات لا تنتمي للواقع ولا للعصر، خاصة القضايا الفقهية، أبعدت الدين عن روحه القرآنية سيما التفاسير التي تعتمد الروايات في تفسيرها لنصوص الكتاب المجيد.

– ما يهوّن الخطب أن النص الديني نص مفتوح قابل للتأويل والقراءة، لهذا هو متجدد، وننتظر من يقدم قراءة واقعية تلائم العصر وحاجاته ومتطلباته بعيداً عن التراث ومشكلاته… من الخطأ أن يتحكّم بنا عقل تراثي لا يفهم عنا شيء.

– علىٰ الفقيه أن يعي مقاصد الشريعة وغاياتها، ويدرك حقوق المرأة في ظل زمان ومكان مختلف عما قبل (1500 سنة)، ولذلك بعض الأصوليين يعتبر معرفة الزمان والمكان ومقاصد الشريعة شرطاً في ثبوت الاجتهاد.

– يجب أن نفرّق بين المبادئ والتشريعات، المرأة توأم الرجل في المنطوق الديني، ولا فرق بينهما… هذا ما قرره القرآن ورتّب عليه أحكامه.

أمّا بالنسبة للتشريعات، فالأمر مرتبط بالفقيه وقابلياته الفقهية في فهم النص وفقاً لظروفه، مشكلتنا مع وعي رجل الدين.

(إذن بحسب رؤيتهم هناك قراءة خاطئة يتعين الخروج من شراكها! وإذا قيل لهم: كيف يمكن التحرر من سطوة النص الديني ورجل الدين المسؤول عن تردّي الوعي)؟

كان جوابهم:

– أن تتولىٰ النخبة المثقفة إشاعة ثقافة النقد بكل جرأة.

– تعرية الممارسات الخاطئة والمضللة، من أجل معرفة الحقيقة.

– توجيه الناس نحو الواعين والمنفتحين من العلماء والفقهاء والمفسرين.

– تشجيع الناس علىٰ مناقشة رجل الدين، والتصدي لآرائه وممارساته الخاطئة.

– التزام المشرع بروح الشريعة ولوازم تشريعها، وأن مبادئ التشريع هي مبادئ أخلاقية وإنسانية هي المعبر الحقيقي عن روح الشريعة، وهي شرط في شرعية الأحكام الوضعية.

– لا مرجعيات للمشرع في منطقة الفراغ سوىٰ العقل أو النص – لمن يؤمن به – ويقتصر بالنص علىٰ ما ورد في الكتاب الكريم من آيات الأحكام، ولا حجية للروايات إلّا بقدر ما له جذر قرآني.

– إن من نماذج الفقه الذكوري:

* قوامة الرجل: ما عاد منطق القوامة – بحسب تفسير الفقهاء – مستساغاً في ظل تطور تشارك فيه المرأة الرجل في كل مناحي الحياة، فما عادت المرأة مطلقاً موضوعاً للأحكام الواردة فيها، لأنها امرأة أخرىٰ، فيبقىٰ البحث فيها تاريخياً، إذن نحن أمام نص تاريخي.

إذا قلنا: إن القوامة مسؤولية وهي تستبطن العدالة، فغير العادل تسقط قيموميته ومن حق المرأة أن تتمرد علىٰ أوامره.

* عقدة النكاح: من الضرورة عدم حصر عصمة المرأة بيد الرجل، لانتفاء الأسباب التي فرضت هذا الإجراء قبل (1500 عام)، اليوم ينبغي أن تكون للزوجة ذات الصلاحيات في حق الطلاق.

يجعلون عقدة النكاح بيد الرجل، ويمنحونه حق الزواج بأربعة نساء، فلماذا لا يُتهم الفقه الإسلامي بالذكورية؟

* الميراث: أن تأخذ الأنثىٰ نصف حق الذكر هو أحد الإشكالات المتجددة علىٰ مظلومية المرأة، ورجال الدين يؤكدون علىٰ مؤدىٰ الآية بمعزل عن كل سياقاتها، فتتأكد الشبهة وتقول: لا شك أن القرآن صريح في تقسيم الميراث، ولكن خلفية الحكم أن الرجل كان يستحوذ علىٰ الميراث ويصادره كله، فالآية وفقاً لزمن النص أنصفت المرأة، وراعت الوضع الاجتماعي للذكر، حيث كان هو المعني بشؤون العائلة وليس علىٰ المرأة مسؤولية اقتصادية، فتأتي الزيادة في الميراث لتعويض الرجل، وإذا كانت هذه هي علة الحكم فإن التفاوت ينتفي بانتفائها.

إن الأحكام تتبع المصالح، وبما أن الموضوع اختلفت كلياً فالمرأة المنظور لها آنذاك هي غيرها الآن، فلا تكون مشمولة به، فتتعطل فعلية الحكم لعدم فعلية موضوعه(15).

* الحجاب(16): يعتقد الفهم السلفي للدين أن غاية الحجاب المحافظة علىٰ الرجل كي لا يفتتن بالمرأة ويرتكب معصية النظر المحرمة‼ هذا هو الفهم الذكوري الذي يعتقد أن الأحكام صُمّمت لحماية الذكر علىٰ حساب المرأة، وهو منطق تعسّفي يختزل العلاقة بين الرجل والمرأة، يقدس الأول ويهين الثانية عندما يعتبرها شيطاناً ينبغي التخلص منه لضمان أجواء آمنة للرجل المهوس جنسياً، لكن لماذا لا نطالبه بإجراءات مماثلة بدلاً من الجور عليها؟ هذا هو المنطق الذكوري المتعسف يجب أن لا يغيب عن الفقيه هدف الأديان ودور الإنسان في الحياة، والمرأة مكلفة بخلافة الأرض، والهدف الأساسي يكون حاكماً علىٰ الأحكام الجزئية.

إن الحجاب مهما كانت مبرراته فهو تعد علىٰ حرية المرأة، نعم للحياة المشتركة ضروراتها التي منها الاحتشام، ونحن نطمح لإقامة مجتمع الفضيلة، لتفادي الإثارة الجنسية في أجواء الاختلاط، من خلال الاحتشام وغض البصر، إن الدين رهانه علىٰ التقوىٰ والإيمان.

ونكتفي بهذا المقدار كنموذج لبيان إثارات دعوىٰ الفقه الذكوري، ومن أراد التفصيل فليراجع الأفكار الواردة في هذا السياق، كما في أطروحات الفكر التنويري.

الرد علىٰ نظرية الفقه الذكوري:

تعتبر هذه النظرية أن الفقه الإسلامي هو فقه متحيز للرجل، وهو الذي كتبه لأجل تأمين مصالحه، وأن المرأة من الدرجة الثانية، كما هو الحال في التاريخ حيث كُتِب بنحو إبراز الرجل من أسس للحضارة والمدنية والثقافة وإغفال الأدوار المشرقة للمرأة في ذلك، وتقابل دعوىٰ الفقه الذكوري الفقه الإنساني.

رد النظرية:

1 – نظرية الطباطبائي صاحب الميزان:

إن علاقة الرجل بالمرأة (علاقة تكاملية فلا تفاضل ولا استغلال ولا معاداة)، وأن الماهية واحدة، ولا تمثل عوارض كل منهما مقوّم، والآثار بعضها لاحظت وحدانية الماهية وبعضها لاحظت العوارض، فوقع التفاوت، وأن الإسلام قد جعل أحكامه متوازنة لتكافؤ الطاقات، فكما أعطىٰ للرجل القوامة فكذلك أعطىٰ للمرأة حق الحضانة، فالقضية مرهونة لعملية التوازن وليس التفاضل.

ورأينا أنه طرح جيد ولكنه لا يعالج جميع الفوارق الفقهية بينهما.

2 – نظرية العنصر الشكلي والروحي للحكم:

للحكم الشرعي عنصران:

أ – عنصر شكلي.

ب – عنصر روحي.

والأول هو صياغة الحكم (من واجب وحرام ومكروه…).

والثاني هو المنطلق الذي من أجله شُرِّع الحكم.

وحينئذٍ نقول: لا يمكن أن نقرأ الحكم بعنصره الشكلي فقط بل لابد من قراءته العنصرية أيضاً، فمثلاً الخمس بعنصره الشكلي فيه جنبة الظلم علىٰ الدافع، ولكن إذا قرأناه بعنصره الروحي (أي مصلحة المجتمع) فلا مجال لافتراض الظلم والإجحاف، بل هو ضمان اجتماعي مُنصف، فدعوىٰ الفقه الذكوري قد لاحظ العنصر الشكلي فحسب، أمّا إذا لوحظ الحكم بعنصريه وجدناه يصب في المصلحة الإنسانية العامة.

3 – نظرية الثابت والمتغير:

تنقسم الأحكام إلىٰ قسمين:

أ – أحكام ثابتة.

ب – أحكام متغيرة.

