
الحمد لله كما هو أهله وصلاته وسلامه علىٰ خير خلقه وأشرف بريَّته أبي الزهراء محمد وآله الطاهرين.
مقدمة:
لا أراني بحاجة إلىٰ بسط الكلام حول أهمية العلم والمعرفة، فهذا مما لا يختلف عليه اثنان، بل حتَّىٰ فاقد العلم أراه علىٰ معرفة تامة بأهمية العلم، بل لعلَّه أكثر إحساساً بضرورة العلم وأهميته، حيث إنَّه يفتقد طعم العلم عملياً عبر تذوق فقدانه، فالعلم غاية يتسابق العالَم علىٰ نيل أعلىٰ المراتب فيها.
وحتَّىٰ نعرف قيمة وحجم علم أي إنسان فنحن أمام أحد طريقين وبنحو مانعة الخلو:
الأوَّل: شهادة أصحاب الخبرة في ذلك الحقل بأنَّه عالم به.
والثاني: نتاج ذلك الشخص وعطاؤه العلمي.
وإذا طبَّقنا ذلك علىٰ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقد ثبت حجم علمه، بل أعلميته بعد رسول الله (صلَّىٰ الله عليه وآله) بكلا الطريقين، أمَّا بحسب الطريق الأول فقد قال رسول (صلَّىٰ الله عليه وآله) في حقه: «أنا مدينة العلم، وعليٌّ بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب»(1).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) عن كيفية ومقدار العلم الذي أخذه من رسول الله (صلَّىٰ الله عليه وآله): «إنَّ رَسولَ اللهِ (صلَّىٰ الله عليه وآله) عَلَّمَني ألفَ بابٍ مِنَ الحَلالِ وَالحَرامِ، ومِمّا كانَ ومِمّا يَكونُ إلىٰ يَومِ القِيامَةِ، كُلُّ بابٍ مِنها يَفتَحُ ألفَ بابٍ، فَذلِكَ ألفُ ألفِ بابٍ حَتَّىٰ عُلِّمتُ عِلمَ المَنايا وَالبَلايا وفَصلَ الخِطابِ»(2).
فهذه شهادات بأنَّه (عليه السلام) صاحب علم عظيم ومميز، بل هو الأعلم بعد رسول الله (صلَّىٰ الله عليه وآله).
وأمَّا بحسب الطريق الثاني وهو النتاج، فما من علمٍ إلَّا وانتهىٰ إلىٰ علي بن أبي طالب (عليه السلام) وانتسب إليه، حتَّىٰ قال الخليل بن أحمد النحوي عندما تحدَّث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال: (احتياج الكل إليه واستغناؤه عن الكل دليل علىٰ أنَّه إمام الكل)(3).
لذا نسعىٰ في مقالتنا هذه إلىٰ ارتشاف شيء يسير جدًّا من معين علي بن أبي طالب العذب حتَّىٰ نروىٰ من عين معرفته في نظره إلىٰ أهمية العلم ومكانته.
وقد تناول هذا المقال ثلاثة أحاديث لأمير المؤمنين (عليه السلام) في العلم وتأمَّلتُ فيها، فوجدتها أجزاءَ لوحة رائعة في تحديد هوية ومسار ونتاج العلم، فما كان مني إلَّا أن وضعت تلك الأجزاء في أماكنها فكانت بهذا الشكل.
الحديث الأوَّل:
روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنَّه قال: «الْعَامِلُ بِجَهْلٍ كَالسَّائِرِ عَلَىٰ غَيْرِ طَرِيقٍ، فَلَا يُجْدِيهِ جِدُّهُ فِي السَّيْرِ إِلَّا بُعْداً عَنْ حَاجَتِهِ»(4).
حيث نجد الإمام (عليه السلام) ينبِّه هنا إلىٰ خطورة الجهل الذي هو ضد العلم بالضرورة، فلا يصح العمل بنظر الإمام علي (عليه السلام) إلَّا بعد العلم، لأنَّ العمل الذي هو نتاج العلم وهو الغاية والخطوة الأخيرة من العلم، ولا يمكن لها أن تكون خطوة سليمة تلامس الواقع إلَّا إذا كانت عن علم ومعرفة وإلَّا فلا يزيدها الجهل إلَّا بُعداً عن هدف الإنسان المنشود وغايته.
الحديث الثاني:
رُوِيَ عنه (عليه السلام) أنَّهُ قال: «عَلَيْكُمْ بِالدِّرَايَاتِ لَا بِالرِّوَايَاتِ، هِمَّةُ السُّفَهَاءِ الرِّوَايَةُ وَهِمَّةُ الْعُلَمَاءِ الدِّرَايَةُ»(5).
