
تمهيد:
لا ريب في أنَّ الألفاظ قوالب للمعاني، تنقلها من ذهن إلىٰ آخر، وهي أرقىٰ وسيلة عقلائية لنقل العلوم الحضورية والصور الذهنية إلىٰ الآخر، بتحويلها إلىٰ علوم كسبية وتصويرها، فالألفاظ جسر لفهم وتفهيم المرادات بين العقلاء وما هو في دواخل أنفسهم ومكنوناتها.
ولا ريب في أنَّ هذه الوسيلة الراقية لم تسلم من الخلل أو المشاكل المعرفية، فقد يشتد النزاع بين طرفين في فكرة أو مفهوم ما، وبعد التأمُّل يتَّضح أنَّه كان مجرَّد نزاع (لفظي)، فما كان في خلدهما أمر واحد، إلَّا أنَّ اختلافهما في التعبير اللفظي عنه ولَّد ما توهمه أنَّه مشكلة، ولا نبالغ إن قلنا: إنَّ كثيراً من المشاكل المعرفية وقعت فريسة هذه النزاعات اللفظية.
ومما صُنِّف في مشاكل الألفاظ المعرفية هو اشتراكها اللفظي، حيث يكون اللفظ البنائي واحداً، إلَّا أنَّ ذلك اللفظ يعكس أكثر من وجه من المعاني، وتحديد المعنىٰ المقصود موقوف علىٰ قرائن لفظية أو حالية، كما ذكروا في محله.
وقد يتعمد بعض إيهام الآخر بإيراد لفظ مشترك، ليتمكَّن من المناورة بين المعاني، رياءً أو طلباً للرئاسة، أو حتَّىٰ لمجرَّد قضاء الوقت وإضحاك الآخرين!
إنَّ الاشتراك اللفظي واقع لا محيص عنه، وإن ادَّعىٰ بعضٌ عدم وقوعه في بعض المصادر، أو ادَّعىٰ بعضٌ خلو اللغة العربية منه، وعلىٰ كلِّ حال، ومن دون دخول في ذلك النزاع، فإنَّ الاشتباه في المعنىٰ المقصود من اللفظ – الذي لأحرفه أكثر من معنىٰ – واقع ملموس، ولا يُنكره ذو مسكة.
ومما وقع فيه الاشتباه – جهلاً مركباً أو عمداً – هو لفظ (الاجتهاد)، وعلاقته بمصدر التشريع حيث حمل بعضٌ علىٰ علماء المذهب الحق مذهب أهل البيت (عليهم السلام) بأنَّهم يُعملون اجتهادهم في مقابل النص، وهو الذي ذمَّته النصوص كثيراً، وغفل – أو تغافل – عن أنَّ للاجتهاد معنيين، وأن ما يقول به علماء المذهب الحق هو الذي دعا إليه أهل البيت (عليهم السلام) بألفاظ أخرىٰ، ولتبيين حقيقة الحال نذكر الآتي:
النقطة الأولىٰ: الاجتهاد لغةً واصطلاحاً:
الجهد: الطاقة… المشقة… وجهد الرجل في كذا، أي جد فيه وبالغ… والاجتهاد والتجاهد: بذل الوسع والمجهود…(1).
المعنىٰ اللغوي للاجتهاد واضح في أنَّه يعني بذل الجهد والوسع، من دون تعليق علىٰ متعلِّقٍ ما، فكل جهد مبذول في شيء ما فهو اجتهاد.
والاجتهاد اصطلاحاً – بالمعنىٰ المعمول به في مذهب أهل البيت (عليهم السلام) – لا يخرج عن هذا المعنىٰ اللغوي، سوىٰ أنَّ متعلقه الحكم الشرعي، فالاجتهاد عندنا هو بذل الجهد والوسع في استنباط الحكم الشرعي من مصادره الشرعية: القرآن الكريم، والسُنَّة الشريفة.
والشيعة في ذلك يستندون إلىٰ أدلَّة خاصَّة، مثل ما روي عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إنَّما علينا أن نُلقي إليكم الأُصول، وعليكم أن تُفرِّعوا»(2).