وأن ما ذُكِر ضمن عنوان الفقه الذكوري من الأحكام المتغيرة، وإلّا فإن الإسلام يدعو إلىٰ فقه الإنسانية وهي الأحكام الثابتة، نعم أن مناشئ التغيير مختلفة فبعضها حكم سلطاني وبعضها حكم ظاهري وبعضها حكم ثانوي أو حكم في قضية شخصية أو مشروطة بشرط، لتختلف باختلاف الزمان أو المكان أو الشروط، مما تكشف المنظومة الفقهية المتغيرة عن دلالات اجتماعية يمكن تحديدها في تفاقم الخطاب الفقهي الذكوري(17).

4 – أنسنة المقدس(18):

ما من دين (سماوي أو أرضي) بل غيره، إلّا ويعيش ظاهرة المقدس، ولكن تتردد هذه المفردة (مفهوماً ومصداقاً) بين الإفراط (توسعة المقدس وشموله حتَّىٰ للمحترم الذي يرتضي الرأي والرأي الآخر) وبين التفريط بالسعي في أنسنة من شأنه المقدس.

وحيث لا يمكن إعطاء حكم مطلق للمقدس فيتعين تقسيمه ليتبين الحق فيه:

1 – المقدس (حقيقي واعتباري):

والحقيقي تكويني وجودي ثابت بقطع النظر عن المعتبر (سواء كان المعتبر عقلائي أو عرفي عام أو خاص أو شرعي).

والاعتباري قائم علىٰ يد المعتبر جعلاً وسعة وحكماً.

2 – المقدس (الموضوعي والرمزي):

كالعلم واللباس الذي يرمز إلىٰ قضية مقدسة.

3 – المقدس (المطلق والنسبي):

والمطلق كالأنبياء (عليهم السلام)، والنسبي كالعالم المقدس قياساً لسائر الناس.

4 – المقدس (الواقعي والمعرفي):

والواقع ونفس الأمر كالقرآن في اللوح المحفوظ.

وفي المعرفة والفهم والعلم كالقرآن في عالم التفسير.

(وتختلف أحكام كل قسم عن القسم الآخر).

إذن ما المقصود من أنسنة المقدس؟

هو التعامل مع الموروث بمعزل عن القدسية ويخضع البحث للمنهج العلمي، ومحاولة تطبيق العلوم الإنسانية علىٰ الوحي والقرآن والنبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) والأئمة (عليهم السلام) واعتماد طريقة (الإسلاميات التطبيقية) والمناهج الأنثروية والسيمائية والأردكلوجية والتفكيكية والهرمنيوطيقية.

وبالتالي اعتماد التعامل بجزئية ونسبية مع كل شيء إلّا مع المنهج فهو المطلق، فهو منهج يفصل بين الدين والنص، وبين الإنسان والدين، وبين الإنسان وارتباطاته الروحية.

ولكن ما قيل مخالف للحق، فالذي يبدو أن مشروع الأنسنة عبارة عن مديات ومراحل للتطور فهو يبدأ من طرح إنساني لينتهي بطرح إقصائي لكل ما عدا الإنسان.

لتكون سماته وخصائصه بالنحو التالي:

1 – نظرية علىٰ خلاف النظرة اللاهوتية للإنسان.

2 – القناعة بأن الفرد الإنساني ذو قيمة في حد ذاتها، وأن احترام هذه القيمة هي مصدر كل القيم الأخرىٰ و…؟

3 – الأهمية التي تعطيها للأفكار والتي لا تتكون عندها بمعزل عن سياقها الاجتماعي والتاريخي.

إنها ثورة فكرية علىٰ المذاهب الدينية التي جعلت الإله محوراً لاهتمامها!

إنها تطالب باحترام الكرامة الإنسانية كغاية في حد ذاتها!

إنها تؤمن بالتحرر الفكري للإنسان من قيود الماضي وتقاليده العتيقة، وكأن كل ما في صفحة الماضي هجيناً قبيحاً!

(مناشئ فكرة مناصرة المرأة ورفع شعار مظلوميتها من الدين):

لقد تناولت مدارس مختلفة العنصر الأنثوي لأغراض ومصالح، ومنها الفكر الليبرالي الذي ركّز علىٰ ضرورة تحقيق مساواة المرأة بالرجل في الحقوق القانونية والسياسية وغيرها من خلال أفعالهن وخياراتهن الخاصة.

وتناقش نظريتهم اعتقاد المجتمع الخاطئ بامتلاك النساء طبيعة فكرية وجسدية أقل من الرجال، وبالتالي ميل هذا المجتمع التمييز ضدهن في المجالات الأكاديمية والنقاشية وسوق العمل، وأن المجتمع يؤمن بتبعية الأنثىٰ متجذرة في مجموعة من القيود القانونية والعرفية التي تعيق دخولها في العالم العام والنجاح فيه، فلابد من الإصلاح القانوني والسياسي والعرفي والديني لكسب نجاحها المرتقب.

ولا تمتلك النسوية الليبرالية فلسفات محددة بوضوح، مما يجعل اعتقاداتها مجردة فتقدر المقاربات الفردانية للعدالة، والبنىٰ الاجتماعية، فركّزت العقيدة علىٰ تحويل النساء لرجال! وهي بذلك تتجاهل أهمية الدور التقليدي للنساء كما أنها ركّزت علىٰ الفرد وتتغاضىٰ عن ضرورة الأسرة والمجتمع.

إن هذه النظرية ونظائرها قد ظهرت في العالم الغربي سيما النظام الرأسمالي، وقلّدها العالم الإسلامي توهّما أن هكذا أفكار هي علة تقدم الغرب وضرورة تقليدهم للتلبس ببعض مظاهر التطور.

ويمكن تقسيم النظرية إلىٰ ثلاثة أقسام:

1 – النظرية النسوية الإصلاحية: والاهتمام علىٰ عمل البناء في الأسرة والاقتصاد ورفع الحيف عنها في الشأن الاقتصادي والأسرة.

2 – النظرية النسوية المقاومة: وتركّز علىٰ العنف والقهر الجنسي وجوانب الظلم والإجحاف.

3 – النظرية النسوية المتمردة: برفض الخطاب الذكوري ومحاولة الإعلاء من شأنها المجتمعي.

وما ذكرناه سابقاً إنما كان في سياق الجو العام لمعالجة الفهم الخاطئ في زعم مفاضلة القرآن الكريم للرجل علىٰ المرأة، وسنشرع في نقض إشكالاته التي ذكرناها سابقاً، وبنحو خاص.

الرد التفصيلي (الرد الخاص) علىٰ ما ورد من إشكالات:

سيكون جواب ما ذُكِر وفق التصنيف السابق، دون معاودة تفاصيل الإشكال وبالنحو التالي:

أ – ما ذكر في آيات البعد العقائدي:

1 – (تفضيل الذكر في ابتداء الخلق) ونرده بنحوين:

الأول: أن الأصل الديني في هدف الخلق (حكمي) وليس عبثي، وهو يعود إلىٰ المخلوق دون الخالق لأنه سبحانه الغني المطلق، ولأجل هذا الهدف العظيم بُعث الرسل والأنبياء (عليهم السلام) مما استدعىٰ كون البداية لنبي أو رسول كي لا تخلو الأرض (ولو في حلقة من الزمان، ولو ضمن فرد واحد) من حجة.

وحواء وإن لم تتلبس بمقام النبوة رغم إحرازها مقام الولاية، فذلك شأن ينسجم مع العوارض لا مع الذاتيات، فلا دلالة للأفضلية.

الثاني: أن معرفة المنهج القرآني في منظومة المعارف حول الذكر والأنثىٰ يُساعد في تحديد الحقوق والقيم، وقد ورد قوله تعالىٰ: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ (الأنعام: 98)، مما يعلم منه وحدة النفس في الخلق، وأن الذكورية والأنوثية خارج عن الحقيقة الإنسانية، فالنفس لا مذكر ولا مؤنث.

2 – (تفضيل الذكر في جعله خليفة) ونرده:

تختص الخلافة بقيادة المجتمع من جميع جوانبه، فهي الزعامة (في أمور الدين والدنيا) لحفظ الشريعة ورفع الفساد وإقامة الحدود ونشر الأحكام والانتصاف للمظلوم من الظالم والدفاع عن بلد الإسلام والمسلمين بالجهاد، وغير ذلك من فوائدها اللازمة علىٰ الوجه الشرعي والقانون الإلهي.

ونحن نقرُّ بإمكانية المرأة من إدارة الملف العلمي والحُكمي، ولكن المشرّع يُراعي في تنصيبه وتشريعه التوازن بين كل القوىٰ لدىٰ الإنسان (البيولوجي والفسيولوجي والبدني) فإن تمام المصلحة ليس للمشرِّع بل المشرَّع له، والخلافة منصب مسؤولية وليس منصب تشريف! نعم لمقام الولاية تمام الشرافة، وهو حاصل للمرأة، والمصداق البارز لذلك هي مولاتنا السيدة الزهراء (عليها السلام)، ولتوضيح ذلك بيان ثلاث أمور:

1 – معنىٰ الولاية التكوينية:

هي القدرة علىٰ التصرف في موجود آخر من دون توسط البدن، وتتجلىٰ بقدرة المعصوم (عليه السلام) علىٰ التصرف في الأمور الكونية بأن يوجد أو يعدم شيء علىٰ خلاف القوانين الطبيعية بتفويض من الله سبحانه.