وهنا انتقل أبو الحسن (عليه السلام) إلىٰ مرحلة أعلىٰ من سابقتها حيث فرق بين أصحاب العلم الحقيقي وبين من يدَّعي أنَّه عالم لكنه بعيد عن العلم.
فجعل العلماء هم من كانت همَّتهم معرفة الفكرة والإحاطة بها والوقوف علىٰ دقائقها وبُناها التحتية، وقد عبّر عن ذلك بـ(الدراية).
مع الالتفات إلىٰ أنَّ الإمام ليس في صدد ذم كل رواية فإنَّ من العلوم ما يُروىٰ ويُنقل عن أصحاب الخبرة فيه وإنَّما الإمام (عليه السلام) كان في صدد بيان أمرين:
الأوَّل: أن لا يُكتفىٰ بالرواية مجردة عن إعمال الفهم والعقل فيما يُروىٰ، بل يجب إعمالهما حتَّىٰ في الرواية، ولا يصح نقل كل شيء لمجرد أنَّه قيل.
الثاني: كان (عليه السلام) في صدد بيان الفارق في الهمَّة بين من يكتفي بنقله عن الآخرين وبين من يكون صاحب دراية وفكر وتعقل.
الحديث الثالث:
روي أنَّ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيُّ (رضي الله عنه) دخل عَلَىٰ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فَقَالَ له أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «يَا جَابِرُ، قِوَامُ هَذِهِ الدُّنْيَا بِأَرْبَعَةٍ: عَالِمٌ يَسْتَعْمِلُ عِلْمَهُ، وَجَاهِلٌ لَا يَسْتَنْكِفُ أَنْ يَتَعَلَّمَ، وَغَنِيٌّ جَوَادٌ بِمَعْرُوفِهِ، وَفَقِيرٌ لَا يَبِيعُ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ»(6).
هنا في هذا الحديث انتقل أمير المؤمنين (عليه السلام) إلىٰ مرحلة ثالثة:
وهي تحويل العلم إلىٰ عمل والذي يعتبر ثمار العلم ونتاجه والغاية منه لأنَّ العلم رغم أهميته الكبيرة وفضيلته العالية، لكنه ليس غاية بذاته ولا تظهر فضيلته في ذاته، وإنَّما تكون له قيمة وفضيلة إذا تحوَّل إلىٰ عمل ونتاج ولامس الواقع من خلال اكتشاف الواقع أو تقنين الواقع أو إضافة واقع جديد، لأنَّ عمل الإنسان كله مع الواقع وليس مع غيره، فيكون الواقع هو الأساس في كل شيء وبه تُقاس الأشياء كما هو واضح.
ومن جهة أخرىٰ علىٰ المتعلِّم أن لا يتكبَّر في تعلُّمه علىٰ العلوم أو الأشخاص، فمتىٰ ما تكبَّر ووجد نفسه أعلىٰ من الآخرين، حينها حكم علىٰ نفسه بالجمود والبقاء فيما هو فيه، ولن يتقدَّم ولن يتكامل، وهذه أشد آفةٍ تُصيب الإنسان تسد عليه طريق التعلم.
الخاتمة:
من خلال ما تقدَّم في لوحة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) يتَّضح لنا مراحل ثلاث للعلم، ففي المرحلة الأولىٰ كان الإمام (عليه السلام) في صدد بيان ضرورة تحقيق الهدف، وأنَّ الجهل يُبعد الإنسان عن هدفه، ثم بعد ذلك بيَّن (عليه السلام) ماهية العلم وحقيقته التي تُساعد علىٰ تحقيق الهدف، فكانت عبارة عن علم نابع عن دراية ثم انتقل (عليه السلام) في المرحلة الثالثة إلىٰ تحويل ذلك العلم الذي كان عن دراية إلىٰ عمل وأنَّ ذلك يعتبر ضرورة إلىٰ درجة أنَّ قوام الحياة به، فقال: «يَا جَابِرُ، قِوَامُ هَذِهِ الدُّنْيَا بِأَرْبَعَةٍ: عَالِمٌ يَسْتَعْمِلُ عِلْمَهُ…».
(1) المستدرك علىٰ الصحيحين – الحاكم النيشابوري: ج3، ص126.
(2) الخصال: ج2، ص643، أبواب الثمانين وما فوقه، ح22.
(3) عبقرية الإمام: ص138.
(4) عيون الحكم والمواعظ – لعلي بن محمد الليثي الواسطي، المتوفىٰ في القرن السادس الهجري: 55.
(5) كنز الفوائد: ٢ / ٣١؛ ونقل عنه في بحار الأنوار: ١ / ١١٢.
(6) بحار الأنوار.