وللمجتهد شروط لا يمكن حصولها إلَّا بعد بذل جهد جهيد ووقت طويل، والالتزام بالورع والتقوىٰ، وفهم ومعايشة القرآن الكريم وأحاديث السُّنَّة الشريفة لسنوات طوال، وفوق كل ذلك التوفيق والتسديد الإلهي.
النقطة الثانية: الاشتراك اللفظي في الاجتهاد:
للاجتهاد في التراث الإسلامي معنيان، يشتركان باللفظ، ويختلفان بالمعنىٰ تماماً، وللاختصار ننقل ما سطَّره السيد المرعشي، حيث قال:
(كما اختلف معناه عند السُنَّة والشيعة، فإنَّه في مدرسة أبناء العامّة جعل الاجتهاد في عرض النصّ من الكتاب والسُنَّة، فيفتي أوّلًا بهما وإلَّا فبرأيه الاجتهادي ولو مثل القياس والمصالح المرسلة الظنّية التي لا تغني من الحقّ شيئاً، حتَّىٰ أدَّىٰ الأمر أن اجتهدوا في مقابل النصّ، فحرَّموا ما كان حلالًا في زمن الرسول الأعظم (صلَّىٰ الله عليه وآله) كتحريم المتعتين، وقتلوا سيّد الشهداء سبط رسول الله الحسين بن علي (عليهما السلام) اجتهاداً من يزيد شارب الخمور سفّاك الدماء.
وعلىٰ مثل هذا الاجتهاد بالرأي الذي امتاز به أصحاب المدرسة السُنّية شنَّ أئمة أهل البيت (عليهم السلام) هجوماً عنيفاً، وتبعهم علىٰ ذلك رواتهم وأصحاب مدرسة المذهب الإمامي من العلماء الأعلام حتَّىٰ القرن السابع، إلَّا أنَّ العلَّامة الحلَّي (قدّس سرّه) المتوفّىٰ (676 هـ) هذَّب الاجتهاد وفتح باباً جديداً فيه وجعله في طول النصّ، وأنَّه عبارة عن عملية الاستنباط، أي استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلَّتها التفصيلية من الكتاب والسُنَّة والإجماع والعقل، ثمّ توسّع هذا الاجتهاد، ممّا أوجب التوسّع في علم أُصول الفقه الذي يبتنىٰ عليه الفقه، لما فيه من القواعد العامّة والكبريات والعناصر المشتركة السيّالة في كلِّ الفقه، وصار الاجتهاد عبارة عن عملية تفاعل بين الفقه وأُصوله من أجل استنباط الحكم الشرعي.
وكان الاجتهاد مفتوح الباب في المدرسة الشيعية، يتقدَّم ويتطوَّر بتقدُّم العلم وتطوُّر الزمان، فيزاد علىٰ ثروته العلمية والعملية، وتثرىٰ مباحثه ومحتوياته بين آونة وأُخرىٰ)(3).
وهذا النص واضح في أنَّ بين الاجتهاد لدينا والاجتهاد لدىٰ العامة فرقاً شاسعاً، والذي يهمُّنا هو بيان معنىٰ الاجتهاد لدىٰ الشيعة الاثني عشرية، حتَّىٰ تتَّضح حقيقة التهمة الآنف ذكرها.
النقطة الثالثة: معنىٰ الاجتهاد لدىٰ الشيعة الاثني عشرية:
بدايةً نقول: إنَّ مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم يبتني علىٰ ثوابت، يتبيَّن من خلالها موضع الاجتهاد في منظومتهم المعرفية والدينية، وهي باختصار:
الثابت الأوَّل: انحصار حق التشريع بالله (عزَّ وجلَّ):
فلا حكم إلَّا لله تعالىٰ، كما يصرِّح القرآن الكريم بذلك، حيث يقول تعالىٰ: ﴿قُلْ إِنِّي عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ﴾ (الأنعام: 57).