2 – الدليل علىٰ امتلاك الأولياء (عليهم السلام) للولاية: (أمثلة قرآنية):

أ – قوله تعالىٰ: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ﴾ (آل عمران: 49).

ب – قوله تعالىٰ: ﴿قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ…﴾ (النمل: 38-40).

إنه آصف بن برخيا وزير سليمان وكان عنده اسم الله الأعظم ونقل عرش بلقيس (وهو تصرف في التكوين) عن طريق ولايته.

ج – قوله تعالىٰ: ﴿وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتىٰ قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلىٰ وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً…﴾ (البقرة: 260).

3 – الولاية التكوينية لفاطمة الزهراء (عليها السلام):

أ – ما ورد في متن الجامعة: «بكم فتح الله وبكم يختم، وبكم ينزّل الغيث وبكم ينفّس الهم ويكشف الضر، وعندكم ما نزلت به رسله وهبطت به ملائكته…».

فهي مظاهر الولاية وهي ثابتة لأهل البيت (عليهم السلام)، وأحدهم فاطمة الزهراء (عليها السلام).

ب – عن أبي بصير سأل الإمامان الباقر والصادق (عليهما السلام): أنتما ورثة رسول الله (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم)؟ قال: «نعم»، قلت: فرسول الله وارث الأنبياء عَلِمَ كما عَلموا؟ فقال لي: «نعم، بإذن الله»، فقلت: أنتم تقدرون علىٰ أن تحيوا الموتىٰ وتبرئوا الأكمه والأبرص؟ فقال لي: «نعم بإذن الله»، ثم قال: «ادن مني يا أبا محمد»، فمسح يده علىٰ عيني ووجهي وأبصرت الشمس والسماء والأرض…، قال: «أتحب أن تكون هكذا ولك ما للناس وعليك ما عليهم يوم القيامة أو تعود كما كنت ولك الجنة خالصاً»؟ قلت: أعود كما كنت، فمسح عيني فعدت كما كنت.

وقد أخرج المجلسي في البحار في تفضيل فاطمة (عليها السلام) علىٰ أبنائها (عليهم السلام):

عن سلمان (رضي الله عنه) أنه سأل رسول الله (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) فقال: من أفضل خلق الله؟ فأشار النبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) إلىٰ الحسنين، وقال: «جدّ هذين»، قال سلمان: فمن بعد جدّهما؟ قال: «أبو هذين»، قال سلمان: فمن بعد أبيهما؟ قال: «أُم هذين»، قال سلمان: فمن بعد أُمهما؟ قال: «هذان»، وبذلك يتضح ثبوت ما كان للأئمة (عليهم السلام) لفاطمة الزهراء (عليها السلام)، لتقدّمها بالمقام والأفضلية.

ج – إنها حليلة سيد الأوصياء أمير المؤمنين (عليه السلام) فهي كفؤ له وهو كفؤ لها، وهذا يقتضي إحرازها مقامات أمير المؤمنين (عليه السلام) (إلّا ما خصّه بها لأسباب الخلافة)، ففي العيون عن الحسين بن خالد عن المولىٰ الرضا (عليه السلام) مسنداً إلىٰ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «قال لي رسول الله (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم): … فهبط عليَّ جبرئيل فقال: يا محمد، إن الله (جلَّ جلاله) يقول: لو لم أخلق علياً لَما كان لفاطمة ابنتك كفؤ علىٰ وجه الأرض، من آدم فمن دونه».

د – إنها حجة الله علىٰ الخلق بما فيهم الأنبياء والأوصياء ويدل علىٰ ذلك الحديث:

«ما تكاملت نبوة نبي حتَّىٰ أقرّ بفضلها ومحبّتها، وعلىٰ معرفتها دارت القرون الأولىٰ»، فإذا كانت النبوة لا تكتمل لنبي حتَّىٰ يقر بفضلها، فمن باب الأولوية أن كل مقام من المقامات المعنوية والمادية الثابتة للنبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) كانت ثابتة للزهراء (عليها السلام) إلّا ما خرج بدليل.

3 – (تفضيل الذكر في أمر الملائكة بالسجود له دون الأنثىٰ)، وجوابه:

لو أمعنّا النظر في مجموع الآيات التي تحدّثت عن مسألة السجود لآدم (عليه السلام) لوجدنا أن هذه الآيات المباركات إنما تكشف ماهية هذا السجود وحقيقته وليست بصدد ملاحظة الذكر والأنثىٰ، بل هو نحو خطاب موجّه للنوع الإنساني.

قال تعالىٰ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾ (الأعراف: 11).

ومن الواضح أن قوله تعالىٰ: ﴿خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ…﴾ ثم الأمر بالسجود إنما هو تكريم للنوع الإنساني، إذ إن السجود لم يكن لآدم (عليه السلام) فحسب، بل كان سجوداً له ولحواء (عليهما السلام) ولجميع أفراد النوع الإنساني (الرباني).

وهكذا في قوله تعالىٰ: ﴿فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ﴾ (الحجر: 29)، وبعبارة أخرىٰ لم يثبت في القرآن الكريم أن لفظ آدم (عليه السلام) كلما استُعمل أُريد منه شخصاً معيناً أبداً.

4 – (تفضيل الذكر في اختصاصه بالنبوة والإمامة ولم يُعطَ هذا المقام لامرأة قط، حتَّىٰ مريم العذراء (عليها السلام) والسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام))!

وفيه: أن الله سبحانه جعل للرجال أدواراً وللمرأة أدواراً أخرىٰ، وأعطىٰ تبعاً لذلك من المؤهلات النفسية والجسدية، ونعتقد أن هذا لا يوجب الأفضلية.

بدليل أن للصدّيقة (عليها السلام) مقاماً يفوق الكثير من الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)، والدليل علىٰ ذلك:

أ – ذكر الطبرسي (رحمه الله) عن أبي جعفر (عليه السلام): «ولقد كانت (عليها السلام) مفروضة الطاعة علىٰ جميع من خلق الله من الجن والإنس والطير والوحوش والأنبياء (عليهم السلام) والملائكة».

ب – عن النبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم): «أنا وأهل بيتي صفوة الله، وخيرته من خلقه…».

ج – وعن النبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم): «نحن أهل بيت شجرة النبوة ومعدن الرسالة، ليس أحد من الخلائق يفضل أهل بيتي  غيري».

ومن الجلي أن الصديقة الطاهرة (عليها السلام) هي من أهل البيت (عليهم السلام) الذين وصفهم النبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) بهذا التفضيل علىٰ الخلائق بما فيهم الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام).

5 – (استنكاف نسبة الأنوثة إلىٰ الله سبحانه أو الإشارة إليه بصيغة الذكورة)، ويردّه:

الآية الأولىٰ مورد الإشكال إنما هي لمخاطبة الكفار الذين وصفوا الملائكة علىٰ أنهم بنات الله سبحانه، فجاء الاستفهام للإنكار عليهم بذكر الإناث لكونهم يعدّون الأنوثة من صفات الخسة، فإذا كان سبحانه هو الرب فكيف يزعمون أنه سبحانه آثرهم بكرامة لم يتكرم بها نفسه، وهي تخصيصهم بالبنين واتخاذ الملائكة الإناث – علىٰ زعمهم -؟!

وأمّا الآية الأخرىٰ فهي لنقض معتقدات المشركين وأوهامهم، حيث إنهم يعتقدون بأن قيمة الأنثىٰ أقل من الذكر، ورغم ذلك يزعمون أن الملائكة بنات الله (تعالىٰ عن ذلك علواً كبيراً) ويعبدونها ويقدسونها، فكيف الجمع بين التعيير والتقديس؟!

وما يخص بقية الآيات فجوابه:

إن الذات الإلهية وجود مجرد لا مادي، والمجرد لا يتصف بالذكورية أو الأنوثية، نعم اللفظ الدال علىٰ ذلك المجرد يذكّر أو يؤنث وذلك بوضع الواضع للغة، كما في النفس فهي مؤنثة رغم أن متعلّقها قد يكون مذكراً، وبالتالي فإن ذكورية اللفظ لا تستدعي أفضلية المسمىٰ.

ب – آيات في البُعد الفقهي:

1 – (تمييز الرجل جنسياً):

ونردّه:

أ – أليست الزوجة الثانية امرأة أيضاً؟ إذن إباحة التعدد ليس فيه امتهان أو إهدار لكرامة المرأة، بل هو صيانة لها بدل أن تكون خليلة خائنة.

إضافة إلىٰ أن الإسلام قد وضع للتعدد شروطاً صارمة ومشددة، ومفاسد الخارج ليس نتيجة للتشريع بل نتيجة لعدم التطبيق.

ب – اتفقت جميع الأديان علىٰ أنه لا يجوز للمرأة أن يطأها غير زوجها ومن هذه الديانات ما هو سماوي كالإسلام وأصل اليهودية والنصرانية، والإيمان بالله يقتضي التسليم لأحكامه وشرعه، فهو سبحانه الحكيم العليم بما يصلح البشر، فقد ندرِك الحكمة من الحكم الشرعي وقد لا ندركها.

ج – اهتم الإسلام بتكوين الحياة الزوجية في المجتمع ومن هذا المنطق سعىٰ إلىٰ تقديم البرنامج الكافل لذلك، ومنه الدعوة إلىٰ الزواج وإيجاد المحركية إلىٰ إنشائه – بنحو التكوين والتشريع – ومن الواضح أن إنجاح هذا المشروع في ظل الزوج الواحد مع تعدد الزوجات ممكن دون العكس، لأن الصورة الثانية تعني قيام أكثر من زوج علىٰ تدبير شؤون العائلة مما يُفسد وحدة العائلة ويُشتّت أمرها وبخلاف الصورة الأولىٰ.

2 – (تمييز الرجل بالعصمة الزوجية):

ونردّه:

أولاً: يعتبر الطلاق أمر خطير جداً، يؤدي إلىٰ حل كيان الأُسرة، وهو إجراء مبغوض جداً وحكم اضطراري يُضطر للجوء إليه، واحتمال إعطاء سلطة الطلاق إمّا يكون بيد الزوج أو الزوجة أو بيد طرف ثالث!

فإذا كان بيد الزوجة، فالمحاذير فيه:

أ – إن جعل الطلاق بيد الزوجة فقط (علىٰ نحو الاستقلال) مع كونها وجود عاطفي نفسي – وهو كمال وجودي ومكمّل لها – ربما لا يكون مناسباً حيث وضع سلطة الطلاق بيد الوجود العاطفي معناه المغامرة ببقاء البيت الزوجي خصوصاً عند ملاحظة عدم تحمّل المرأة النفقات لتكوينه، فالمتضرر الأكبر في الطلاق هو الزوج لا الزوجة.

ب – المفروض أن الزوجة قد استوفت المهر من الزوج، فما المانع من حل هذه العلاقة واقترانها بزوج جديد ومهر جديد؟! وبخلافه الزوج فإنه يدفع المهر والنفقة عليها وعلىٰ الأولاد، بل حتَّىٰ نفقة الزوجة أثناء العدة بعد الطلاق علىٰ الزوج.

وإذا كان بيد طرف ثالث فمحاذير ذلك:

إنه أمر فاسد، لأنه يجعل أسرار الحياة الزوجية سيما الجنسية عرضة للهتك والتداول بين الناس، وقد تتحول إلىٰ مشاكل تمس الشرف والعفة.

إذن: لدرء تلك المفاسد يتعين كون الطلاق بيد الزوج.

ثانياً: أن الشارع المقدس قد أتاح للزوجة أن يكون أمر الطلاق بيدها، كما لو اشترطت في متن عقد الزواج ذلك.

ثالثاً: قد جعل الشارع المقدس شروطاً للطلاق الصحيح من شأنها دفع الزوج إلىٰ مراجعة قراره بالطلاق، من قبيل (اعتداد الزوجة في بيت الزوجية بثلاث حيضات – وأن يقع الطلاق في طهر (لإيجاد الحافز الجنسي) – وأن يكون أمام شاهدين عدلين).

رابعاً: في حال عدم اتفاق الزوجين، ومعاندة الزوج لزوجته وإصراره علىٰ أذيتها، جاز للزوجة رفع أمرها للحاكم الشرعي ليقرر الموقف المناسب، وكذلك شُرِّع للزوجة طلاق الخلع.

خامساً: أن التقنين يلحظ النوع وليس الشخص.

3 – (تمييز الرجل مالياً):

ومقصود الإشكال هو التمايز بين الذكر والأنثىٰ في الميراث!

والسؤال المتبادر: هل حققت قضية الميراث ظلماً؟

قال تعالىٰ: ﴿إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ﴾ (النساء: 40)، ﴿وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ (النساء: 49)، ﴿وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً﴾ (النساء: 124)، ﴿وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ (آل عمران: 182)، ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾ (الكهف: 49)، ﴿وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾ (العنكبوت: 40).

فالظلم في حقه سبحانه غير متعقّل وأن الفروق في نصاب المواريث هي أساس قضية المواريث في الفقه الإسلامي.

ولا تختلف الأنصبة في المواريث طبقاً للنوع وإنما تختلف الأنصبة لثلاثة معايير:

المعيار الأول: درجة القرابة بين الوارث والموروث (ذكراً كان أو أنثىٰ)، فكلما اقتربت الصلة زاد النصيب في الميراث والعكس بالعكس، دون اعتبار جنس الوارث، فترث البنت الواحدة نصف تركة أُمّها (وهي أنثىٰ) بينما يرث أبوها ربع التركة وهو ذكر، لأن البنت أقرب من الزوج.

المعيار الثاني: موقع الجيل الوارث:

فالأجيال الشابة التي تستقبل الحياة عادة يكون نصيبها أكبر من نصيب الأجيال التي تستدبر الحياة، بل تصبح أعباءها مفروضة علىٰ غيرها عادة (وذلك بصرف النظر عن الذكور والإناث)، فبنت المتوفي ترث أكثر من أُمّه وكلتاهما أنثىٰ، وبنت المتوفي ترث أكثر من أبيه رغم كونه رجل.

المعيار الثالث: العبء المالي:

ولا شك أن الرجل عليه أعباء مالية، منها:

1 – أعباء مالية في بداية حياته الزوجية حيث وجوب المهر عليه.

2 – التفقه وإن كانت الزوجة تمتلك من الأموال ما لا يمتلكه هو.

3 – القيام بالأعباء العائلية والالتزامات الاجتماعية.

إذن الصادر من الرجل ربما يكون أكثر من الوارد، فيجبر بالميراث.

ولذلك أعطىٰ الباري سبحانه الضعف للرجل في المورد الثالث وطلب منه الإنفاق علىٰ زوجته وأبنائه ووالديه ومن تلزمه نفقته من قريب وخادم.

ونحن نؤكد أن الله سبحانه فضَّل المرأة علىٰ الرجل في الثروة حيث كفل لها حفظ مالها ولم يطالبها بأي شكل من أشكال النفقات، ولذلك حينما تتخلّف قضية العبء المالي كما هو الحال في شأن توريث الأخوة والأخوات نجد الشارع الحكيم قد ساوىٰ بين الذكر والأنثىٰ في نصيب الميراث، لأن التسوية هنا بينهم في أصل الرَحِم.

4 – (تمييز الرجل في القيادة والرئاسة):

ونرد ذلك:

إن ذكر القوامة في القرآن جاء في موضعين:

أ – قوله تعالىٰ: ﴿الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَىٰ النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ﴾ (النساء: 34).

ب – قوله تعالىٰ: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ (البقرة: 228).

وفي ذلك نقول:

1 – ما ذكرته الآية الأولىٰ إشارة إلىٰ أن الرجال يقومون علىٰ شؤون المرأة، وليس في ذلك رئاسة وإنما هو حماية ورعاية، ثم إنها في صدد بيان علاقة الزوج والزوجة، والمدّعىٰ الرجل والمرأة فلا دليل علىٰ الأفضلية.

2 – الآية المباركة الثانية: تشير إلىٰ أن الحقوق إنما تكون متكافئة مع الواجبات، فما من حق إلّا تعلق به واجب، وما عليه من واجبات يكون له حقوق، فالمرأة قائمة بشؤون البيت وفرض ذلك الواجب عليها أتاح لها حق الإنفاق.

3 – إن الرجل ليس مساوياً للمرأة وليست المرأة مساوية للرجل، لأن قانون المساواة يوجب تحقق المماثلة، والحال أنْ لا مماثلة بينهما.

4 – اهتم الإسلام بنظام الأسرة، والأسرة متقومة بالزوج والزوجة، فلابد من توزيع الحقوق والواجبات.

5 – كما أن قوامة الرجل في الأسرة ليست درجة رئاسية بل هي مسؤولية، فالرجال عليهن درجة أي حث الرجال علىٰ حسن العِشرة والتوسع للنساء في المال والخُلُق.

5 – (تمييز الرجل في معالجة أخلاقية):

وفيما يخص الجزء الأول من الإشكال فنردّه:

1 – ظاهرة النشوز اهتم بإصلاحها القرآن الكريم، واستعرضها علىٰ أساس شمولها لكلا الجنسين (الذكر والأنثىٰ) وضرورة تقويمها فيهما معاً.

2 – ينبغي مراجعة الآيات التالية في معالجة النشوز.

الآية (15 و16 و34 و128 سورة النساء) ليتضح كيف أن الإسلام تدرَّج في سبل الإصلاح.