الثابت الثاني: محورية الوحي في تشريعات النبي (صلىٰ الله عليه وآله):
فالنبي الأكرم (صلَّىٰ الله عليه وآله) ليس مجتهداً من عند نفسه شخصياً، وإنَّما هو مشرِّع بإذن الله تعالىٰ، كما يصرِّح القرآن الكريم بذلك حيث يقول تعالىٰ: ﴿وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحىٰ إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىٰ وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأعراف: 203).
الثابت الثالث: ضرورة طاعة الله تعالىٰ والرسول (صلَّىٰ الله عليه وآله) وأولي الأمر (عليهم السلام):
وهو ما دلَّت عليه النصوص التي أمرت بالطاعة المطلقة – ومن دون قيد – لله تعالىٰ ولرسوله ولأولي الأمر، والإطلاق لا يصح إلَّا مع افتراض العصمة، كما هو عليه المذهب الحق.
قال تعالىٰ: ﴿يا أَيـُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَىٰ اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ (النساء: 59).
الثابت الرابع: الفقاهة في الدين:
فالقرآن الكريم يصرِّح بأنَّ علىٰ المؤمنين أن يعملوا علىٰ إيجاد مجموعة منهم، شغلهم الشاغل هو التفقه في الدين، وأنَّ علىٰ هذه المجموعة أن تسعىٰ لتحصيل ذلك ولو بالسفر عن بلادهم إلىٰ بلاد العلم والفقاهة، حتَّىٰ إذا ما تجهَّزوا بالفقه اللازم رجعوا إلىٰ أهلهم وبلادهم ليبيِّنوا لهم الدين.
قال تعالىٰ: ﴿وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة: 122).
ووفق هذه التراتبية، فإنَّ المطلوب من الفقهاء (وهم من أُطلق عليهم فيما بعد بالمجتهدين) أن يبذلوا قصارىٰ جهدهم في تحصيل الحكم الشرعي، باستنطاق النصوص الشرعية – القرآن الكريم والسُنَّة الشريفة – لأجل الوصول إلىٰ قناعة مستدلة علىٰ الحكم الشرعي المظنون.
ومن ثم، فالاجتهاد ليس عملية تشريع حكم شرعي، وإنَّما هو عملية البحث عن الحكم الشرعي.
وبعبارة أخرىٰ: أنَّ واحداً من الأُسس المهمة التي عمل الفكر الشيعي علىٰ تأصيلها وترسيخها في منظومته الفكرية، هي مسألة التراتبية الطولية بين موضوعتي التشريع والاستنباط، وأنَّ المستنبط والمجتهد ليس له أي دور في جعل وإيجاد وتكوين التشريعات، بل ينحصر دوره كليًّا في فهم ما يلقيه عليه الشارع، وبيان تلك التشريعات وتنزلاتها وتطبيقاتها.
وهذا يعني: أنَّ المجتهد مهما عظم علمه، فإنَّه عيال وفي طول علم المعصوم، ولا يتجاوزه، ولا يفرض عليه شيئاً معيَّناً.
هذا في الاجتهاد الشيعي.
أمَّا الاجتهاد عند العامة، فهو معنىٰ يختلف تماماً عن هذا المعنىٰ، فإنَّه يعني أنَّ المجتهد إذا لم يجد نصاً شرعياً علىٰ مسألةٍ ما، فإنَّ له أن يُعمل رأيه واستحساناته وما يراه مناسباً في المسألة، وحتَّىٰ لا يتورَّطوا في مخالفة الحكم الشرعي الواقعي، ذهبوا إلىٰ نظرية التصويب، التي تعني أنَّ المجتهد دائماً مصيب في حكمه، وهو لا يُتصوَّر إلَّا بافتراض أنَّ الواقع التشريعي يتغيَّر بتغيُّر فتوىٰ ورأي المجتهد، كما فُصِّل في محلِّه.