3 – يحث الإسلام علىٰ معالجة نشوز المرأة بالوعظ والرقة واللين وليس الخشونة وفرض السيطرة والنفوذ كالضرب والشتم، فلم تبدأ معالجته بالتشهير والتعنيف والغلظة، بل أكد علىٰ إظهار المحبة وحب الخير لها لتستقيم الحياة الزوجية بينهما، نعم عند عدم جدوائية ذلك يبدأ بأسلوب مختلف قليلاً وهو الهجران – هجر المقاطعة في الكلام أو هجر الجماع – وإن لم ينفع ذلك أيضاً فيلجأ إلىٰ خيار الضرب – والذي لا تكون غايته الانتقام بل الصلاح -.

4 – يختلف علاج نشوز المرأة – فقهياً – عن الرجل لخصوصيات كل منهما، وبالنسبة للمرأة فإن علاج نشوزها لابد أن يكون في دائرة البيت، ومع وجود فقه التزاحم بين إشاعة الأمر عند الملأ العام – بإعلام الأهل والأقارب – وبين تطويق القضية لينفرد الزوج بمعالجتها بالنحو التدريجي الذي بيّنته الشريعة، يترجّح الثاني، لأن كتمان أسرار البيت ومعايب المرأة وعدم فضحها أمام أرحامها هو حل أمثل بالنسبة لمشاعرها وأحاسيسها وفي ذلك تمام الرفق بالمرأة وحفظ ماء وجهها.

وأمّا الجزء الثاني من الإشكال والذي عُبِّر عنه (في ظاهرة أخرىٰ) فنردّه:

5 – لابد أن يُلتفت وبنحو عام في زاوية الأحكام، إلىٰ أن الحكم قد يميل أحياناً لصالح المرأة وقد يكون أحياناً أخرىٰ في صالح الرجل، فما من حكمٍ إلّا وفيه ملاك قد يكون فيه حيف علىٰ طرفٍ ما، وليس ذلك في خصوص القانون الديني، بل هو يَعم القوانين الوضعية كذلك، فمحض تشريع مفردة تتضمن عدم الخير والمنفعة للمرأة لا يعني تأسيس جميع المنظومة الدينية لصالح الرجل وإجحاف المرأة.

6 – يستفاد من قوله تعالىٰ: ﴿… أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً﴾ (النساء: 15) أن حكم الحبس مؤقت حتَّىٰ صدور حكم آخر في المستقبل، وعندئذٍ يتخلّصن – مَن تعلّق الحكم في ذمتهن – من الحبس، دون أن يشملهن الحكم الجديد، لأن الحكم الجزائي لا يشمل الموارد التي سبقت مجيئه.

هذا وقد ذكر القرآن الكريم ذلك السبيل في قوله تعالىٰ: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ…﴾ (النور: 2).

7 – أمّا ما قيل في أن قوله تعالىٰ: ﴿وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما…﴾ (النساء: 16)، مجرد إيذاء في حق الرجل ولم تذكر ماهيته، وهو حكم أخف من السجن المؤبد وفي ذلك تمييز بين الجنسين، فإنه من سوء الفهم لكلام رب العزة، إذ إنها تُشير إلىٰ عقوبة غير المحصن – من الذكر والأنثىٰ معاً – وقد ورد في التفسير: (والآية وإن كانت لا تذكر قيد عدم الإحصان صراحة إلّا أنها حيث جاءت بعد ذكر حكم المحصنة وذكر عقوبتها التي تختلف عن هذه العقوبة التي هي أخف من العقوبة المذكورة في الآية السابقة استفيد منها أنها واردة في حق الزنا عن غير إحصان، وأنها بالتالي عقوبة الزاني غير المحصن والزانية غير المحصنة اللذين لا يدخلان في عنوان الآية السابقة…).

إذن هي نحو عقوبة للذكر والأنثىٰ علىٰ السواء في عنوان استدعىٰ ذلك، وإن كان خصوص جنس الذكر فلماذا كان الضمير فيها مثنىٰ؟!

6 – (تمييز الرجل في نعيم الجنة):

ويردّه:

أ – ما ذكره المستشكل عن معنىٰ (الحور العين)، هو منشأ الإشكال وليس هو التفسير الوحيد أو التام حتَّىٰ يصح له الاعتراض، فهناك تفسيرات أخر بها تصبح قضية الإشكال سالبة لانتفاء الموضوع، وبيان ذلك:

1 – يُطلق (الحور العين) – علىٰ ما هو التحقيق اللغوي والعرفي – علىٰ الجميل الأعم من المرأة والرجل، وبذلك يمكن القول إن المرأة تحظىٰ بحور عين أيضاً، وذلك لدخول النساء ضمن المتقين والسابقين وأصحاب اليمين في الآيات المباركات التي تعد بالحور العين بقوله تعالىٰ: ﴿وَزَوَّجْناهُمْ﴾ أي زوّجنا كل من رجال الجنة بحور العين من الإناث، وزوجنا نساء الجنة بحور العين من الذكور، فقد قال تعالىٰ:

﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ * كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾ (الدخان: 51-54).

وقال تعالىٰ: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلىٰ سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾ (الطور: 17-20).

وقوله تعالىٰ: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ * عَلىٰ سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ * وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الواقعة: 10-24).

والسياق القرآني في هذه الآيات المباركات يدل علىٰ أن المخاطب هو الكل بما يَعم الإناث والذكور، وتوصيف نعيم الجنة ومنه التزويج كل بما يناسبه.

وإذا قيل: إن الحديث في سورتي الدخان والطور والواقعة موجّها للمتقين وهم جمع مذكر سالم وقد تفضل عليهم بتزويجهم الحور العين.

قلنا: إن اللغة العربية تخاطب الذكور والإناث بلفظ المذكر من باب التغليب – بحسب الواضع اللغوي، فقد ألجأهم إلىٰ ذلك خفّة اللفظ، وقد نص علىٰ ذلك سيبويه بقوله: (واعلم أن المذكر أخف عليهم من المؤنث، لأن المذكر أول وهو أشد تمكّناً… ألا ترىٰ أن (الشيء) يقع علىٰ كل ما أخبر عنه من قَبل أن يُعلم أذكرٌ هو أو أنثىٰ؟ و(الشيء) ذكر…)، والقرآن الكريم نزل بلسان العرب ووضعهم.

ثم إن هذه الواو تسمىٰ بواو الجمع، ولا تخص الذكور بل هي مطلقة.

وإذا قيل: قد ورد في سورة الرحمن ما يدل علىٰ تخصيص الحور العين بالذكور بقوله تعالىٰ: ﴿فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ * حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ (الرحمن: 70-75).

قلنا: قد ثبت في علم الأصول قاعدة مفادها (إثبات شيء لا ينفي ما عداه) وبذلك لا دلالة للمورد علىٰ المدّعىٰ.

2 – وقد قيل في معنىٰ (الحور العين):

ليست نساء خلقهن الباري سبحانه لمتعة الرجل، بل إنهن خدم في الجنة خلقهن لخدمة المؤمنين والمؤمنات علىٰ السواء، وكلمة زوّجناهم ﴿وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾ لا تعني النكاح وعلاقة الرفث، بل تعني الاقتران، فالزوج هو المقترن بالشيء.

وبذلك يكون وزان الحور العين هو وزان الولدان المخلدون، خدم يطوفون علىٰ أهل الجنة، والفارق بينهما أن الحور يَطفنَ علىٰ أهل الجنة في القصور والخيام والولدان يطوفون عليهم من خارجها.

3 – وقيل في (الحور العين):

هو الشجر الأخضر الكثيف المليء بالثمار، أنها نعيم الجنة، وقد زوّج الله تعالىٰ المتقين ذكوراً وإناثاً أي جعلهم جزء لا يتجزأ من الجنة ذات الأشجار والثمار والخيرات، أي جعلهم يَعيشون جنباً إلىٰ جنب خيرات الجنة آمنين مطمئنين لدوام وجوديتها معهم دون انقطاع، لذلك قالت الآية المباركة:

﴿كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ﴾ (الدخان: 54-55)، فقرن بين التزويج من الحور العين وبين الفاكهة وبنحو التوصيف في بيان حالهم ﴿آمِنِينَ﴾ مطمئنين.

ب – إن في قوله تعالىٰ: ﴿ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ ما يَشاؤُونَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ﴾ (ق: 34-35)، دلالة واضحة علىٰ توفر كافة النعم والمتع للمؤمن أو المؤمنة، وقد يكون هناك فرص للزواج والاستمتاع تحظىٰ بها النساء في الجنة لم يأتي علىٰ ذكرها النص القرآني وأشارت إليها الروايات الشريفة.

ج – آيات في البعد الفكري:

1 – (تبعية المرأة للرجل):

ويردّه:

نحن نمنع نظرية التابعية (المرأة تابعة للرجل) ونقول بنظرية الافتقار والحاجة التكوينية، ويدل عليه ﴿هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ﴾ (البقرة: 187) ولا ينسجم القول بالأهمية والأشرفية والأفضلية بلحاظ التقديم لاحتياج الرجل إلىٰ المرأة بنحو أشد من حاجة المرأة إليه.

ومقتضىٰ الجمع بين الآيات (القرآن يفسر بعضه بعضاً) الاعتماد علىٰ نظرية التكامل في عالم الوجود والتكوين، ونمنع فهم التبعية.

والحق عدم ثبوت الأشرفية الوجودية للتقديم، نعم قد تكون علته للتقدم الزماني كما ورد ذكر الأنبياء (عليهم السلام) بحسب الزمان لا الشرافة.

وكذلك لا دليل قرآني علىٰ أن حواء خُلِقت من آدم (عليه السلام).

إذن ليس من نص قرآني يفترض التبعية التي تحدث عنها المستشكل بل القرآن الكريم تعامل مع الذكر والأنثىٰ علىٰ أساس أنه الأصل في الخلق هو (النفس الواحدة).

2 – ثم إن التبعية قد تفسر بالتفسيرات التالية:

أ – العبودية: وينتفي ذلك مع أصل التوحيد.

ب – الانقياد التام، وفيه:

1 – ينتفي ذلك مع محاسبتها يوم القيامة وقوله تعالىٰ: ﴿إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ﴾ (النساء: 40).

2 – ينتفي ذلك مع المهارات الخاصة المتصورة للمرأة، والتي قد تفوق الرجل بالوجدان الذي يؤيده الواقع الخارجي.

ج – القيمومة: وهو ثابت في خصوص الزوج والزوجة – وذكرنا ما يخص ذلك بما يدفع الاستشكال -.

2 – (مخاطبة المرأة من خلال الرجل):

ويرده:

كل الضمائر التي ذكرت لأهل الجنة فهي ضمائر جمع ذكوري ولو كان ذلك بنحو الاختصاص بالذكور دون الإناث فلا يبقىٰ للمرأة المؤمنة دواعي في الجنة، ومقتضىٰ الحال في الاسم الظاهر والضمير أسباب متعددة لنكات بلاغية وجمالية.

ففي الآية الأولىٰ يستدعي مورد الرفث في الأدب القرآني ذكر النساء بالضمير لتوقيرها والحفاظ علىٰ حيائها ونجابتها، والآية محمولة علىٰ الاستعارة والكناية واستبدال الاسم بالضمير.

وفي الآية الثانية كناية عن إعطاء الاختيار لهن في أفعالهن وقراراتهن! فإن اخترن الارتباط كان لهن ذلك وليس لقرابة الميت منعهن بسبب بعض العادات القائمة علىٰ الجهالة والعمىٰ، والشح والحسد، إذ لهن في الشرع حقاً معروفاً، يمنع الآخرين من اعتراضه، وأراد القرآن الكريم التأكيد علىٰ ذلك بإبراز هذا المعنىٰ.

3 – (تفضيل الرجل علىٰ المرأة):

ويرده:

لا شك في التفاوت بين الرجل والمرأة، وأن بينهما عموم وخصوص من وجه، ولذا قلنا بنظرية التكامل.

وقد بدأ القرآن الكريم ببيان حق المرأة فقال: ﴿وَلَهُنَّ﴾.

ثم ذكر حق الرجل فقال: ﴿عَلَيْهِنَّ﴾.

قال تعالىٰ: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ…﴾ (البقرة: 228)، وهذه الدرجة تعددت في بيانها أقوال المفسرين، كالجهاد أو ما يبذله الرجل للمرأة من الصداق أو النفقة – وهي ميزة في حد نفسها – ولكنها لا تستدعي الأفضلية والشرافة.

وهذا ما يخص الجانب الأول من التفضيل الذي فرضته الشبهة، وأمّا ما قيل في شأن الشهادة، فجوابه:

1 – خلط المستشكل بين الشهادة وبين الإشهاد.

فالشهادة في باب القضاء ومعيارها اطمئنان القاضي بصرف النظر عن جنس الشاهد.

والإشهاد هو مورد حديث الآية ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ…﴾ (البقرة: 282)، مادة الإشكال! وهي تشير إلىٰ ما يقوم به صاحب الدَين للاستيثاق علىٰ دَينه، وهو المخاطب وليس القاضي، فتوجّهت الآية المباركة بالنصح والإرشاد إلىٰ دائن خاص وضمن ملابسات خاصة لحفظ الحقوق وعدم تضييعها.

2 – هناك اتفاق في فقه الشريعة علىٰ أمور معينة تنفرد المرأة بالشهادة فيها دون الرجل.

3 – الشهادة في الإسلام تكليف لا تشريف، فهل في التخفيف منقصة أو رحمة؟!

4 – عززت الآية المباركة شهادة رجل برجل آخر، ولم يعتبر أحد أن هذا مس بكرامة الرجل! وهكذا عزّزت شهادة الرجل بشهادة امرأتين، فهل يعني ذلك إهانة للرجل؟

أمّا فكرة ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرىٰ﴾ (البقرة: 282).

فإن الآية أمضت شهادة الامرأتين وهو إجراء احترازي فلسفته:

كون المرأة في الغالب جليسة الدار واهتمامها الأول بيتها وأولادها وهي بعيدة عن المال، مما يسبب النسيان للانشغال وطبيعة الاهتمام.

وما ذكره المستشكل من تقارير علمية في النظام التكويني لمخ المرأة والرجل، فإنه مُعارض بتقارير علمية أخرىٰ.

4 – (ذكر أسماء للرجال دون النساء في القرآن الكريم دلالة علىٰ احتقار المرأة):

ويرده:

1 – لأن القرآن تعرض لذكر الأنبياء ولذا ذكر أسماءهم (عليهم السلام).

2 – الملوك والأشراف لا يذكرون حرائرهم في الملأ ولا يبتذلون أسماءهن.

3 – خصص القرآن الكريم سورة منه باسم (النساء) ولم يخصص للرجال سورة.

4 – هناك أنبياء ورسل تم ذكر أحوالهم دون ذكر لأسمائهم.

5 – ذكر القرآن الكريم اسم فرعون وحذف اسم السيدة خديجة (عليها السلام)، فهل يعني أفضلية فرعون؟ وقد ذُكر في القرآن (74) مرة.

6 – ذكرت السيدة مريم (عليها السلام) (34) مرة، وهي امرأة.

5 – (الرجال هم المعنيون بمصطلح الناس والقوم…):

ويرده:

استعمل لفظ القوم في الأعم من الرجال والنساء.

قال تعالىٰ: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلىٰ قَوْمِهِ﴾ (هود: 25).

وقال تعالىٰ: ﴿وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ﴾ (إبراهيم: 4).

إذن عنوان القوم يُطلق في الأصل ويراد منه الأعم من الرجال والنساء، إلّا أن تقوم قرينة علىٰ إرادة خصوص جماعة الرجال، كقرينة السياق والمقام والعِدل، كقوله تعالىٰ: ﴿لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ﴾ (الحجرات: 11).

وهكذا كلمة الناس في القرآن الكريم تشمل كل الجنس البشري في كل مكان وزمان سواء في الماضي والحاضر والمستقبل.

كقوله تعالىٰ: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ…﴾ (النساء: 1).

وقوله تعالىٰ: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ…﴾ (البقرة: 21).

وقوله تعالىٰ: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ (البقرة: 168).

ومن الواضح أن الدعوة (إلىٰ التقوىٰ والعبادة والحذر من الشيطان) عامة تشمل الجنس البشري ولا تختص بالرجال دون النساء.

وأخيراً نقف عند الصنف الثالث – بحسب التصنيف القرآني الذي ابتدأنا به – من الآيات المباركات وهي: الآيات التي أبرزت تفاوتاً بنحو يُفهم منه مفاضلة المرأة علىٰ الرجل.

الأولىٰ: قوله تعالىٰ: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً…﴾ (الأحقاف: 15).

تؤكد الآية الكريمة علىٰ معرفة حق الأُم، وما تكابده من صعوبة منذ حَمل الولد وحتَّىٰ وضعه، لتبدأ مرحلة جديدة من التضحية والعطاء في سبيل تلبية كافة احتياجاته وهو عاجز وفي أضعف حالاته.

الثانية: قوله تعالىٰ: ﴿وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً…﴾ (النساء: 4).

حيث شرع الإسلام للمرأة المهر تكريماً لها واختصت هي بذلك.

الثالثة: قوله تعالىٰ: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ…﴾ (النساء: 19).

وردت للدفاع عن حقوق المرأة، حيث تمنع حبس المرأة لوراثة مالها، أو الضغط عليها لتهب مهرها لزوجها.

الرابعة: قوله تعالىٰ: ﴿وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ…﴾ (البقرة: 231).