ولا يُهمُّنا أن نتعرَّض كثيراً للاجتهاد لدىٰ الطرف الآخر، بعد أن بيّنا حقيقة الاجتهاد لدينا، علىٰ أنَّ بعض النصوص كشفت عن طريقة الاجتهاد لدىٰ الآخر، وبيَّنت خواءه وهزاله، ومن ذلك ما روي عن الإمام جعفر بن محمد (صلوات الله عليه) أنَّه قال لأبي حنيفة – وقد دخل عليه -، قال له: «يا نعمان، ما الذي تعتمد عليه فيما لم تجد فيه نصًّا من كتاب الله ولا خبراً عن الرسول (صلىٰ الله عليه وآله)»؟
قال: أقيسه علىٰ ما وجدت من ذلك.
قال له: «إنَّ أوَّل من قاس إبليس فأخطأ إذ أمره الله (عزَّ وجلَّ) بالسجود لآدم (عليه السلام)، فقال: أنا خيرٌ منه، خلقتني من نار وخلقته من طين، فرأىٰ أنَّ النار أشرف عنصراً من الطين، فخلَّده ذلك في العذاب المهين، أي نعمان، أيُّهما أطهر المنيُّ أم البول»؟
قال: المنيّ.
قال: «فقد جعل الله (عزَّ وجلَّ) في البول الوضوء وفي المنيّ الغسل، ولو كان يحمل علىٰ القياس لكان الغُسل في البول، وأيُّهما أعظم عند الله، الزنا أم قتل النفس»؟
قال: قتل النفس.
قال: «فقد جعل الله (عزَّ وجلَّ) في قتل النفس شاهدين وفي الزنا أربعة، ولو كان علىٰ القياس لكان الأربعة الشهداء في القتل، لأنَّه أعظم، وأيُّهما أعظم عند الله، الصلاة أم الصوم»؟
قال: الصلاة.
قال: «فقد أمر رسول الله (صلىٰ الله عليه وآله) الحائض أن تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة، ولو كان علىٰ القياس لكان الواجب أن تقضي الصلاة، فاتَّق الله يا نعمان، ولا تقس، فإنَّا نقف غداً، نحن وأنت ومن خالفنا، بين يدي الله، فيسألنا عن قولنا، ويسألكم عن قولكم، فنقول: قلنا: قال الله، وقال رسول الله، وتقول أنت وأصحابك: رأيْنا وقِسْنا، فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء»(4).
والحاصل:
إنَّ الشيعة يجعلون المرجعية أوَّلاً للرسالة والرسول، ثم للإمامة والإمام، وهذه الإمامة مستمرة غير منقطعة إلىٰ يوم القيامة، نعم، في عصر الحضور فالرجل الأوَّل هو المعصوم لا غير، والفقيه يكون وكيلاً عن الرجل الأوَّل وهو المعصوم، أمَّا في ظرف غيبة المعصوم، فالفقيه يكون الرجل الأول لكن بالوكالة لا بالأصالة؛ اعتماداً علىٰ ما ورد عن المعصوم نفسه من إرجاع الناس إلىٰ الفقيه بالتقليد.
أمَّا العامة، فالمرجعية لديهم بعد سُنَّة النبي (صلىٰ الله عليه وآله) إلىٰ الاجتهاد الشخصي، بمعنىٰ الرأي الشخصي، بالمعنىٰ الذي بيَّنه النص السابق في حديث الإمام الصادق (عليه السلام) مع أبي حنيفة، وفرق واضح بين المعنيين.
إنَّ الكلام في بيان الفروق المنهجية والبنيوية بين معنيي الاجتهاد طويل الذيل، وهذا مختصرٌ سريع يفيد في تنقيط الفرق الأساسي بينهما، وهو كافٍ لمن طلب الحقيقة من دون تعصب.
(1) الجوهري – الصحاح (ج2، 462 – 462 مادة: جهد).
(2) مستطرفات السرائر لابن إدريس: 575.
(3) القول الرشيد في الاجتهاد والتقليد: ج1، ص127 و 128.
(4) دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي: ج1، ص91.