بيان الحالة الإنسانية التي يتعين علىٰ الرجل توفيرها للمرأة وضرورة احترام حقوقها وحرمتها حتَّىٰ في فترة العدة، فإن للرجل مصالحة الزوجة وإعادتها إلىٰ صميمية الحياة الزوجية ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ وإذا لم تتحسن الأمور بينهما، فعليه إطلاق سراحها ضمن المعروف أيضاً ﴿أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ فإن ظاهرة الرجوع أو التسريح لابد أن تتم ضمن الإحسان وأن لا يخالط ذلك شيئاً من روح الانتقام، وإلّا فإنه من الظلم والعدوان الذي يحذّر الله سبحانه منه.

ونكمل تعداد الآيات التي يُفهم منها تمييز المرأة علىٰ الرجل ولكن بنحو إبراز عناصر نسوية ألمَع ذكرها القرآن الكريم واعتنىٰ بوصفها وأحاطها بالحفاوة والتفضيل علىٰ كثير من الرجال، من قبيل:

الخامسة: (أُم موسىٰ (عليه السلام)):

قال تعالىٰ: ﴿وَأَوْحَيْنا إِلىٰ أُمِّ مُوسىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ (القصص: 7).

كانت أم النبي موسىٰ (عليه السلام) امرأة مؤمنة وصاحبة نفس زكية، وقلب نقي، وكانت علىٰ دين آبائها يعقوب وإسحاق وإبراهيم (عليهم السلام).

تتميز أُم النبي بخصوصيات غير الخصوصيات الفطرية، لتكون مُختارة لظاهرة الاصطفاء والاجتباء لتكون رحماً للنبوة أو الرسالة، فهي علىٰ نحو من الاستعداد القابل لأن يستقبل رحمها للوجود الشريف، وهذا يستدعي كونه شريفاً أيضاً «أشهد أنك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة»، وقد أُحيطت أُم موسىٰ (عليه السلام) بعناية كشف عنها القرآن الكريم، فأوحىٰ إليها ربها سبيل النجاة من فرعون وجنده، وأرجع وليدها إليها سالماً ليبقىٰ في حضانتها، لتتميز بمنزلتها ومقامها الإيماني والرسالي عن كثير من الرجال – الأولين منهم والآخرين -.

السادسة: (أُم السيدة مريم (عليها السلام) حَنّة):

قال تعالىٰ: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفىٰ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَىٰ الْعالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثىٰ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَها رَبُّها…﴾ (آل عمران: 33-37).

تنتسب (أُم السيدة مريم (عليها السلام) حنّة) إلىٰ آل عمران، الذين أشار القرآن الكريم إلىٰ اصطفائهم ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفىٰ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَىٰ الْعالَمِينَ﴾، وقد جاء ذكر هذه السيدة في سياق الاصطفاء الإلهي لتكون إحدىٰ عناصر النخبة المساهمة في إيصال رسالة السماء، وقد كشف القرآن الكريم عن وعيها الإيماني والعبادي وملامح الورع والتقوىٰ لهذه الشخصية السامية من خلال:

بدأ القرآن الكريم حديثه عن تلك الشخصية بالثناء عليها بنحو عام ضمن إطار النساء علىٰ آل عمران المصطفين، الذين خَصَص لهم سورة (آل عمران) باسمهم يثني فيها عليهم ويذكر مناقبهم وذلك يكشف عن رفيع منزلتها عند ربها.

ثم يوضح القرآن الكريم كيف أن هذه المرأة الفاضلة رغم حرمانها من نعمة الإنجاب لفترة طويلة جداً لم يشغلها الفرح بنعمة الحمل عن شكر المنعم، وبنحو عملي لتتقرب إليه سبحانه بجعل هذا العطاء العزيز منذوراً لبيته سبحانه ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً…﴾ (آل عمران: 35)، ولن يصدر هذا الفعل إلّا ممن حرّر قلبه وهواه من غير الله تعالىٰ لتتسامىٰ علىٰ عواطف الأمومة وإبقاء وليدها بقربها وفي خدمتها لتحرره من ذلك وتجعله في خدمة المولىٰ تبارك وتعالىٰ.

ويمكن القول إن القرآن الكريم يقصد بتصويره تلك المواقف وتقريبها للناس أجمعين ليؤكد تقديره للتضحية والعطاء، ويقدم نموذجاً نسوياً كما قدم نموذجاً من الرجال متمثلاً في إبراهيم (عليه السلام)، وفي هذا دلالة علىٰ أن المرأة صنو الرجل، بل تغلبه في قسوة عاطفتها وتأجج مشاعرها عندما لا تكبّلها عن البذل.

السابعة: (زوجة فرعون):

قال تعالىٰ: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (التحريم: 11).

قد وردت الروايات في اصطفاء هذه السيدة لتكون إحدىٰ نساء العالمين، وذلك ليس حصراً بالنساء، فبالأولىٰ تقدّمها علىٰ الكثير من الرجال أيضاً.

عن رسول الله (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم): «كمُل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلّا أربع: آسية بنت مزاحم، امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم)».

وعنه (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم): «أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم)، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون».

وبدلالة الآية الكريمة ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ﴾، التي جعلتها أسوة وقدوة لمن آمن – من الرجال والنساء – ويلازم ذلك كونها أفضل وأشرف من الرجال، إذ لا معنىٰ لتقدّم المفضول علىٰ الفاضل.

الثامنة: (السيدة خديجة (عليها السلام) زوجة النبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم)):

قال تعالىٰ: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضىٰ * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوىٰ * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدىٰ * وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنىٰ…﴾ (الضحىٰ: 5-8).

جاءت هذه السورة المباركة تسلية لقلب النبي الأعظم (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) ببيان ألطافه سبحانه بنبيِّه (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم).

ومن ضمن تلك الألطاف أن جعلناك تستأثر باهتمام (خديجة (عليها السلام)) لتضع كل ثروتها تحت تصرّفك، ولا شك أن في ذلك شرافة نفسية للسيدة (عليها السلام) وليس بنحو الشرافة النسبية، إذ إنها لإيمانها وعبوديتها لخالقها، سلّمت ما تملك لنبيه لتسجل موقفاً نبيلاً وتاريخاً مشرقاً في نصرة الإسلام.

وقال تعالىٰ: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ…﴾ (الواقعة: 10-12).

وورد في التفسير أن السابقين هم من سَبقوا غيرهم بالإيمان وأعمال الخير… وهؤلاء الأسوة والقدوة للناس ولذلك هم من المقربين، وعلىٰ أساس الجري والانطباق فإن السيدة خديجة (عليها السلام) هي مصداق واضح لهذه الآية المباركة بعد أن كانت أول المصدّقين بالنبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) والمؤمنين بما دعا إليه، وبذلك تستحق المنزلة التي ذكرت لأصحاب هذا المقام وهي القدوة للأعم من الرجال والنساء.

وقد ورد طيب ذكرها ورفعة درجتها في كثير من الروايات، وعن النبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم): «أربع نسوة سيدات عالمهن: مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم)…»(19).

وعنه (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم): «أيها الناس ألا أخبركم بخير الناس جداً وجدةً»؟  فقال الحاضرون: نعم يا رسول الله (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم)، فقال: «الحسن والحسين جدهما رسول الله (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) وجدتهما خديجة بنت خويلد»(20).

ولا يخفىٰ دلالة «خير الناس» لتكون خديجة خير من الرجال.

التاسعة (مريم بنت عمران (عليها السلام)):

قال تعالىٰ: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ﴾ (التحريم: 12).

وقال تعالىٰ: ﴿فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ (آل عمران: 37).

وقال تعالىٰ: ﴿يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ (آل عمران: 43).

وقال تعالىٰ: ﴿وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلىٰ نِساءِ الْعالَمِينَ﴾ (آل عمران: 42).

ولا شك ذكرها بهذا النحو في كتابه العزيز يدل علىٰ منزلتها وتعظيمها وتبجيلها، حيث كانت كليمة الملائكة بأمر من الله سبحانه لتفضيلها، وفي الآية الأخيرة نجد التكرار في كلمة ﴿اصْطَفاكِ﴾ ففي الأولىٰ كانت لبيان الاصطفاء المطلق، وفي الثانية بيان لاصطفائها علىٰ نساء عالمها، وبذلك تكون مريم العذراء (عليها السلام) أفضل من الرجال بالاصطفاء المطلق.

العاشرة (فاطمة الزهراء (عليها السلام) بنت محمد (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم)):

1 – قال تعالىٰ: ﴿إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ﴾ (الكوثر: 1).

ذهب الكثير من أعلام الشيعة إلىٰ أن الكوثر هي (فاطمة الزهراء (عليها السلام))، لرواية سبب النزول، حيث جاء فيها أن المشركين وصموا النبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) بالأبتر، أي الشخص المعدوم العقب، فجاءت الآية لتقول ﴿إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ﴾ وبذلك نستنتج أن الكوثر وهو الخير الكثير هو فاطمة (عليها السلام) لأن ذرية النبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) الذين حملوا الرسالة وحفظوا الإسلام إنما كانوا من خلالها (عليها السلام) وهم الأئمة الاثنا عشر (عليهم السلام)، سيما وأن نسله (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) الذي انتشر في العالم قد ترشّح منها (عليها السلام).

2 – وقال تعالىٰ: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَىٰ الْكاذِبِينَ﴾ (آل عمران: 61)، وذكر أهل التفسير أن واقعة المباهلة فيها دلائل عدة، منها:

1 – إن الحق مع النبي محمد (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) والدين الذي يدعو إليه.

2 – عظمة ومكانة أهل البيت (عليهم السلام) الذين كان أحدهم فاطمة (عليها السلام) وقد اتفقت الروايات اختيار النبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) للمباهلة (علي وفاطمة والحسنان (عليهم السلام)).

فقد ذكر القاضي نور الله الشوشتري في كتابه (إحقاق الحق ج3، ص46) اتفاق المفسرين في أن ﴿أَبْناءَنا﴾ الحسنان، ﴿وَنِساءَنا﴾ فاطمة، ﴿وَأَنْفُسَنا﴾ علي (عليهم السلام).

وذكر أيضاً أسماء ما يقارب (60) عَلماً من كبار علماء أبناء العامة الذين اتفقوا علىٰ نزول آية المباهلة في أهل البيت (عليهم السلام).

3 – قوله تعالىٰ: ﴿إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ (الأحزاب: 33).

شخصت روايات كثيرة علىٰ المراد من ﴿أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ في الآية المباركة، ومن جملتها الرواية التي رواها الثعلبي عن أُم سلمة أن النبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) كان في بيتها إذ أتته فاطمة (عليها السلام) بقطعة حرير، فقال النبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم): «ادعي لي زوجك وابنيك الحسن والحسين» – فأتت بهم فطعموا، ثم ألقىٰ عليهم النبي (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم) كساء له خيبرياً، وقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي وعترتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً»، فنزلت آية التطهير، فقلت: يا رسول الله وأنا معهم؟ قال: «إنك إلىٰ خير ولكنك لست منهم»(21).

ومما ورد في تفسير هذه الآية المباركة دلالتها علىٰ عصمة أهل البيت (عليهم السلام)، ولا شك في أن هذا المعنىٰ يؤكد شرافة الزهراء (عليها السلام) وأفضليتها علىٰ الرجال والنساء جميعاً.

وأخيراً نشير إلىٰ عناوين آيات أخرىٰ قد نزلت في حق الزهراء (عليها السلام) بنحو مختصر:

4 – آية الإطعام: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً﴾ (الإنسان: 8).

5 – آية المودة: ﴿قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبىٰ﴾ (الشورىٰ: 23).

6 – آية القربىٰ: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبىٰ حَقَّهُ﴾ (الإسراء: 26).

7 – آية خير البرية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ (البينة: 7).

وغير ذلك من الآيات المباركات التي خصّت الوجود الفاطمي المبارك بالمنزلة والكرامة، إضافة إلىٰ عدد غفير من الروايات الواردة عن المعصومين (عليهم السلام) لم نذكر منها الكثير طلباً للاختصار ويمكن مراجعة المصادر الروائية في هذا المضمار، وكنموذج عليها هو التالي:

– عن رسول الله (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم): «لو لم يخلق الله علي بن أبي طالب، لما كان لفاطمة كفؤ»(22).

وتدل الرواية عن أفضلية الزهراء (عليها السلام) علىٰ الجميع ما عدا أبيها وبعلها (عليهم السلام).

– عن يونس بن ضبيان عن أبي عبد الله (عليه السلام): «لفاطمة تسعة أسماء عند الله (عزَّ وجلَّ): فاطمة، والصديقة، والمباركة، والطاهرة، والزكية، والراضية، والمرضية، والمحدّثة، والزهراء»، ثم قال: «أتدري أي شيء تفسير فاطمة»؟ قلت: أخبرني يا سيدي، قال (عليه السلام): «فُطمت من الشر»، ثم قال: «لولا أن أمير المؤمنين (عليه السلام) أفضل الخلق بعد رسول الله (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم)، ففاطمة (عليها السلام) كذلك»، وفي هذه الرواية دلالة علىٰ أفضليتها (عليها السلام) حتَّىٰ علىٰ الأنبياء السابقين (عليهم السلام).

– روي عن حماد بن عثمان، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «تظهر الزنادقة في سنة ثمان وعشرين ومائة، وذلك أني نظرتُ في مُصحف فاطمة (عليها السلام)»، قال: قلت: وما مُصحف فاطمة (عليها السلام)؟ قال: «إن الله تعالىٰ لما قبض نبيه (صلّىٰ الله عليه وآله وسلَّم)، دخل علىٰ فاطمة من وفاته من الحزن ما لا يعلمه إلّا الله (عزَّ وجلَّ)، فأرسل الله إليها ملكاً يُسلّي غمّها ويحدِّثُها، فشكت (عليها السلام) ذلك إلىٰ أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: إذا أحسستِ بذلك وسمعتِ الصوت قولي لي، فأعلمته بذلك، فجعل أمير المؤمنين (عليه السلام) يكتب كل ما سمع، حتَّىٰ أثبت من ذلك مُصحفاً».

قال: ثم قال: «أما أنه ليس فيه شيء من الحلال والحرام، ولكن فيه علم ما يكون»(23).

وأن هذا المصحف موروث للأئمة (عليهم السلام) وكانوا يعتمدون عليه، وفي ذلك دلالة علىٰ كونها حجة عليهم ولازمه أفضليتها (عليها السلام) علىٰ الأئمة (عليهم السلام).

 

 

 

الهوامش:


(1) إن تغير الحكم الذي نقبله ليس تغييراً للحكم الأولي فإن تغيير الموضوع ليس كذلك، وهكذا الحكم الولائي فهو ليس حكم شرعي مباشر.

(2) الأنسب تسميتها بنظرية (منطقة الاجتهاد) للأمن من اللبس الذي يوهمه عنوان الفراغ من نسبة النقص إلى الشريعة في إرادة المنظّر لهما، والواقع عدم إرادته (قدِّس سرّه) لهذا المعنى، بل هو لحاظ جهة المرونة التي فسحتها الشريعة المقدسة لتناسبها مع اختلافات الزمكان.

(3) كتاب أخبار عيون الرضا (عليه السلام)، (الثابت والمتغير في الأدلة النصية: ص299).

(4) محمد الحر العاملي – وسائل الشيعة: ص334، (الثابت والمتغير في الأدلة النصية: ص305).

(5) المصدر السابق: ص306.

(6) المصدر السابق: ص329.

(7) المصدر السابق: ص351.

(8) وسيأتي مزيد بيان في ص62، جواب الشبهة الخامسة.

(9) لمزيد من الاطلاع على المناهج القرآنية راجع موقع مكتبة المعارف الإسلامية – أساسيات علم التفسير – تأليف: مركز المعارف.

(10) مفهوم الحق (مقال للشيخ فيصل العوامي).

(11) موقع: مركز نهوض للدراسات والبحوث – الحق والواجب وإشكالية التكامل في النظر والواقع.

(12) موقع مركز نهوض للدراسات والبحوث – الحق والواجب وإشكالية التكامل في النظر والواقع.

(13) تفسير الميزان: ج4، ص343، ببعض التصرف.

(14) التشريع الجنائي في الإسلام – الموسوعة الشاملة.

(15) المرأة والقرآن حوارية في إشكالية التشريع – ماجد الغرباوي (نقلنا كلامه ببعض التصرف لتتضح عباراتهم).

(16) الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري: ص237-240، يمكن مراجعته وكذلك المصدر السابق لمزيد من الاطلاع والتفصيل.

(17) مصدر لفهم الفقه الذكوري: (ريتا فرج، أمراء الفقهاء وأمراء الحداثة، خطاب اللامساواة في المدونة الفقهية).

(18) وهو رد من اعترض على فهم الفقيه واتهمه بالخطأ والتأثر بثقافة الماضين والعادات، والجمود على النص بنحو يظلم المرأة ويستعبدها، فانتصر للدين على أساس عصمة مشرّعه ومبلّغه ونصّه لتبرئته من وزر الفقه الذكوري وإلقاء تبعة ذلك على الفقيه، فهو وحده من يتحمل خطيئة الحكم الذكوري، ولتحرير فهم النص المعصوم من مخالب فكره المتقوقع فيكون ذلك من خلال إزاحة وصف المقدس (غير القابل للرد) عن الفقيه والدعوة إلى أنسنته، لإبراز أحكام متغيرة تناسب تغير موضوع المرأة في جميع ملفاتها الساخنة.

(19) ذخائر العقبى – للمتقي الهندي: ص44؛ كنز العمال لابن حجر العسقلاني: ج12، ص155.

(20) بحار الأنوار: ج43، ص302.

(21) تفسير الأمثل: ج13، ص242.

(22) روضة الواعظين للنيسابوري: ص146.

(23) الكافي للكليني: ج1، ص240.

Scroll to Top